الثلاثاء، 15 فبراير 2022

ذو النورين عثمان بن عفان



ذو النورين عثمان بن عفان (المكتبة العصرية)/على العهد 
 
[15] عَلِم قرَّاء هذه التراجم وجهتنا التي نتجه إليها في كتابتها، ولا نحسب أن أحدًا ممن تتبعوها — أو تتبعوا معظمها ينتظر منها بحثًا غير بحوثها التي عنيناها، فليس يعنينا منها سرد الحوادث ولا استقصاء البيان عن فترة من السنين، وإنما يعنينا من الحادثة التي نعرض لها ومن الفترة التي نستبينها أنها وسيلة إلى مقصد واحد: وهو التعريف بالنفس الإنسانية في حالة من أحوال العظمة والعبقرية، أو حالة من أحوال النبل والأريحية، فإن جاوزنا هذا المقصد إلى غيره فإنما نجاوزه لجلاء فكرة تحيط بأطوار التاريخ الإنساني، وتُخْرِجه من غِمَار التِّيه والظلمة، وتسلك به مسلكًا غير مسلك التخبط والضلال.
•••
ونحن نقيس أثر هذه التراجم بمِقْيَاسين متقابلين، بل متعارضين متناقضين، ولكنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة.
نقيس أثرها بالرضى والقبول من الموافقين، ونقيسه بالسخط والنفور من المخالفين، وكلاهما دليل على أثر نغتبط به ونستزيد منه، دليل على أن التراجم رمية أصابت مرماها، وهذا كل ما نبغيه.
ومن الملاحظات التي نغتبط بها خاصة أن جانب الرضى عن هذه التراجم غير مقصور على أبناء دين واحد أو أبناء نِحْلة واحدة. فتراجمنا لعظماء الإسلام قد اطلع عليها وتتبعها أناس كثيرون ممن لا يدينون بالإسلام، وترجمتنا لغاندي قد كان أكثر قرائها من المسلمين، وهؤلاء وهؤلاء قد عرفوا وجهتها ولم يخرجوا بها عن سبيلها؛ فليست النفس الإنسانية ملكًا لأبناء دين واحد، وما من شيء يجعل للدين نفسه معنى إن لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة وذات علاقة أصيلة بهذا الوجود أجمع، فلا يَضِل معتقد عن هُدَى عقيدته حين [16]يؤمن بجانب من جوانب عظمتها، أو جانب من جوانب النبل والأريحية فيها. والسؤال الذي يسأله من يعرف المسألة كلها هو: 

-- هل تستحق الحياة أن نحياها؟ .. فإن كانت حياة الإنسان أهلًا للثقة بها والإيمان بقدرها؛ فالجواب: نعم، وإن لم تكن كذلك؛ فلا جواب للسؤال غير اليأس والضياع والانحلال، بل نحن نرى أن الشَّاكين والمترددين يثوبون إلى طريق الأمل والرجاء كلما لمسوا للنفس الإنسانية جذورًا عميقة في أصول الحياة، وهذه الجذور نلمسها لمسًا كلما علمنا أن النفس الإنسانية قابلة لعمل عظيم، وكلما علمنا أن قوة الاعتقاد بالخير هي نفسها عمل عظيم. وليس الخلاف إذن بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة؛ ولكنه خلاف بين حياة لها جذور وحياة مُستأصَلة من جميع الجذور، وهو بعبارة أخرى خلاف بين حياة لها معنى وحياة فارغة من كل معنى، ولو كان هذا المعنى من مخترعاتها المُلفَّقة وأباطيلها المزجاة.
•••
نقيس أثر هذه التراجم بالرضى من هؤلاء المؤمنين بمعنى الحياة وهؤلاء الباحثين عن معناها.
ونقيسه كذلك بسخط الساخطين وغيظ المحنقين، وكلما اشتد هذا السخط واضطرم هذا الغيظ؛ علمنا موقع الرمية من الهدف الصميم، فهو موقعها الذي أصبنا به المقتل من ذلك المعسكر الذي يُسمي نفسه بمختلف الأسماء، ولا يصدق عليه اسم كما يصدق عليه اسم أعداء الإنسان.
وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال، وقد سُمِّي بأعداء النوع الإنساني قديمًا معاشرٌ من الخلق كانوا يكرهون النعمة، ويعافون السرور، ويتجنبون معاشرة الناس، ولكنها تسمية لم تكن على صواب؛ لأنهم كرهوا النعمة وعافوا السرور؛ إيمانًا بنعمة أشرف من جميع النعم، وشوقًا إلى مسرَّة أرفع من جميع المسرات، ثم تجنبوا معاشرة الناس؛ نُبوًّا بضمائرهم عن العيش الذي لا يعرف النعم والمسرات إلا في أحضان الرذائل والشهوات، فمن شاء فليُسَمِّ هؤلاء المتزمتين بما شاء من الأسماء إلا أن يسميهم بأعداء الإنسان. [17]السرور؛ إيمانًا بنعمة أشرف من جميع النعم، وشوقًا إلى مسرَّة أرفع من جميع المسرات، ثم تجنبوا معاشرة الناس؛ نُبوًّا بضمائرهم عن العيش الذي لا يعرف النعم والمسرات إلا في أحضان الرذائل والشهوات، فمن شاء فليُسَمِّ هؤلاء المتزمتين بما شاء من الأسماء إلا أن يسميهم بأعداء الإنسان.
أما أعداء النوع الإنساني حقًّا فهم الحريصون على تصغير كل عظيم فيه، الملوِّثون لكل صفحة نقية من صفحاته، العاكفون على هدم كل ما بناه في تاريخه الطويل من قيم الأخلاق وعقائد الخير والفلاح، الذين يعملون ما لا يعمله إلا عدو مُغِير على الأرض يتعقب بقايا أهلها، كما يتعقب العدو اللدود جنسًا من ألد الأعداء لجنسه، فلا يسرُّه شيء كما يسره أن يرجع إلى ماضيه وحاضره بالتشويه والتخريب، وذم الحميد منه وتسجيل الذميم المعيب.
•••
ويبلغ المسخ بهؤلاء المساكين أنهم يخلصون في بغضائهم إخلاص الجنسين المتعاديين بالطبيعة؛ فلا يقنعون بما يجدونه من العيوب والأدناس، بل يتجسسون عليها ويلحون في تأويلها، ولا يطيب لهم شيء كما يطيب لهم أن يبطلوا الثناء على بطولة البطل وتفدية الشهيد وإيثار الكريم، فيردوه إلى الزراية والمهانة، وتعليل الأمور بأسوأ العلل، وتفسيرها بأقبح البواعث والأغراض … ومثل هذه اللجاجة في تلطيخ تراث الإنسانية كله بالأوزار والأدناس لا تصدر إلا من طبع سقيم وخليقة عوجاء، فيجوز لكل صاحب عقل أن يفهم بعقله علل الأعمال: سامية أو مُسِفَّة، وعامة أو خاصة، ومخلوطة بالأثرة أو خالصة للإيثار، ولكن الهيام بتحقير كل عظيم واتهام كل ثناء، والحماسة المتشنجة لتغليب الخسة على النبل، ونبش السمعة المأثورة عن جراثيم النتن والقذى؛ ليس المرجع فيه إلى فهم ودراسة، ولكنه يرجع إلى مسخ في الكيان يسلخ المبتلى به في مسالخ العدو [18]المبين لنوع الإنسان. وما كان في وسع إنسان حي أن يسيغ الحياة كما يريدها هؤلاء المسخاء المنكودون، ولكنهم فقدوا الثقة بالحياة المثلى؛ فعوضوها ببديل منها لا يُغني عنها إلا إلى حين. إن المنحدر من القمة إلى الهاوية يتحرك في انحداره، بل يتحرك سريعًا إلى قراره، وهو في حركته هذه أسرع من الصاعد إلى القمة … بجهده وهدايته، وأسبق منه جدًّا إلى غايته بل نهايته. إلا أنها حركة المصاب بالحركة على الرغم منه، فلا وجه للمقابلة بين الصاعد المجاهد والهابط المقذوف كما ينقذف الجلمود، وإن لاح لمنْ يراهما أنهما متحركان وأن الهابط منهما أقدر من الصاعد على العَدْوِ والجريان.
وقد امتلأ مكان الثقة من نفوس هؤلاء المسخاء بسخائم المقت والكراهية؛ فكانت لهم عوضًا بئس العوض، كانت لهم عوضًا كعوض الحركة الهابطة من الحركة الصاعدة، وليس أدل على ضرورة الثقة للإنسان في اجتماعه وانفراده من حاجة هؤلاء إلى تعويضها بذلك الثمن الثقيل، وإنه لجِدٌّ ثقيل في الحقيقة، فإنه لهو الانتحار بغير إرادة الانتحار.
ونحمد الله على نصيبنا من هذه الكراهية كما نحمده على نصيبنا من تلك الثقة، فهذه وتلك كلتاهما مقياس صادق لأثر هذه التراجم التي نزيدها اليوم ترجمة جديدة، وسنزيدها بمشيئة الله؛ كلما اتسع الوقت وأحسسنا الرضى من هنا والكراهية من هناك.
•••
إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيمًا بمَزْية، وعلَمًا من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟
[19] ليقل مَنْ شاء مِنْ فلاسفة التاريخ ما يشاء في التعليل والتحليل والتلخيص والتفصيل، فمهما يقل القائلون، ومهما يشرح الشارحون؛ فليس من السهل على عقل رشيد أن يزعم أنها كلها خدعة وَهْمٍ في رءوس أناس جاهلين . ولا حاجة هنا إلى الفلسفة ولا إلى الحذلقة[1] ولا إلى الجدل الطويل، فالقول الفصل بعد كل قول ووراء كل شرح: إن الوهم الخادع في رءوس الجاهلين خير ألا يكون، وماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لو حذفنا منه هذه العوامل الحية، وقلنا مع القائلين: إنها وهْم من الأوهام كان خيرًا لها أنه لم يكن ولم يكن بعده ما جرى في مجراه؟ .
وفي هذه السيرة على ما نرجو، وعلى خلاف ما يخطر في بال الكثيرين لأول وهلة، شواهد على هذه العِبْرة الكبرى أكبر من شواهد أخرى، فلعلها لا تبرز لنا عبقرية كعبقرية الصديق أو الفاروق أو الإمام، ولكنها تبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تُطوى، ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث غير باعث العقيدة والإيمان.
* * *
حذلق الرجل وتحذلق : اذا أظهر الحذق فادعى أكثر مما عنده
تصنيف:
ذو النورين عثمان بن عفان
========
ذو النورين عثمان بن عفان (المكتبة العصرية)/بين القيم
[20]ربما كانت سيرة الخليفة الثالث — ذي النورين — أوفى السير بالشواهد على الخصائص التي تلازم تاريخ العقيدة في أطوارها الأولى، ولا سيما أطوار التحول في طريق الاستقرار..
وأبرز هذه الخصائص في تاريخ العقيدة أنه تاريخ قيم ومبادئ، وليس بتاريخ وقائع وأحداث..
فالوقائع والأحداث تتشابه في العصور المتطاولة، ولو أننا تخيلناها معروضة في الصور الصامتة؛ لما وجدنا من فارق يُذكر بين الوقائع والأحداث التي تفصلها من مسافة الزمن آلاف السنين، ومن مسافة المكان آلاف الفراسخ، كلها صورة متكررة من حيث ظواهرها وأغراضها البادية للعيان، ولكنها تختلف اختلافًا بعيدًا حين ننفذ من ظاهرها إلى باطنها، أو حين ننفذ من حركاتها المكشوفة إلى القيم النفسية التي تكمن [1] وراءها، وإلى الدعاوى التي تدور عليها، ولو كانت من دعاوى المبطلين التي يصدق عليها في بعض الأحايين أنها كلمات حق أُرِيْدَت بها أباطيل..
فالحوادث التي تدور على طلب السطوة [2]، غير الحوادث التي تدور على طلب الحرية، ولو كان طلب الحرية أكذوبة يتعلل بها المتعلل لغاية في نفسه يسترها ويعلن ما عداها..
فإذا كان المتعلل بالحرية مبطلًا في دعواه؛ فهناك فارق صحيح بين المعارك التي تذكر فيها الحرية حقًّا أو باطلًا، والمعارك التي لا ترد فيها على لسان أحد ولا تخطر بباله، فلولا أنها أصبحت شيئًا يهتم به الناس ويتنازعونه؛ لما ذكرها الصادقون ولا المبطلون، ومتى أصبحت الحرية قيمة من القيم المحسوبة في حياة الأمم؛ فهناك دليل عليها ممن يتعلل بها صادقًا ويتعلل بها كاذبًا؛ ليخدع الناس بها عما يريده من ورائها.
[21] وفي سيرة عثمان رضي الله عنه صدمة عنيفة تواجه كل باحث في تاريخ صدر الإسلام، وتلك هي قتلته البشعة وهو شيخ وقور جاوز الثمانين.
لم يكن عثمان أول خليفة قُتِل، فإن الفاروق عمر بن الخطاب قُتِل قبله غيلة وهو يقيم الصلاة.
ولكن مقتل عمر لم يكن صدمة في تاريخ العقيدة … قتله غلام دخيل على الإسلام، ومن ورائه عصابة تدين بغير دينه، وتكره منه ما عمله لإقامة ذلك الدين، فلا غرابة ولا صدمة، ولا شيء فيه غير الفاجعة التي تفجع نفوس المسلمين.
أما تلك القتلة البشعة التي انتهت بها حياة الخليفة الثالث فشيء غير هذا، وشيء بعيد عن هذا في صدمته المفاجئة لمَنْ يتابع تاريخ العقيدة الإسلامية في أطوارها الأولى.
لم يمضِ جيل على الإسلام ويقتل خليفة المسلمين هذه القتلة؟! فماذا صنعت هذه العقيدة إذن بنفوس الحاكمين والمحكومين؟! وماذا تغير من فتكات الجاهلية بعد جهاد المؤمنين وإيمان الكافرين؟!
والسؤال صدمة عنيفة.
ولكنه قائم على خطأ جسيم، وإن يكن خطأ قريب التصحيح.
فالعقيدة لا تبطل الخلاف والنزاع، ولا تختم الوقائع والأحداث في التاريخ، ولم يحدث قط في دعوة إصلاح في الدين أو غير الدين أنها قسمت التاريخ إلى عهدين: عهد سابق كان فيه نزاع وكانت فيه أحداث، وعهد لاحق يبطل فيه النزاع وتنقضي فيه الأحداث.
لم يحدث هذا قط ولا يحسن أن يحدث، فإنه لو حدث؛ لكانت العقيدة المصلحة شللًا معطلا لحياة الأمم، معوقًا للتاريخ في مجراه المطرد إلى غير قرار.
إن العقيدة لا تلغي الحوادث والخصومات، ولكنها تجدد القيم التي تدور عليها الحوادث والخصومات.
[22]وليست الخصومات شر ما يبتلى به الناس، فشر منها الخسة التي ترضى بالدون، وشر منها الوفاق على الغش والمهانة، وشر منها شلل الأخلاق الذي لا يبالي صاحبه ما يحسن وما يقبح وما يرضى وما يسوء، وشر منها الحياة بغير قيمة تستحق الخلاف عليها، وبغير معنى يتسع للبحث فيه.
فليس مطلوبًا من العقيدة أن تبطل الخصومات، ولكنما المطلوب منها أن ترتفع بالنفوس عن الخصومة في غير شأن، أو ترتفع بها عن الخصومة في شأن هزيل ضئيل.
وعلى هذا ينبغي ألا تكون الخصومات والأحداث هي مدار البحث في تاريخ هذه الفترة، بل ينبغي أن يكون مدار البحث على القيم والمبادئ التي دارت عليها تلك الخصومات والأحداث.
ولا نقول: إن الفاجعة إذن تهون.
وغاية ما نقوله: إنها تُفهم على وجهها الصحيح، وإنها تُفهم على وجه لا يريب في عمل العقائد وعمل العقيدة الإسلامية على التخصيص.
لقد كان مدار الخصومة على محاسبة الإمام: محاسبة الرعية لإمامها، ومحاسبة الإمام لنفسه، وكل أولئك شيء جديد في التاريخ، وكل أولئك شيء يقيم ويقعد في حياة الأمم، ولا سيما حياتها في أطوار العقيدة الأولى.
أين كان أبناء الجاهلية من حق الحساب بين الحاكم والمحكوم؟
أما في البادية فقد كان الحساب كله على شريعة الثأر والانتقام وإغارة القبيلة الكبيرة على القبيلة الصغيرة، وكان الغالب على الفرد أن يعيش في كنف قبيلته، تحميه إن استطاعت، أو تخلعه إن عجزت عن حمايته. وقد شاع في العصور الحديثة كلام كثير عن الحرية البدوية، ولم تُفهم على حقيقتها مع كثرة الكلام فيها، فما كانت الحرية البدوية قط قائمة على حق إنساني تحميه الشرائع والآداب، ولكنها كانت أشبه شيء بانطلاق المادة حيث لا عائق لها مما حولها، ومثل هذه الطلاقة طلاقة [23]العصفور في فضائه، والحيوان الآبد [3] في صحرائه، طلاقة المادة حيث لا حواجز ولا سدود ..
وأما الحكومات التي قامت في الجزيرة العربية، على نحو من نظام الملك والإمارة، فقد كانت شريعتها — على خلاف المظنون — طغيانًا مطلقًا من جميع القيود، وكان بعض ملوكها يتخذ من أهوائه ونزواته شعائر يدين بها الناس في مسائل الحياة والموت، فكان المنذر بن ماء السماء يجعل له يوم نعيم ويوم بؤس، ويقتل كل من يسوقه إليه الحَيْن [4] في يوم ولو كان عابر طريق، وكان يسكر ويأمر بالقتل فينفذ لساعته، ولا يدرى بعد إفاقته فيم كان هذا العقاب إن صح أن يُسمَّى بالعقاب، وحدث أن حجر بن الحارث فرض على بني أسد إتاوة [5] ثقيلة؛ فتمردوا عليها فاستباح أحياءهم، واعتقل رؤساءهم، وأقسم ليقتلنهم بالعصا؛ هوانًا [6] بهم عنده أن يقتلهم بالسيف أو السلاح، فسُمُّوا من أجل ذلك بعبيد العصا، وقال شاعرهم عبيد بن الأبرص يستشفع فيهم:
ومنعتهم نجدًا فقد
حلوا على وجل [7] تهامه
إما تركت تركت عفـ
ـوًا أو قتلت فلا ملامه
أنت المملك فوقهم
وهم العبيد إلى القيامه
وكان عمرو بن هند يكلم الناس من وراء ستور [8]، وكانوا يضربون المثل بكليب وائل في عزته، فيقولون عن العزيز البالغ في العزة: «إنه أعز من كليب وائل» .. لأنه كان يحمي الكلأ [9] فلا يقرب حماه، ويمر بالمكان يعجبه فيرمى عنده بكليب [10] وينادى بين القوم: إنه حيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى .. وكانوا يقولون: «لا حر بوادي عوف»؛ لأنه كان من عزته يقهر كل من حل بواديه، فكلهم عنده كالعبيد ..
وأقبح من ذلك ما رُوِي عن عمليق ملك طسم وجديس، فإنه كان يأمر ألا تزف الفتاة إلى بعلها [11] قبل أن تزف إليه، وفي ذلك [24]تقول إحدى هؤلاء الفتيات:
أيجمل ما يؤتي إلى فتياتكم
وأنتم رجال فيكم عدد الرمل؟
إلى أشباه هذه المظالم التي أجملناها في كتابنا عن الديمقراطية في الإسلام، وقلنا معقبين عليها: إنها روايات لم تخلُ من إضافات القصة والخيال، كجميع روايات التاريخ القديم المنقول بالتلقين والإسناد «ولكننا نثبتها ونعول عليها؛ لأن الفكرة هنا أبلغ من الخبر، وأصدق من وثائق الأوراق، فلو لم تكن فكرتهم الغالبة عن الحكم أنه عزة وخيلاء لا تكملان لصاحبهما بغير إذلال الأعزاء، وتمحل الذرائع للعتو والإيذاء، لما تواترت أنباء الملوك على هذه الوتيرة.»
ومن هذه الفكرة المتواترة عن سلطان الحكم إلى محاسبة الخليفة على كل صغيرة وكبيرة في شئون الدولة بونٌ بعيد، وشيوعها بين الخاصة والعامة، حتى يتصدى للحساب صغير القوم وكبيرهم على السواء هو الفتح الذي جاءت به العقيدة الإسلامية على أعقاب الجاهلية، وعلى مسمع من طغيان الأكاسرة والقياصرة والتبابعة، في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وسنرى أنهم كانوا يحاسبون الخليفة على الزيادة في حمى المرعى المتروك لإبل الصدقة بعد تكاثرها ومضاعفة عددها، وسنرى أنهم كانوا يحاسبون واليًا من أكبر ولاته — وهو والي الشام معاوية بن أبي سفيان — لأنه سَمَّى مال الدولة مال الله بعد أن كان يُسمَّى ببيت مال المسلمين، وأشفقوا أن يكون تغيير الاسم تمهيدًا لاستئثار الحاكم بالتصرف فيه، وكف المسلمين أصحاب المال عن المحاسبة عليه.
هذه المحاسبة بين الحاكم والمحكوم قيمة كبيرة نشأت مع العقيدة المحمدية، وهي قيمة كبيرة على جميع حالاتها من الصدق فيها أو التذرع بها إلى غرض قد يخفيه أصحاب الذرائع والتعلات، فإن القانون يصونه أناس مخلصون، ويدعى غيرهم صيانته كاذبين مدلسين، ولكن القانون على الحالتين كسب عزيز [25]لا يستهين به عاقل، ولا يقول أحد بالاستغناء عنه من أجل الكذب به أو الكذب عليه، وكذلك كل قيمة غالية من قيم الحياة الإنسانية كالفضيلة والخير والحرية والصدق وما شابهها من فتوح الضمير في آماد التاريخ، مما يحرص عليه الناس أو يصطنعون الحرص عليه، فإنما تكسبها الإنسانية بالتعارف عليها وقبولها أو قبول مقاييسها، ولن تكون القيم جميعًا إلا من هذا القبيل وعلى هذا المثال.
ولقد كان من الناهضين لمحاسبة عثمان - رضي الله عنه - أناس مغرضون يقولون مالا يفعلون ويفعلون غير ما يقولون: كان منهم من أقام عليه الحد، ومَنْ حبس أباه في جريمة، ومَنْ فرَّق بينه وبين حليلة تزوجها على غير الشريعة، ومن أبى عليه الولاية، ومن لم يصنع به الخليفة أمرًا من هذه الأمور، ولكنه كان منطوي النية على الفساد والإفساد، وكل هذه المآرب قد شِيبَتْ بها حركة المحاسبة على أعمال الخليفة؛ فكانت عيبًا للحركة، ولكنها لم تكن عيبًا لحق المحاسبة، ولا إزراء بشأنه ولا بالشأن الذي أكسبته الأمة من تقريره والتعارف عليه، ولولا أنه حق؛ لما تعلل به المبطلون.
وآفة البحث في تطور الأخلاق والقيم الإنسانية أن يتولاه مَن لا يفقهون قيمة النهي عن شيء، بعد أن كان مباحًا غير منهي عنه، ولا يخطر النهي عنه على بال أحد، فإقامة الحدود التي يُؤخذ الناس بالتزامها وينهون عن تجاوزها، هي عنوان الدوافع الباطنية التي غيرت حياتهم، وغيرت نظراتهم إلى الأعمال والأخلاق فأعلنوها في تلك الحدود. وأضل من هؤلاء من يبحثون في تطور الأخلاق؛ فيأخذونها بالعناوين ويطلقون العنوان الواحد على صفتين مختلفتين أو متناقضتين، ويكاد القس راشدال Rashdall أن يزن الأطوار الأخلاقية بهذا الميزان حيث يقول: «إنه ندر من رذيلة أو جريمة [26]إلا كانت في زمن من الأزمنة منظورًا إليها كأنها واجب من واجبات الديانة أو العرف، كالسرقة التي كانت تحسب فضيلة من الناشئة الإسبرطية ومن الطائفة الهندية التي تُسمَّى بطائفة الخناقين، وقد كانت القرصنة — وهي سطو وقتل — صناعة محترمة في العالم القديم، وكان الاضطهاد الديني في القرون الوسطى أشرف الواجبات.» وليس من الميسور في هذا المقام أن نفصل وجوه الخلاف بين الإباحة القديمة والتحريم الحديث في جميع هذه الفعال والخلال، ولكننا نكتفي بما يُستطاع بيانه بغير حاجة إلى الإفاضة والإسهاب، كالقرصنة ما بين العصرين القديم والحديث، فهل القرصنة التي نحرمها اليوم هي القرصنة التي كانت مباحة بالأمس، أو هما نقيضان باسم واحد مشترك بينهما بوهم الاصطلاح؟
الواقع أن قرصنة الأمس كانت حقًّا كحق صاحب الملك الذي تسطو عليه؛ إذ كان صاحب الملك يجمع بضاعته بالسطو على قبيلة أو عشيرة أضعف منه وأعجز عن الهجوم والدفاع، فإن كان فيما يملكه شيء مصنوع فهو من صنع العبيد المسخرين في أرضه أو معمله، وكلهم من أسرى الحرب المغتصبين من أبناء القبيلة التي قُهِرَت؛ لأنها عاجزة عن مقاومته ودفعه، فحقه في بضاعة السفينة كحق القرصان في السطو عليها، وليس هذا الحق الذي يستطيع القرصان في العهد الحديث أن يدعيه ويقبل التعارف عليه.
ويصدق على سرقة الناشئة الإسبرطيين ما يصدق على القرصنة في العصور القديمة، ويمكن أن يقال كذلك: إن الاضطهاد الديني في العصور الوسطى غير الاضطهاد الديني في العصر الحديث؛ لأن العمل لا يعتبر رذيلة أو جريمة إلا إذا كان فيه نقض لقيمة أخلاقية مصطلح عليها، ولم يكن التسامح ولا الحرية الفكرية قيمة مصطلحًا عليها في العصور [27]المظلمة بين الأوربيين سواء منهم المضطهدون ومن يقع عليهم الاضطهاد، فلو أن أحدًا من الذين وقع عليهم الاضطهاد ظفر بمخالفيه في العقيدة؛ لاضطهدهم كما اضطهدوه وقسرهم على التصديق بعقيدته كما قسروه، وكلا الفريقين يستعيذ من حرية الفكر على اعتبارها تفريطًا في الغيرة على الدين.
۲ فالقيم الأخلاقية والوجدانية هي الجوهر المهم في تطور الأخلاق، وليست هي الأسماء والعناوين، ومتى ظهرت «القيمة» في أمة فهي مكسب حق لا شك في نفعه أيًّا كانت نية المنادي به على الصدق أو على الخداع، فلو لم يكن الذهب ذا قيمة لما استحق أن يزيفه المزيفون.
ومحاسبة الحكام كانت قيمة جديدة بين العرب وسائر المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، فنادى بها الخاصة والعامة وادعاها الصادق والكاذب، وظلت عاملًا مهمًّا في السياسة أيام الخلافة وبعد أن صار الحكم ملكًا يتوارثه الأبناء عن الآباء.
•••
أما الخليفة عثمان رضي الله عنه فأَثَرُ العقيدة فيه وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه، وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام.
إنه كان من سلالة الأمويين، وهي سلالة اشتهرت في الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله في غير مأرب أو متعة، ولم ينهض أحد منهم بتكاليف المروءة والسخاء إلا منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، وغيرة منهم أن يسبقوه إلى المجد والثناء، فلما أسلم عثمان رضي الله عنه كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية، فنزل عن ماله لتسيير جيش في سنة العسرة، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقي منها المسلمون بغير ثمن، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإعانة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين.
ومذهبه في محاسبة نفسه قد تتعارض فيه الأقوال والتأويلات، [28]ولكنه في الأمر الثابت الذي لا جدال فيه قد بلغ الذروة من محاسبة النفس والتحرج من المساس بالحياة البشرية ولو في سبيل الذود عن حياته وحياة أقرب الناس إليه، فلما أيقن من القتل؛ أبى أن يبقى في داره من يقتل أحدًا ممن يحيطون بها ويعالجون اقتحامها لاغتياله، ولما سُئِل أن يتنحى عن الخلافة أبى أن يتنحى عنها، ولم يكن إباؤه ضنًّا بشيء يحتويه، فلا شيء أغلى من الحياة وقد هانت عليه، ولا يزعم أحد أنه غنم من الخلافة مالًا، بل يتفق المؤرخون على أنه ترك الدنيا وماله أقل مما كان لديه يوم ولي الخلافة، ولكنه أبى أن يخلع نفسه حذرًا من أن يحمل جريرة الخلع وما يعقبه من النزاع والقتال، وقد صرح بذلك غير مرة فقال: إنه يخشى على الذين يستطيلون أيامه أن يتمنوا بعده لو كان يومه مائة سنة، فلا يبوءن بالعاقبة المحذورة وهو مختار.
•••
فإذا تركنا الحوادث جانبًا ونظرنا إلى التاريخ في صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ، فلنا أن نقول: إننا أمام فواجع مؤلمة يود الناظر إليها لو يزوي بصره عنها، وليس لنا أن نقول: إننا أمام صدمة يصطدم بها من يسأل عن أثر العقيدة وأطوارها، فلا صدمة هناك إذا نحن وزنا الحوادث بميزان القيم، وعلمنا أن التاريخ لن يخلو من الحوادث، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التي تُبتلى بها ضمائر بني الإنسان.
البعل:الزوج
تصنيف:
ذو النورين عثمان بن عفان
====================
أي تختفي
السطوة : القهر بالبطش
الآبد: مفرد أوابد، والأوابد: الوحوش
الحين : الهلاك
الإتاوة: الخراج
هوانا : أي استخفافا بهم
الوجل : الخوف
جمع ستر
العشب رطبا أو يابسا
کلب صغير
=========
ذو النورين عثمان بن عفان (المكتبة العصرية)/وبعد الصدمة
وبعد الصدمة
وليست الصدمة العنيفة بالحائل الوحيد دون توضيح هذه الفترة وتمحيص أسبابها وعواملها وتبعات المسئولين عنها، فالصعوبة الكبرى أننا في هذه الفترة أمام حادثين يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله، ويتكلم عنهما بعض المؤرخين كأنهما حادث واحد متحد الأسباب والعوامل..
هذان الحادثان هما: التطور السياسي، ومقتل عثمان —رضي الله عنه—. وأسباب هذا لا تكفي لتعليل ذاك وليس من الحتم أن تؤدي إليه .. وقد طال الجدل حول عمل عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء وأثره في هذه الفترة، فرأى بعض المؤرخين أنه أهون من ذاك؛ لأنهم اعتقدوا أن الانقلاب السياسي ومقتل عثمان حادث واحد له أسباب واحدة، وليس هو كذلك. ولو أنهم فصلوا بين الأسباب في كليهما؛ لأمكن تقدير التبعة والاستطاعة في عمل كل عامل ودسيسة [1] كل مشترك في المؤامرة.
فابن السوداء ولا شك أهون من أن يُحدث التطور السياسي، وغيره ممن هم أعظم منه شأنًا وأشد منه خطرًا أهون من إحداث ذلك التطور كله، سواء تعمدوه [2] أو عملوا له غير عامدين؛ لأنه يرجع إلى أسباب متفرقة عميقة القرار، كثيرة التشعب، لا تضطلع [3] بها قدرة رجل واحد ولا عدة رجال متألبين [4] متواطئين [5] ..
ولكن مقتل عثمان شيء آخر غير التطور السياسي، وفي وسع ابن السوداء ومن هو أقل منه أن يقترفه بيده وأيدي من يستمعون لتحريضه ودسيسته؛ لأنه في حقيقته «مشاغبة» من مشاغبات الدهماء [6] التي لا تعجز عن أمثال هذه الأفاعيل.
[30]والذين يقرءون فاجعة عثمان ويلمون بالتاريخ يسبق إلى خيالهم ما قرءوه عن مصارع رؤساء الدول في إبان [7] الثورات والفتن القومية: كالثورة الإنجليزية مع شارل الأول، والثورة الفرنسية مع لويس السادس عشر، وغيرهما من الثورات في العالم القديم والعالم الجديد.
ومتى سبقت إلى خيالهم هذه الصورة، حسبوا أن الثورة التي أفضت [8] إلى مقتل رئيس الدولة في الأمتين كالثورة التي أفضت إلى مقتل رئيس الدولة الإسلامية في صدر الإسلام، وبينهما في الواقع فارق بعيد أبعد من فارق الزمان والمكان.
إن الثورة التي أطاحت بشارل الأول قد اجتمعت فيها قوة الأمة بأسرها على وجه التقريب أمام العرش وأنصاره من النبلاء، وقد كانت هناك حرب وهزيمة غَلَبت فيها إحدى القوتين، وانهزمت فيها القوة الأخرى.
وهكذا حدث في الثورة الفرنسية التي طاحت بلويس السادس عشر، وهكذا حدث في ثورات كهذه بالقارة الأمريكية والعالم القديم.
أما مقتل عثمان عليه الرضوان فلم تكن فيه حرب بين قوة الدولة وقوة الأمة، ولم تتقابل فيه قوى الحكومات الإسلامية وقوى الأمم في البلاد العربية وغير العربية، وغاية ما يوصف به أنه «حادثة محلية» قد تتم على أثر مشاغبة جامحة من مشاغبات الدهماء، وقد يستطيعها ابن السوداء ومَنْ هو أقل من ابن السوداء ..
وعلى سبيل الإيجاز الذي يُغنينا عن الإسهاب في المقارنة والمناقشة نقول: إن عثمان —رضي الله عنه— ما كان ليقتل لو كانت داره محروسة حراسة الدور التي يقيم فيها ولاة الأمور، إن هذه الجمهرة التي اقتحمت داره واجترأت [9] عليه بالسلاح ما كانت لتقتل واليًا من ولاته — كمعاوية بن أبي سفيان في الشام مثلًا — لو أنها هجمت على داره بين حرسه وأجناده، فلا محل هنا للموازنة بين قوى الدولة وقوى المشاغبة أو الفتنة، ولا محل [31]كذلك للموازنة بين عوامل الانقلاب السياسي وعوامل الدفاع عن شخص الخليفة في داره، فكل عوامل الانقلاب لم يكن من الحتم أن تؤدي إلى مقتل الخليفة ولو بلغت أضعاف ما كانت عليه، وقد كانت المشاغبة التي جنت جنايتها على حياة الخليفة كافية لاجتراح [10] هذه الفعلة، ولو لم يكن وراءها كل عوامل التطور التي كانت تتجمع هنا وهناك في تلك الفترة الفاجعة، وقد بقيت عوامل التطور وازدادت بعد انتهاء عهود الخلفاء الراشدين وقيام الملك الموروث، فلم ينجم عنها مقتل ملك أو والٍ من كبار الولاة في بقاع الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها ..
فمن الواجب إذن عند إحصاء الأسباب والتبعات، والكلام عما يُستطاع وعمن يستطيعه أن نفرق بين الحادثين، وأن نرجع بالتطور السياسي إلى أسبابه وعوامله التي تبلغ ما تبلغ ولا يلزم منها أن تؤدي إلى مقتل ولي الأمر في عاصمته، وأن نرجع بمقتل ولي الأمر إلى أسبابه وعوامله التي قد تحدث مع ذلك التطور، وقد تحدث منفصلة عنه في كل طور من أطوار القلق والتذمر [11]، مما يدوم أو ينقضي بانقضاء آونته ثم لا يعود في عصره.
التذمر : الغضب
تصنيف:
ذو النورين عثمان بن عفان
=================
الدس : الاخفاء
أي قصدوه
أي تقوم
التأليب : التحريض والافساد
واطأه على الامر : وافقه
من معاني الدهماء: العدد الكثير ، وجماعة التاس
أبان : وقت
اي أدت وانتهت
أي تجرأت
أي لارتكاب
========

عبقرية عمر للعقاد {كل الكتاب}

========
 
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/تقديم 
بسم الله الرحمن الرحيم
عبقرية عمر
حمدا لله ، وصلاة وسلاما على البشير النذير ، والسراج المنير ، سیدنا و مولانا محمد، وعلى آله وصحبه ، وكل من سار على نهجه ودر به ، ونستعين بخیر معین ۰۰ ربنا آتنا من لدنك رحمة وهي لنا من أمرنا رشدا . وبعد : فالكتاب الذي بين أيدينا امتطى له العقاد صهوة فكره ، بغية الاحاطة بعظمة بطله ، فبطله ذو لون جديد ، وعبقريته ذات طابع فريد فنوه الي منهجه في الكتاب بأنه ليس سردا لسيرة عمر ، ولا عرضا التاريخ عصره ، وانما هو وصف له ، ودراسة لاطواره ، ودلالة على خصائص عظمه ، واستفادة من هذه الخصائص العلم النفس ، وعلم الأخلاق ، وحقائق الحياة ، لذلك ركز على ما يفيد في هذه الدراسة ، سواء لديه أكان من حادت صعير أم عطيم وأظهر الأستاذ العقاد وجه عندما حاول أن يجاري من يسمون بالكتاب المنصفين ، الذين يفرتون المدائح بالمعايب ، ويمزجون النقائص بالمناسب ، ولا يأتون بحسنة الا نقبوا عن سيئة تمحوها ، أو تقلل منها ، وكان سر حر العقاد ، أنه لم يجد عيبا ولا نقيصة ولا يستحق اللوم في حياة عمر وأطواره .
 
 
  مما جعله بتوقع أن بالمغالاة والتحيز والاعجاب ، وله العذر كل العذر في ذلك ، اذ كيف يحاسب - هو أو عيره - عمر بن الخطاب ، وقد كان عمر يحاسب نفسه بأعنف مما كان يمكن أن يحاسبه غيره ؟؟؟ ان طبيعة عمر بن الخطاب وخلائقه ، كانت تؤهله للزعامة عن جدارة رانندار ، ولكن أي نوع من الزعامه كان يمكن لعمر أن يناله ؟ لم تكن هناك زعامة مهيأة له - لولا الاسلام - الا زعامة نبيلمه « بني عدي ،، أو رعامة ترین قبيلة الكبري ، تم بنهي به الأمر عند هذا الحد ، ولا بعد ذلك خبر ، بأنه في ذلك شأن من سبقوه ، ولكن الإسلام هو الذي أبرز طاقات وأطهر مواهبه ، وفجر فدراته ، وكشف النقاب عن عظمنه وعبقريته ، وحدد له الزعامة اللائقة به ، والدور الملائم له ، ليعز به الاسلام ، ويزداد هو بالاسلام عزا ، ويبقى ذكره عطرا ، وأثره عبقا فعمر الذي عرفه تاريخ العالم ، ولید الدعوة المحمدية دون سواها ، ولولا الإسلام ، لما عرف العالم عمر 
 
[3]ولكن ما دام هذا شان عمر ، فلماذا لم يقدم على أبي بكر في الخلافة ؟ الكاتب على هذا السؤال بأن تقديم أبي بكر على عمر لم يكن من باب المفاضلة بين رجلين ، وانما من باب التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه ، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها ، والوقت الذي يحين فيه أوانه.. 
 
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف لكل من الرجلين فضله ومميزاته ، وأن أشد المسلمين في الله ، وابو بكر فيه لين وهوادة ، وخلافة أبي بكر تجمع للاسلام الزيتين ، لان عمر لن يبخل بشدته، ان احتاجها ابو بکر سندا لهرادته ولذلك .. فقد كان عمر أول من بايع ابا بکر ، وحث الناس على بيعته ، وقال لأبي بكر وهو يمد يده ليبايعه : أنت افضل مني ، فيقول له أبو بكر : بل انت أقوى مني ، فيجيبه عمر : ان قوتي لك مع فضلك !! فكان لأبي بكر وقته الملائم ، وكان لعمر حينه المناسب ، والحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى خلافة أبي بكر ، وانها ستكون قصيرة ، وسيأتي بعده عمر وذلك حين قال : 
 
«رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب ، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا - والله يغفر له - ، ثم جاء عمر ، فاستحالت غربا ، فلم أر عبقريا يفري فريه ، حتى روى الناس ، وضربوا بعطن ،» 
 
وفسر ضعف النزع، وكونه ذنوبا أو ذنوبين ، بقصر خلافة أبي بكر : وفسر فیض الري على يد عمر ، بأنه فيض العبقرية التي ينفع لها الأجل ، وتتسع أمامها منادح العمل ، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتي لغير العبقريين • ولئن كانت العبقرية لا تخرج في معناها عن : التفرد ، والسبق ، والابتكار فكل هذه الصفات قد تجمعت في شخص عمر ، لان تاريخه زاخر بتلك المعاني في الكثير مما أنجز 
 
لقد كان عبقريا ممتازا في تكوينه وأعماله ، وكان مهیبا رائع المحضر ، حتى في حضرة النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد روت السيدة عائشة - رضي الله عنها - : أنها طبخت له - عليه السلام - حريرة ، ودعت سودة أن تأكل منها فأبت ، فعزمت عليها لتأكلن او لتلطخن وجهها ، فلم تاكل فوضعت يدها في الحريرة ، ولطختها بها ، وضحك النبي صلی الله عليه وسلم - وهو يضع الحريرة بيده لسودة ، ويقول لها : لطخي انت وجهها ففعلت ۰۰• رمر عمر ، فناداه النبي : يا عبد الله ، وقد ظن أنه سيدخل ، فقال لهما : قوما فاغسلا وجهیکما !!
قالت السيدة عائشة : فما زلت أهاب عمر ، لهيبة رسول الله - صلی الله عليه وسلم - اياه !! 
 
[4]سمه 6 ولنا أن نتصور رجلا له مهابة في نفس الرسول !! وقد كان النبي يرعی تلك الهيبة ، رضي عنها ، واغتباطا بأثرها في نصرة الحق ، وهزيمة الباطل وتأمين الخير والصدف ، واخانة أهل البغي والبهتان ولقد كانت هيبة عمر نابعة من قوة نفسه ، قبل أن يكون مصدرها قوة جسده على أن عمر المهاب ، كان سريع البكاء اذا جاشت نفسه بالخضوع والخشوع بين يدي الله ، حتى ترك البكاء على صفحتي وجهه خطين أسودين f 1 وكان يحسب < 1 شخصية ، ومن السمات التي اتسم بها عمر : أنه كانت له قدرة مذهلة على تمييز المذوفات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها .. ومن ذلك ما روي : أن علامه سفاه ذات يوم لبنا ، وأنكره ، فسأله : ويحك ، من أين هذا اللبن ؟ قال الغلام : ان الناقه انفلت عليها ولدها ، فشرب لبنها ، فحلبت لك ناقة من مال الله !! و كان ذا فراسة نادرة ، وقدرة على كشف الخفايا واستيضاح البواطن التفاؤل ، ويعنه بالرؤيا ، والنظر أو الشعور على البعد ، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس المعاصرون اسم : « التلباني ،، وله في ذلك من النوادر ما يبه .. ساق الكاتب عديدا من نماذجها والقوة صفة لازمت عمر ، ودلت عليها مناقبه وإلى جانب فوته فقد اشتهر بالعدل ، والرحمة ، والغيرة ، والفطنة ، والايمان الوثيق ، واستمد قمر هذه الصفات من روافد شتی : بعضها من وراثة أهله ، وبعضها من تكوين وبعضها من عبر أيامه ، وبعضها من تعلیم دینا ۰۰ واستدل الكاتب على كل صعة من هذه الصفات بما يثبنها ويؤيدها ، مبينا أن كل صفة من هذه الصفات ، كانت في موضعها تطغى على غيرها ، فلا تعطيها إلى جانبها میانه رسوخ واستقرار واذا كان المستشرفون قد اتهموا عمر ، بأنه كان محدود التفكير ، وأنه كان يأخذ الأمور بقياس واحد ، فقد رد عليهم الكاتب ، بأن عمر كانت له فطنة الرجل العليم بنفائص الأخلاق ، وخبايا النفوس ، وأنه لو كان محدود التفكير ، ينظر الى الأمور من جانب واحد ، لا كنرت، مشاورانه للكبار والصغار، والرجال والنساء ، مشاورة من يعلم أن جوانب الآراء تتعدد ، وأن للامور وجوها لا تنحصر في الوجه الذي يراه ، وأنه كثيرا ما قال : و أخوف ما أخاف علیکم اعجاب المرء برأيه وذكر الكاتب في كلامه عن صفات عمر : بأنه لم يكن ينثني للخطوب كغيره ، وانما كانت تننني له الخطوب !! وعبر عن كل صفاته، بأنها و ترکیبة ، ولیست و ترکیبا تشبيها لها بأجزاء الدواء ، الذي اذا نقص جزء منه ، نقص نفعه كله 
 
d 4 کم و ولقد راى الكاتب أن مفتاح شخصية عمر : د طبيعة الجندي ، في صفتها المثلى ، وبين أن أهم الخصائص الطبيعة الجندي في صفتها المثلي : الشجاعة والحزم ، والصراحة ، والخشونة ، والغيرة على الشرف ، والنجدة . والنخوة ، والنظام ، والطاعة ، وتقدير الواجب ، والايمان بالحق ، وحب الانجاز في حدود التبعات أو المسئوليات ۰۰۰ وان هذه الخصائص كلها كانت واضحة في عمر ، حتى أنه بمجرد السؤال عن عظيم اتصف بهذه الصفات ياتي الرد : انه عمر وعمر في مخالفاته وطاعاته ، كانت له مخالفات الجند وطاعاتهم ، ولا عجب في هذا ، فقد كان فعلا شرطيا لرسول الله - . صلی الله عليه وسلم -، وصرح هو نفسه بذلك ، حيث قال في احدی خطبه ما فحواء : كنت مع رسول الله ، فكنت عبده ، وخادمه ، ولوازمه ( الجلواز : الشرطي ) وكان كما قال الله تعالى :- بالمؤمنين رؤوف رحيم ،، و کشت بين يديه كالسيف المسلول ، الا أن يغمدني ، أو ينهاني عن أمر فاکن عنه ، والا أقدمت على الناس لمكان امره و حتی نکاهات نفسها ، كانت كفكاهات الجند ، فيها طابع الخشونة والحدة واستطاع الكاتب أن يبرز كل مفات الجندي المثالي في عمر ، بما قدم له من أدلة ، وما أني من برهان وتناول الكاتب قصة اسلام عمر ، بروایاتها المختلفة ، مقدما لذلك، بأن أي تغيير يطرأ على الانسان في شكله ، أو زيه ، أو وطنه ، أو ما إلى ذلك ، فهو أمر عادي ، أما تغيير معتقده ، فهذا أمر يحتاج إلى أسباب وجيهة ، ومهيئات عديدة ، ذاكرا ان الاسلام بدا يدب في قلب عمر ، منذ ان رأی ام عبد الله بنت حثمة ، وهي تستعد للهجرة الى الحبشة ، فاقترب منها ، وقال لها : انه الانطلاق یا ام عبد الله ! قالت : نعم ، والله لنخرجن في أرض الله ۰۰۰ آذيتمونا ، وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجا ، فقال لها في رقة غير معهوذة : محبكم الله !! • ثم استعرض اسباب اسلام الكثيرين ، وجمع كل هذه الأسباب لعمر ، فمن أخذوا - مثلا - ببلاغة القرآن ، فأسلموا ، فان عمر كان طويل الباع و البلاغة ، حسن النقد فيها ، هواه منها الصدق ، والطبع ، وجمال التفصيل ، فكان - مثلا - يطرب لقول زهير : فان الحق مقطعه ثلاث : يمين ، أو نفار ، أو جلاء ويقول كلما أنشده معجبا : ما أحسن ما قسم ، وسماه شاعر الشعراء ، لانه لا يعاطل بين القوافي ، ولا يتبع حواشي الكلام ، وربما قضي الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر ، فيقول لجليسه : الان اقرا يا عبد الله !! وقدم الكاتب العديد من الصور الناطقة له بذلك . t & و و 4 t . 
 
1 [6]Y- عمر f f تأسيسها من يوم f كما تحدث عن نهج في الاسلام ، موضحا بالأمثلة رأيه في المظهر المخالف للمخبر ، والعمل للدنيا ، والتواكل ، والاستكانة والتماوت ، ونظافة الثوب وطيب الرائحة ، والرمي ، والعوم ، والفروسية ، والعدوى بالطاعون ، والضرر والمفع بالنسبة للحجر الاسود وشجرة الرضوان ثم تحدث عن تقشفه ، وطريقة معاملته للأميين ، وحبه وكرمه ، رانا كان في حبه وكرهه لا يظلم ولا يحابي وعلى العموم ۰۰ فقد دخل عمر الاسلام من كل أبوابه كالعاصفة ، و كان اسلامه صفحة جديدة قد تفتحت في العالم الانساني واذا كانت العبقرية لا تخرج عن معنى التفرد ، والسبق ، والابتكار فقد تجسدت كل هذه المعاني في عمر ، وهو يؤسس الدولة الإسلامية ، والتي ارتأي الكاتب أنه بدأ في أن بائع أبا بكر على الخلافة ، بل من يوم أن شرح الله صدره للاسلام قاف منح بذلك تاريخا ، واستهل حضارة ، وأنشأ حكومة ، ورتب لها دواریں ، ونظم أصول القضاء والادارة ، واتخذ لها بيت المال ، ووصل بین أجزائها بالبريد ، وحمى ثغورها بالجيوش ، وكان أول واضع الدستور الشوری في الدولة الإسلامية ، ووضع دستور الحرب القواده ، ولم يفته أن يضع سه دستورا دوامه : « ان الحكم محنة للحاكم ، ومحنه للمحتكرين ، رانیه لا يصلح الا بشدة لا جبرية فيها ، ولين لا وهن فيه ، وان الخليفة مهول أمام الله والناس عن جميع ولاته ،، وان صلاح الأمر في ثلاث : أداء الأمانة . والاخد بالقوة ، والحكم بما أنزل الله ولا د وصلاح المال في ثلاث : أن يؤخذ من حق ، ويعطى في حق ، ويمنع من باطل » ۰۰۰ ووضع دستور الولاية وكان قوامه : تمييز بالواجب والكفاءة ، وليس تمييزا بالواجب والاستعلاء وبين الكاتب ما يمكن أن يقال في عزل الاكفاء من الولاة ، واسلوب عمر في مراقبتهم وكان لعمر مذهب في الأخلاق الاجتماعية ، يشبه مذهبه في الفضاء فكان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره عنه ، وينهى أن تظن بكلمة شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ۰۰۰ ووضع نظاما لتحصيل الجزية ، وأسس ديوان الوقف الخيري ، وعددا آخر من الدواوين ، وكان له دور ملموس في النعمير ، واصطلاع بنفریج الأزمات كما حدث في عام الرمادة ۰۰۰ مما يمكن معه أن ينال : ان عمر اکبر مؤسس الدولة الاسلام ، قبل أن يكون أكبر فاتح في صدر الإسلام ، وانه أسس تلك الدولة على الايمان ، لا على الصولجان ، وكان من يوم اسلامه آخذا في تشييد هذا البناء ، حتی ترکه وهو بين دول العالم أرسخ بناء . وكانت حكومة عمر قائمة على أساس من العدل والحرية ، ولو أردنا أن نقارن بين حكومات العصر وحكومته ، لم نجد أساسا للمفارنة ، وإذا قسمنا + & 4 f [7]€ $ f ¢ . .. أعماله بنظام الحكم في زماننا ، وجدنا الكثير من المستغربات التي تحول بيننا وبين تقديرها الصحيح لأول وهلة ، فعمر قد أدى الواجب الحكومي على الوجه الأتوم ، ولا سبيل لمؤاخذته بقياس حديث أو قدیم وركز الكاتب على منهج عمر في التقشف ، وبين أنه لم يكن عن عجز ، وانما كان وفاء لحق الصداقة ، والمراد بالصداقة هنا : صداقته للنبي رصداقته للصديق ، فكان لا يستسيغ لنفسه متاعا لم يتحقق لكليهما، وكان يؤثر الشدة ، ليقطع الشك ، ويدرا الشبهة ، ويقتدي بصاحبيه ، ويترك القدرة المثلى لمن يليه وفي الوقت الذي ترى فيه عمر بطلا يررع ، ويعرف روعة البطولة ويستحق الاعجاب غاية استحقاقه ، نراه من فرط ولائه لن يفوقونه أنه خلق للاعجاب بغيره ، ولم يخلق ليكون موضع اعجاب ، و كم كانت غبطته حينما ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : يا أخي ، !! وكان عمر يتصاغر على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء ، لا على قدر ما يراه من بواعث الصغر ، وليس أدل على ذلك من دخوله الشام ماشيا على الرغم من أنه المنتصر ، وتذكيره لنفسه كلما حدثته بأنه قد صار في منزلة العظمة والسلطان ، بانه كان راعيا لإبل الخطاب وكان اعجابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفوته اعجاب ، مع أنه لم يكن أحد مستقلا برأيه في مشورة النبي کاستقلال عمر ، فهو صاحب المشورة في حجب نساء النبي ، وصاحب التأييد في رابه من رب العالمين في العديد من الأمور ، وهو الذي راجع النبي في التبشير بالجنة لمن يشهد أن لا اله الا الله ، مخافة أن ير عن المسلمون إلى ذلك ذلك ، كان يضع نفسه بالنسبة للرسول - عليه الصلاة والسلام - موضع المأموم من الامام ، والمريد من العالم ، والشرطي من القائد وتناول الأستاذ العقاد بالايضاح والتحليل موقف عمر من آل البيت ورد على من اتهموه بأنه كان يناجزهم ، وأنه حال بين على والخلافة ولقد كان راي الصحابة في عمر واضحا غاية الوضوح ، * يحمل کل اجلال واكبار عثمان بن عفان هو الذي قال لزياد : ۰۰۰. لن تلقی مثل لن تلقی مثل عمر لن تلقی مثل عمر ،• ویکی علی یوم مات عمر ، وسئل في ذلك ، فقال : « أبكي على موت عمر ، ان موت عمر ثلمة في الاسلام لا ترتق الى يوم القيامة وقال فيه ابن مسعود : كان اسلامه فتحا ، وكانت هجرته نصرا ، و کانت اماميه رحمة . وقال معاوية موازنا بين الخلفاء : « أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده ، وأما عمر فارادته الدنيا ولم يردها ، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن : وقال عمرو بن العاص : . لله در ابن حنتمة ( اسم ام عمر ) ، أي امری، كان ؟؟ • ولكنه مع 6 . ووه . عمر 
 
 
  [8]f . f اما عمر ، فقد كان يرعى قدر الصحابة ، ويعرف لكل منهم فضله وقدره ، وما أثير حول عزله لخالد بن الوليد من الاتهامات تناوله الكاتب بکشن حقائق ، تجعل عمر متهما لو لم يتخذ هذا القرار .. فقد كان هناك مأخذ العمر على خالد في عهد الرسول ، وفي عهد الصديق ، ثم في عهد عمر ذاته ، ويتوج هذه المأخذ خروف عمر من افتتان الناس بخالد ، أو افتتان خالد بالناس وهذا وحده سبب وجيه لقرار العزل ثم أن عزل خالد كان سنة عمرية الولاة وأما عن ثقافة عمر ، فقد كان موفور الحظ من ثقافة عصره ، و كان ادیبا مؤرخا فقيها ، وخطيبا مطبوعا على الكلام ، وشغوفا بالشعر الجيد وان لم يقله ، وهو الذي حث على تعليم العربية ، وأوصي بوضع قواعد النحو خاصة بعد أن كثرت الفتوح، وأنكر بعض انواع الشعر : کالهجاء والتشبيب ، ذواقة للشعر .. كما أنه كان عالما بناريخ العرب ، وايامهم ، ومفاخر أنسا بهم وكان عالما فقيها ، قال فيه ابن مسعود : « كان عمر اعلمنا بكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله . وقال : ولو ان علم عمر بن الخطاب في میزان ، ووضع علم الارض في كفة ، لرجح علم عمر بعلمهم ، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار ، وكان D العلم وقال عنه ابن سیرین :. اذا رايت الرجل يزعم أنه أعلم من عمر ، فشك في دينه ، ۰۰ ولقد نصح عمر العلماء فأحسن النصح ۰۰ وكان يشجع الاختراعات التي تنفع الناس ، وله علم بجغرافية الشرق ، وكان رضي الله عنه - وفيا للذكرى ، فأرخ للهجرة ، واحترم توقف بلال عن الأذان بعد وفاة النبي و نعي الكاتب عن عمر تهمة أمره بحرق مكتبة الاسكندرية ، بأدلة مقنعة ، وحجة قاطعة • وعمر صاحب السلطان الكبير ، والسيطرة الواسعة ، كان يعيش عيشة الكمان، إلى حد أزهد فيه العديدات من النساء ، فرفضن الزواج منه ، وهذا الرفض خیر شهادة على عظمته ۰۰ وقد وصفته احدى الرافضات ، وهي : أم ابان بنت عتبة بن ربيعة ، بقولها : أنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه ، كأنه ينظر الى ربه بعينه ، !! وهل مثل هذه الشهادة تحسب لعمر ، أو على عمر ؟؟ كذلك كان من بين الرافضات : ام کلثوم بنت أبي بكر ، وبينت سيپه رفضها بقولها للسيدة عائشة :: انه خشن العيش : شديد على النساء • [9]4 t وقد سلمنا أن خشونة العيش تحسب له، فهل شدته على النساء كذلك ؟ اثبت الأستاذ العقاد أن شدته على المراة لم تكن الا بقدر مجاوزتها الحدودها ، وهذا أمر طبيعي في الرجال .. معظم الرجال فما للمراة من حق تعطاه ، وما ليس لها بحق لا تعطاه ، بل وتذاد عنه .. ومن ذلك - مثلا - أن امرأته تشفعت له في رال مقصر ، رسالته : فيم وجدت عليه ؟ فالتفت اليها غاضبا ، وقال لها : رنيم انت وهذا ؟؟ والمنصفون يحسبون مثل هذا الموقف لعمر لا على عمر ۰۰ ومع ما عرف عنه من الشدة وخشونة العيش ، فنساؤه اللائي عاشرنه ، قد كلفن بحبه ، ورضين عيشه ، لرضاهن بمودته وعطفه ، وكانت احداهن لا تطیق فراقه ، فاذا خرج مشت معه إلى باب الدار ، فقبلته ، ولم تزل في انتظاره رعاتكة بنت زيد من احدى نسائه - تولهت في رثائه حين قتل ، وقالت فيه شعرا يذوب أسى وحسرة ، ولم يكن بكاؤها عليه كبكاء كل زوجة على كل زوج فقید . واشتهر عمر بالغيرة على المرأة ، وفي ذلك يقول الحبيب محمد - الله عليه وسلم - : « ان الله غيور يحب الغيور ، وان عمر غیور ، و کانت غيرته على المرأة شطر من غيرته على كل حرم وحوزة وكان عمر ابنا بارا را با رحيما وعطونا على الاطفال ۰۰ ارکان له اجمل الصلات برحمة : وذويه ولقد أشار الأستاذ العقاد اشارة لطيفة ، عندما قارن بين تحمل الرسول التطاول نسائه ، ورفض عمر لهذا التطاول ، فقال : محمد . انسان ، عظيم ، وعمر و رجل ، عظيم ، والرجل العظيم يرحم يرحمها الجندي في معرض القوة والنضال ، ولكنه يأنف أن يستكين السلطانها في معرض الهوى والفتنة اما الانسان العظيم : فهو يشمل ضعف الانسانية كلها ، ويعطف عليه ومنه ضعف المرأة في غرورها ، واعتزازها بدلال الضعف على القوة ۰۰۰ فهر يرى في تكبر المراة - اذا كانت كبيرة عنده - نوعا من الاعتراف بكبره ، وهو لا يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وانثي ، لان میدانه يشمل الميدانين مجتمعين : اذ هو ميدان الانسان كله ، والانسانية جمعاء ومع كل ذلك ، فقد كان للمرأة رأي في عمر ، لا يخرج عن الاحترام والتقدير .. فقد وصفته سيدة نساء العصر ، أم المؤمنين عائشة . رنسي عنها بأنه : نسيج وحده . المرأة كما
f [10]1 عمر وقالت فيه الشفاء بنت عبد الله : « كان اذا تكلم أسمع ، واذا مشی اسرع ، واذا ضرب أوجع ، وهو الناسك حقا . وقالت ام ایمن ، يوم أصيب : اليوم وهي الاسلام ، واذا كان هذا رأي النساء فيه ، و رأي أعلام الصحابة ؟؟؟ قال عنه عارفوه : « باطنه خير من ظاهره ) وقال فيه الصديق ما فحواه : « ان مبغضيه هم المبغضون للخير ، . وقال فيه ابن مسعود : « لو أعلم - کان يحب كليا الاحببته ،• وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، كانا يثنيان عليه ، مع انهما ذاقا ضربات عدله وهيبته • وشاء القدر أن يقنل عمر بيد الغدر والتآمر والخيانة ، وقد تكشفت له تلك النهاية قبيل ذلك ، حينما رأى في منامه : كأن دیگا نقره نقرتين ، فقال : بسوق الله الى الشهادة ، ويقنلني أعجمي وفعلا مأن عمر بطعنات من حنجر فیروز . أبي لؤلؤة ، الذي كان من سبايا الفرس بالمدينة .. وذهب - رحمه الله - شهید مؤامرة من أعداء الدولة الاسلامية ، وصوت الحق ينادي : و يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي الى ربك راضية مرضية . فادخلي فلي عبادی وادخلي جنتي ، ودفن إلى جوار الحبيبين : محمد .. والصديق و بعد هذا العرض الخاطف ، الذي لا أدعي أنني قدمت فيه كل ما يجب أشعر في النهاية - مثلما شعرت في البداية - بالهيبة والوقار ، والتجلة والا كبار ، و كل ما يليق ببطل هذه الرحلة : عمر الرجل .. عمر الممتاز عمر العبقري . ولا يفوتني أن أنوه بعظمة الكاتب في احاطته بالموضوع، وعرضه الشيق وأسلوبه الجزل ، ومعانيه الحسان ، ودقة تحليله ، وروعة استنباطه ، فما أثبت لعمر صفة الا وأقام عليها الدليل ، وما درا عنه تهمة الا واستند الى م . ۴ أن يقدم عمر العظيم . f برهان الله عمر ورحيم الله العقاد ۰ مهدي عبد الحمید مصطفی مبعوث الازهر الشريف في لبنان
تصنيف:
عبقرية عمر
=============
مقدمة
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/مقدمة
[11]
مقدمة
تمَّ تأليف هذا الكتاب في أحوالٍ عجيبةٍ هي أحوالُ بأسٍ وخطرٍ، فلا غرابةَ بينهما وبين موضوع الكتاب الذي أدرته عليه؛ لأننا لا نتكلم عن عمر بن الخطاب إلا وجدنا أننا على مقربة من البأس ومن الخطر في آنٍ.
فما شرعتُ في تحضيره، وبدأت في الصفحات الأولى منه؛ حتى رأيتني على سفر بغير أهبة إلى السودان، فوصلت إليه وليس من مراجع الكتاب إلا قليل، وكانت الصفحات الأولى التي كتبتها في القاهرة مما تركته مع المراجع الكثيرة فيها، فأعدْتُ كتابتَها في الخرطوم، ومضيتُ فيه هنالك حتى انتهيت من أكبر شطريه، واستغنيت بمراجع الخرطوم عن المراجع التي أعجلني السفرُ عن نقلها؛ لأن أدباءَ السودان وفضلاءه يدَّخرون جملةً صالحةً من هذه المراجع، ويجودون بها أسخياء مبادرين إلى الجود، فلا أذكر أنني طلبت كتابًا في المساء إلا كان عندي في بكرة الصباح.
وإني لأتوفر على كتابته، وأحسبني منتهيًا منه في السودان؛ إذ رأيتني مرة أخرى على سفر بغير أهبة إلى القاهرة، فعدت إليها بالطائرة ألتمس العلاجَ السريعَ؛ لأن يديَّ أوشكتا أن تعجزا عن تناول القلم بما عراهما من ثآليل «الخريف».
فعدتُ وما يشغلني عن إتمامه شاغلٌ في السفر والمقام، ولم أحسب هذا البأس في الحالتين من موانعه وعراقيله؛ لأنني أَلَّفْتُ بعضَ كُتُبي الكبار في أحوال تشبه هذه الأحوال، فألَّفت كتابي عن «ابن الرومي» بين السِّجن ونذره ومقدماته، وألَّفت كتابي عن «سعد زغلول» وأنا غيرُ مستريح من كفاحه، وكلاهما من آثر الكتب عندي، وأكبرها في [12]الموضوع وفي عدد الصفحات.
إنما حسبت هذا البأس من مطابقاته وموافقاته، ومن وضع الشيء في موضعه على نحو من الأنحاء، ولم أعدده من حرج التأليف، كما عددته من مهيئات جوِّه، ولا سيما حين ألفيتني أدرس آثار الحركة المهدية، وأتقلب بين مشاهدها وميادينها، وأستخرجُ العبرةَ من القتال بين الراجلين والفيلة في مواقع فارس، ومن القتال بين الراجلين[1] والسفن المسلحة في مواقع الخرطوم وأم درمان، فهذه عقيدة وتلك عقيدة، ولكن العقيدة التي ظفرت كان معها حليف[2] من الغد المأمول، ولم تكنِ العقيدةُ التي فشلت على وفاق مع الغدِ ولا مع الأملِ.
***
ولكنَّ الحرجَ كل الحرج في التأليف، إنما كان في محاسبة عمر بن الخطاب، أوليس الحرج في الحساب أيضًا من العمريات المأثورات؟!
فالناسُ قد تعودوا ممن يسمونهم بالكُتَّاب المنصفين أن يحبذوا[3] وينقدوا، وأن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن يسترسلوا[4] في الحسنات بقدر ليتقلبوا من كلِّ حسنةٍ إلى عيبٍ يكافئها[5]، ويشفعوا كل فضيلة بنقيصة تعادلها، فإن لم يفعلوا ذلك فهم إذن مظنة المغالاة والإعجاب المتحيز، وهم أقَلُّ إذن من الكُتَّابِ المنصفين الذين يمدحون ويقدحون، ولا يعجبون إلا وهم متحفزون لملام.
عرض لي هذا الخاطر، فذكرت قصة العاهل[6] الذي تحاكم إلى قاضيه مع بعض السوقة[7] في عقار، يختلفان على ملكه، فحكم القاضي للسوقة بغير العدل ليغنم سمعة العدل في محاسبة الملوك، وعزله العاهل؛ لأنه ظلم وهو يبتغي الرياء بظلمه، فكان أعدل عادل حين بدا كأنه يحرص على مالٍ مغصوبٍ ويجور على تابع جسور[8]؛ لأنه أنصف وهو مستهدف لتهمة الظلم، وقاضيه قد ظلم وهو يتراءى بالإنصاف.
قلت لنفسي: إن كنت قد أفدت شيئًا من مصاحبة عمر بن الخطاب في سيرته وأخباره، فلا يحرجنك أن تزكي عملًا له كلما رأيته أهلًا للتزكية، [13]وإن زعم زاعم أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب.
وهذه هي الأسوة العمرية في الحساب.
فالحقُّ أنني ما عرضت لمسألة من مسائله التي لغط بها الناقدون إلَّا وجدته على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب.
وإنَّ أعسر شيء أن تحاسبَ رجلًا كان أشد أعدائه لا يبلغون من عسر محاسبته بعض ما كان يبلغه هو في محاسبة نفسه، وأحب الناس إليه.
ذلك رجل قَلَّ أن يجور عن القصد وهو عالم بجوره، وَقَلَّ أن يتيح لأحد أن يكسب دعوى الإنصاف على حسابه، إلا أن يكسبها أيضًا على حساب الحق والنقد الأمين.
فإذا عرفت منحاه من الخلق والرأي، وسلمت له مزاجه ووجهة تفكيره، فكن على يقين أنه لن يتجافى عن النهج السوي، ولن يتعلق بأمر يعدوه الصلاح ويشوبه السوء.
وذاك أحرج الحرج الذي عانيته في نقد هذا الرجل العظيم، وتلك حيطة معه إن لم يستفدها الكاتب، وهو مشغول بِعُمرَ ونهج عُمرَ؛ فشغله عبث ذاهب في الهواء.
***
وعلم الله لو وجدت شططًا في أعماله الكبار؛ لكان أحب شيء إليَّ أن أحصيه وأطنب فيه، وأنا ضامن بذلك أن أرضي الأثر وأرضي الحقيقة، ولكني أقولها بعد تمحيص لا مزيد عليه في مقدوري: إنَّ هذا الرجل العظيم أصعب من عرفتُ من عظماء الرجال نقدًا ومؤاخذةً، ومن فريد مزاياه أنَّ فرطَ التمحيص وفرطَ الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان.
وكتابي هذا ليس بسيرة لِعُمرَ ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلمِ الأخلاق وحقائقِ الحياة، فلا قيمةَ للحادث التاريخي جلَّ أو دقَّ إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغرُ الحادث أن أقدمه [14]بالاهتمام والتنويه[9] على أضخم الحوادث، إن كان أوفى تعريفًا بعمرَ، وأصدق دلالة عليه.
وعمرُ يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه؛ لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدينها أنَّ البأس والحقَّ نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيمًا واحدًا كعمرَ بنِ الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية من أساسه؛ لأننا سنفهم رجلًا كان غايةً في البأس، وغايةً في العدل، وغايةً في الرحمة …
وفي هذا الفهم ترياق[10] من داء العصر، يشفى به من ليس بميئوس الشفاء.
وإنه لجهاد جديد[11] لعمر بن الخطاب، يطيب لنا أن نوجزه في كتاب.
عباس محمود العقاد
أي شاق
تصنيف:
عبقرية عمر
================
المشاة
أي معاهد
بمعني يشجعوا
استرسل :أي قال
يدافعها
الملك الاعظم کالخليفة
الرعية
الجسور : المقدام
نوه بالشيء : رفع ذكره
الترياق : دواء مركب اخترعه «ماغنيس» ، وتممه «أندروماخس» القديم بزيادة لحوم الأفاعي فيه، وقد سمي بهذا لانه نافع من لدغ الهوام السبيعية
===============
عبقريٌّ
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عبقري
[15]
عبقري
«… لم أر عبقريًّا يفري فريه[1]...»
كلمة قالها النبي — عليه السلام — في عمرَ — رضي الله عنه — وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خُلِق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
فمن علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان في غيرها، أولاهما: أن تبتعث كوامن[2] الحياة، ودوافع العمل في الأمة بأسرها، وفي رجالها الصالحين لخدمتها، والأخرى: أن تنفذَ ببصيرتها إلى أعماق النفوس، فتعرف بالبديهة الصائبة[3] والوحي الصادق فيم تكون عظمة العظيم، ولأي المواقف يصلح، وبأي الأعمال يضطلع[4]، ومتى يحين أوانه، وتجب ندبته، ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين.
كلتا القدرتين كان لهما الحظ الوافر في سيرة عمرَ بن الخطاب.
فأين — لولا الدعوة المحمدية التي بعثت كوامن العظمة في أمة العرب — كنا نسمع بابنِ الخطاب؟ وأيُّ موضع له كان من مواضع هذا التاريخ العالمي الذي يزخر بكبار الأسماء؟
إنه الآن اسم يقترن بدولة الإسلام ودولة الفرس ودولة الروم، وكل دولة لها نصيب في التاريخ، فأين كنا نسمع باسم عمرَ لولا البعثة المحمدية؟!
لقد كان — ولا ريب — خليقًا[5] أن يستوي على مكان الزعامة بين بني عدي — آله الأقربين — أو بين قريش — قبيلته الكبرى — ثم ينتهي شأنه هناك، كما انتهى شأن زعماء آخرين، لم نسمع لهم بخبر؛ لأنهم عظموا أو لم يعظموا، يعطون البيئة كفاء[6] ما تطلب من جهد ودراية، وهي تطلب منهم ما يذكرون [16]به في بيئتهم، ولكنها لا تطلب منهم ما يذكرون به في أقطار العالم البعيد.
وقد كان عمرُ قويَّ النفس، بالغًا في القوة النفسية، ولكنه على قوَّته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان بغير دافع يحفزه إليه وهو كاره؛ لأنه كان مفطورًا على العدل، وإعطاء الحقوق، والتزام الحرمات ما التزمها الناس من حوله، وكان من الجائز أن يهيجه خطر على قبيلته، أو على الحجاز ومحارمه المقدسة في الجاهلية؛ فينبري لدفعه، ويبلي في ذلك بلاء يتسامع به العرب في جيله وبعد جيله، ولكنه لا يعدو ذلك النطاق، ولا هو يبالي أن يمعن في بلائه حتى يعدوه.
بل كان من الجائز غير هذا وعلى نقيضه..
كان من الجائز أن تفسدَ تلك القوة بمعاقرة الخمر والانصراف إليها؛ فإنه كان في الجاهلية — كما قال — «صاحبَ خمرٍ يشربها ويحبها» وهي موبقة،٣ لا تؤمَن حتى على الأقوياء إذا أدمنوها، ولم يجدوا من زواجر الدين أو الحوادث ما يصرفهم عنها، ويكفهم عن الإفراط في معاطاتها.
فعمرُ بن الخطاب الذي عرفه تاريخ العالم وليد الدعوة المحمدية دون سواها، بها عُرِف، وبغيرها لم يكن ليعرف في غير الحجاز أو الجزيرة العربية.
أما القدرة الأخرى التي يمتاز بها العظيم الذي خُلق لتوجيه العظماء، فقد أبان عنها النبي — عليه السلام — في كل علاقة بينه وبين عُمرَ من اللحظة الأولى؛ أي من اللحظة التي سأل الله فيها أن يعز به الإسلام، إلى اللحظة التي ندب فيها أبا بكر للصلاة بالناس وهو — عليه السلام — في مرض الوفاة.
سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه في أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذي يتقدم فيه على غيره، والموقف الذي هو أولى بتقديم غيره عليه.
وليست هي مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين..
ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع [17]فيه، والمهمة التي ينبغي أن يُندَب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه.
وربما رأينا في زماننا هذا رئيسًا يوصي لنصيرٍ من أنصاره بالوزارة، ويوصي لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجِّح أحدهما على الآخر في ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلًّا منهما لموضعه في الوقت الذي يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحدٍ منهما في هذا الاختيار.
فالنبي — عليه السلام — كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهما أَجَلَّ معادلة حين قال: «إنَّ الله عز وجل ليليِّن قلوب رجال فيه حتى تكون أَلْين من اللبن، وإنَّ الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، ومثلك كمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.»
كان النبي — عليه السلام — يعلم — كما قال — أنَّ عمر أَشدُّ المسلمين في الله، ويعلم أنَّ في أبي بكر لينًا وهوادةً؛ فجمع للإسلام المزيتين حين اختار أبا بكر للصلاة، وضمن هذا الاختيار معنى من معاني الاستخلاف، أو كما جاء في بعض الروايات أنه نص على استخلاف أبي بكر بالقول الصريح.
فتعزيز الإسلام بعد نبيِّه كان في حاجة إلى كثير من الهوادة والمجاوزة، وكان كذلك في حاجة إلى كثير من الشِّدَّةِ والصَّرامة، ولن تذهب شِدَّةُ عمرَ إذا احتاج إليها أبو بكر في محنةٍ يشتد فيها اللين الوديع، إنما الخوف أن يذهب لينُ أبي بكر إذا اشتدَّ عمر، ولا خوف من أن يلين عمرُ وأبو بكر شديد؛ فإن الموقف إذا استنفد حجج الرحمة حتى يلجأ فيه أبو بكر إلى البأس ويصر عليه، فأقرب شيء أن يعدل عمرُ عن لينه، وأن يثوب إلى [18]المعهود من صرامته ولدده
وكان النبي — عليه السلام — يعلم أنَّ احتمالَ التبعةِ أو «المسئولية» خَلِيقٌ أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللَّيِّنُ إلى الشِّدَّةِ، ويجنح الشَّديدُ إلى اللِّينِ؛ لأننا إذا قلنا إنَّ رئيسًا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.
وهذا الذي ظهر أعجب ظهورٍ في موقفي الصاحبين من حرب الرِّدَّةِ؛ فإن عمرَ الشديدَ قد آثرَ الهوادة، وأبا بكر الرقيقَ قد آثرَ القتال وأصرَّ عليه. وكان عمرُ يقول: «إنَّ رسولَ اللهِ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم»، ثم يقول للخليفة: «الزم بيتَكَ ومسجدَكَ، فإنه لا طاقةَ لك بقتالِ العرب.»
وكان أبو بكر يقول متسائلًا: «أإن كثر أعداؤكم وقَلَّ عددُكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرنَ الله هذا الدِّين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، والله — أيها الناس — لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين!»
هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحقِّ شدتين.
وهَبِ الأمر مع هذا قد اختلف في موقف الصاحبين، فمَالَ أبو بكر إلى السِّلْمِ والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة [19]المرتدين؛ لأنه يعلم أنه المسئول عن بسط هذا الوجه دون غيره، فلا تفوت الإسلام مزية من مزايا الصاحبين.
إنَّ محمدًا — عليه السلام — قد عرف من هُم رجاله، وما هو الموقف الذي هم مقبلون عليه بعد وفاته، فعرف الموضع الذي يضع فيه كلًّا منهم، والعمل الذي يتولاه خير ولاية في ذلك الموضع، ولم يفته أن يحسب حساب التبعة، وما في احتمالها من ضمان للأخلاق الصالحة والعقول الراجحة، وأبو بكر وعمر من خيرة أصحاب هذه الأخلاق وهذه العقول.
ولا يحسبن حاسب أننا نفسر الأمور بما كشفته لنا الحوادث بعد وقوعها، ولم يكن مقصودًا في النِّيَّاتِ قبل ذلك، فإن الذي يحسب هذا الحسبان يخطئ تلك الخطأة الشائعة، التي لا تثبت على أقل نصيب من الروية والمراجعة، يخطئ في وهمه خطأة الذين يتخيلون أنَّ هذه السياسات العالية من بدع[7] الزمن الأخير، وليست هي من البدع في زمن كان؛ لأن العظمة لم تكن قط وقفًا على العصر الحديث، ولا سيما العظمة التي ترجع إلى الفطرة القويمة، والبديهة النافذة، والنظر السديد.
فكل هذا التقدير الذي أجملنا شرحه، كان تقدير قصد وتدبير، وكان مفهومًا على البداهة بين ولاة الأمر في تلك الآونة، ملحوظًا بينهم في مناجاة النيات، قبل أن نلحظه نحن في عصرنا هذا من تفسير حوادث التاريخ..
وإلى ذلك أشار عمر في قول صريح، حين قال لمن هابوه[8] وتحدثوا بخوف الناس منه: «بلغني أنَّ الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق، فقد كنت مع رسول الله ﷺ فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ، فكنت بين يديه سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله» [20]ﷺ على ذلك، حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكر دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله — عز وجل — وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد، ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أنَّ تلك الشدة قد أضعفت،٥ ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعضٍ لبعض.»
بل ظهرت آثار الشعور بالتبعة بعد موت النبي، والحال على أشده في يوم السقيفة، والمسلمون مختلفون على من يلي الأمر بعد محمد، حتى قيل فيما قيل: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير!
ففي تلك المحنة التي تشخص فيها الأبصار، وتعظم التبعات، وتودي زلة الساعة فيها بالكثير الذي لا تستدركه الأعوام، كان عمرُ الحادُّ الشديدُ يخشى بوادر الحِدَّةِ من أبي بكر، ويهيئ الكلام الليِّن ليعالج الأمر بالرفق والتؤدة، ويقول فيما رواه عن محنته ذلك اليوم: «وكنت أداري منه بعض الحد — أي الحدة — فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رِسْلِك! فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر.»
عمرُ الحادُّ الشديدُ يحاذرُ من بوادر أبي بكر، وأبو بكر الحليم الوديع يكف عمر عن الكلام، فيطيع!
هؤلاء رجال يعرفهم صاحبهم، وهذه مواقف يعرفها صاحبها، وهذه مسألة فصل فيها الزمن، ولم يبقَ لنا نحن الذين نعود إليها ونستخلص عبرتها، إلا أن نراقب ما فيها من آيات الإعجاز، وسوابق النظر البعيد.
ما وضع أبو بكر خيرًا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر من داخل أهله، والطب الذي يطبهم به هو طب التآلف والإحجام عن السطوة ما كان إلى الإحجام عنها سبيل.
[21]وما وضع عمر خيرًا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر عليه من أعدائه المحدقين[9] به، والطب الذي يطبهم به هو طب الصلابة والحزم الذي لا يَنكُل[10] عن صراع.
وكأنما توقع النبي — عليه السلام — أنَّ أيام أبي بكر معدودات، ولكنها الأيام التي تحتاج إليه، وتكفي لإنجاز عمله، وتوقع أن يأتي عمل عمر في حينه المقدور، فلا يفوت الإسلام أن ينتفع بمقدرته في عهد أبي بكر ولا في عهده، نقول هذا على الترجيح، ومن حقِّنا أن نقوله على التوكيد؛ لأن حديث النبي فيه غنًى عن التخمين والتأويل، قال عليه السلام: «رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قَلِيب،٧ فجاء أبو بكر فنزع ذَنُوبًا٨ أو ذَنُوبين نزعًا ضعيفًا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربًا، فلم أرَ عبقريًّا يفري فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن.»
وفهم فقهاء الإسلام أنَّ ضعف النزع هو قصر المدة، وانصراف العزم إلى حرب الرِّدَّةِ، وأنَّ فيض الري على يد عمر هو فيض العبقرية التي ينفسح لها الأجل، وتنفسح أمامها منادح[11] العمل، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتى لغير العبقريين.
ولنا أن نفسر العبقرية بمعناها الذي يفهمه الأقدمون، أو بمعناها الذي نفهمه نحن المحدثين، فكلا المعنيين مستقيمٌ في وصفِ عمرَ بن الخطاب … أتراها على كلا المعنيين شيئًا غير التفرد والسبق والابتكار؟ كلا، ما للعبقرية مدلول يخرج عن صفة من هذه الصفات. ومن يكتب تاريخ عمر فقد يجد في النهاية أنه يكتب تاريخًا «لأول من صنع كذا، وأول من أوصى بكذا»، حتى ينتهي بسرد هذه «الأوليات» إلى عداد العشرات.
وتلك هي العبقرية التي لا يفري فريها أحد، كما قال صاحبه وأعرف الناس به، صلواتُ اللهِ عليه.
الندح : الكثرة والسعة
تصنيف:
عبقرية عمر
===============
فري الجلد: قطعه ليصلحه ، وفرى الفري أتي بالعجيب ، والمعنى أن عمر عبقري منفرد في عمله، فلا يقدر أحد على أن يصنع مثل صنيعه.
کوامن الاشياء : مکنوناتها وبواطنها
غير الخاطئة
يقوم بكفاءة
جديرا
أي فدر
اخترعه، ويبرع: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الامر : أي بديع.
من الهيبة.
أحدقوا به : أحاطوا به
لا يجبن
===================
رجلٌ ممتازٌ
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/رجل ممتاز
[22]
رجل ممتاز
يُوصَفُ عمرُ بالعبقريَّةِ إذا نظرنا إلى أعماله، ويُوصَفُ بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعدًّا لتلك الأعمال، مضطلعًا بتلك القدرة، وإن لم يكن من اللازم اللازب[1] أن تقترن القدرة بالعمل الذي تستطيعه، لما يتفق أحيانًا من وقوف العوائق بينها وبين الإنجاز أو الاتجاه إلى ذلك العمل ..
إلا أنَّ عمر كان رجلًا ممتازًا بعمله، ممتازًا بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين، من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين ..
إذا وصفته للأقدمين الذين يقيسون العبقريَّةَ بالفَراسة[2] والخبرة، عرفوا من صفته أنَّ الذي يوصف لهم رجل ممتاز، أو رجل نسيج وحده
وإذا وصفته للمحدثين الذين يقيمون[3] العبقريَّة بالعلم أو مشاهدات العلماء، عرفوا من تلك الصفة أنه رجل ممتاز، أو رجل موهوب
كانت نظرة إليه — قبل السماع بعمل من أعماله — توقع في الروع[4] أنه من معدنٍ في الرجال غيرِ معدن السواد،[5] وأنه جدير بالهيبة والإعظام، خليق أن يحسب له كل حساب.
كان مهيبًا رائع المحضر حتى في حضرة النبي الذي تتطامن عنده الجباه، وأولها جبهة عمر.
أذنَ النبي يومًا لجارية سوداء أن تفي بنذرها «لتضربنَّ بدفها فرحًا أن ردَّه الله سالمًا»، فأذن لها عليه السلام أن تضرب بالدف بين يديه. ودخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، والصحابة مجتمعون.
[23]فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت[6] الجارية، وأسرعت إلى دفها تخفيه، والنبي — عليه السلام — يقول: «إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمرُ!»
وروت السيدة عائشة رضي الله عنها أنها طبخت له عليه السلام حريرة، ودعت سودة أن تأكل منها فأبت .. فعزمت عليها لتأكلن أو لتلطخن وجهها، فلم تأكل، فوضعت يدها في الحريرة [7] ولطختها بها. وضحك النبي عليه السلام وهو يضع حريرة بيده لسودة، ويقول لها: «لطخي أنت وجهها» ففعلت.
ومر عمر فناداه النبي: يا عبد الله! .. وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما: قوما فاغسلا وجهيكما!
قالت السيدة عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
ومن تلك الهيبة أنها كانت رضي الله عنها تتحفظ في زيارة قبره بعد موته، وحكت ذلك فقالت: « ما زلت أضع خماري[8]، وأتفضل في ثيابي، وأقول: إنما زوجي وأبي، حتى دفن عمر بن الخطاب، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارًا فتفضلت[9] بعد.»
وإنَّ من أدب الرسول عليه السلام، أنه كان يرعى تلك الهيبة رضًا عنها، واغتباطًا[10] بأثرها في نصرة الحق وهزيمة الباطل، وتأمين الخير والصدق، وإخافة أهل البغي والبهتان[11].
وقد كان الذين يعرفون عمرَ أهيب له من الذين يجهلونه .. وتلك علامة على أنَّ هيبتَهُ كانت قوةَ نفسٍ تملأ الأفئدة قبل أن تملأ الأنظار .. فربما اجترأ عليه من لم يعرفه ومن لم يختبره؛ لتجافيه[12] عن الخيلاء، وقلة اكتراثه[13] للمظهر والثياب، أما الذين عرفوه واختبروه فقد كان يروعهم على المفاجأة روعة لا تذهبها الألفة وطول المعاشرة، ومن ذاك أنه كان يمشي ذات يوم، وخلفه عدة من أصحاب رسول الله، إذ بدا له فالتفت، فلم يبقَ منهم أحد إلا وحبل ركبتيه ساقط!
وتنحنح عمر والحجام يقص له شعره، فذهل الحجام عن نفسه، [24]وكاد أن يُغشَى عليه، فأمر له بأربعين درهمًا.
فهي هيبةٌ من قوَّةِ النَّفسِ قبل أن تكون من قوَّةِ الجسد، إلا أنه مع هذا كان في منظر الجسد رائعًا يهول من يراه، ولا يُذهِب الخوفَ منه إلا الثقة بعدله وتقواه.
كان طويلًا بائنَ الطولِ يُرى ماشيًا كأنه راكب، جسيمًا صلبًا يصرع الأقوياء، ويروض الفرس بغير ركاب، ويتكلم فيسمع السامع منه وفاق ما رأى من نفاذ قولٍ وفصلِ خطابٍ.
تشهد العيون كما تشهد القلوب أنه لمن معدن العظمة، أو معدن العبقرية والامتياز بين بني الإنسان، وللمحدثين علامات في العبقرية تتصل بالتكوين وتركيب الخلقة كما تتصل بمدلول الأخلاق والأعمال.
فالعالم الإيطالي «لومبروزو» ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أنَّ للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها، وهي علامات تتفق وتتناقض، ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة.
فيكون العبقري طويلًا بائن الطول، أو قصيرًا بيِّن القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره، أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور، وفرط الحِسِّ، وغرابة الاستجابة للطوارئ، فيكون فيهم من تفرط سورته، كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة وَلَعٌ بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يلحظ تارةً في الزكانة٧ والفراسة، وتارةً في النظر على البعد، وتارةً في الحماسة الدينية، أو في الخشوع لله.
ومهما يكن من الشك في استقصاء هذه العلامات، والمطابقة بين تفصيلاتها وبين الواقع، فهي — بلا ريب — صادقة في حالات، مقاربة في حالات، غير أهل في كل حال للتصديق التام، ولا للبعد التام، ولا سيما عندما تتفق فيها الظواهر والبواطن، وتتلاقى فيها ملاحظات العلماء وشواهد [25] العرف المأثور.
وفي عمر بن الخطاب من هذه العلامات كثير. كان — كما تقدم طويلًا — يمشي كأنه راكب، وكان أعسر يسرًا؛ يعمل بكلتا يديه، وكان أصلع خفيف العارضين، وكان كما وصفه غلامه، وقد سأله بلال: كيف تجدون عمر؟ فقال: خير الناس، إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم.
وكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأَثَّر البكاءُ في صفحتي[14] وجهه، حتى كان يُشاهدُ فيهما خطَّان أسودان.
ومن فرط حسِّه وتوفز شعوره أنه كان يميز بين بعض المذوقات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها؛ سقاه غلامه ذات يوم لبنًا فأنكره، فسأله: ويحك! من أين هذا اللبن؟ قال الغلام: إنَّ الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقةً من مال الله.
وقد عرفنا أهل البادية، وعرفنا أنهم جميعًا أصحاب إبل وألبان، ولكننا لم نجد منهم إلا قليلًا يدَّعون أنهم يفرِّقون بين لبنِ الناقة ولبنِ غيرها هذه التفرقة السريعة، ولا سيما في المناخ الواحد والمرعى المتقارب.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أنَّ «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، وتُرْوَى له في أمر هذه الفراسةِ رواياتٌ قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى كثير، ولكنها على كلتا الحالتين تنبئنا بحقيقة لا شك فيها، وهي أنه اشتهر بالفراسة وحبِّ التفرس، والاستنباط بالنظرة العارضة، فمن ذلك أنه كان جالسًا، فمَرَّ به رجل جميل، فقال ما معناه: أحسبه كان كاهنهم في الجاهلية. فكان كذلك!
ومنه أنه أبصر أعرابيًّا نازلًا من جبلٍ، فقال: هذا رجل مصاب بولده، قد نظم فيه شعرًا لو شاء لأسمعكم، ثم سأل الأعرابي: من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، فسأله: وما صنعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي. قال: وما وديعتك؟ قال: بُنَيٌّ لي، هَلكَ فدفنته. قال: فأسمعنا مرثيتك فيه. فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله [26]ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي. ثم أنشد أبياتًا ختمها بقوله:
فالحمدُ لله لا شريكَ له
في حكمه كان ذا وفي قدره
قدَّر موتًا على العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره
فبكى عمر حتى بَلَّ لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابيُّ.
وكان عميرُ بن وهب الجمحي وصفوانُ بن أمية يذكران مصاب أهل بدر، فقال صفوان: والله ما إنَّ في العيش بعدهم خير. فوافقه عميرُ، وهو يقول كالمعتذر من تخلفه عن الثأر: أما والله لولا دَيْنٌ علَيَّ ليس له عندي قضاءٌ، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعةَ بعدي؛ لركبت إلى محمدٍ حتى أقتله.
فقال صفوانُ يحرِّضه: علَيَّ دَيْنُكَ، أنا أقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فوقع كلامُهُ من نفس عمير، فأسر إليه بعزمه على الغدر بالنبي، وشحذ سيفه وسمَّهُ، ثم انطلق حتى قدمَ المدينة.
فما نظر إليه متوشحًا بالسيف حتى أوجس منه، وهمس لمن معه: هذا الكلبُ عدوُّ الله عميرُ بنُ وهب، ما جاء إلا لشرٍّ، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا٩ للقوم يوم بدر. ثم دخل على النبي فأخبره خبره، وعاد إلى عمير، فأخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه١٠ بها، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عمير.»
وجعل رسول الله يسأل عميرًا وهو يراوغ، حتى ضاقت به منافذ الإنكار فباح بِسرِّهِ، وأعلن الإسلامَ والتوبةَ.
هذه الفراسةُ وشبيهاتُها هي ضربٌ من استيحاء الغيب، واستنباطِ الأسرار بالنظر الثاقب. وما من عجبٍ أن تكون هذه الخصلة قرينة من قرائنِ العبقرية في حاشية من حواشيها؛ إذ ما هي العبقرية في لبابها كائنًا ما كان عمل المتصف بها؟ ما هي الحكمة العبقرية؟ ما هو الفنُّ العبقري؟ ما هو دهاء السياسة في الدُّهاة العبقريين؟ [27]من هو:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا؟
كل أولئك يلتقي في هبةٍ واحدةٍ، هي كشفُ الخفايا، واستيضاحُ البواطن، واستخراجُ المعاني التي تَدِقُّ عن الألباب، فاتِّصالهُا بالفراسة وشبيهاتها أمرٌ لا عجبَ فيه، ولا انحرافَ به عن النحو الذي تنتحيه.
والذي يعنينا من الفراسة وشبيهاتها في صدد الكلام عن عمرَ — رضوانُ اللهِ عليه — أن نحصي الخصالَ الأخرى التي هي كالفراسة في هذا الاعتبار، وهي التفاؤلُ والاعتدادُ بالرؤيا، والنظرُ أو الشعورُ على البعد أو «التلباثي» كما يسميه النفسانيون المعاصرون. ولكل أولئك شواهدُ شتَّى مما رُوِيَ عن عمر في جاهليته وبعد إسلامه، إلى أن أدركته الوفاةُ.
جاءه رسولٌ من ميدانِ نهاوند فسأله: ما اسمك؟ قال: قريب. وسأله مرة أخرى: ابنُ من؟ فقال: ابن ظفر. فتفاءل وقال: ظفرٌ قريبٌ إن شاءَ الله، ولا قوةَ إلا بالله.
ورَوى يحيى بنُ سعيد أنَّ عمر سأل رجلًا: ما اسمك؟ قال: جمرة. فسأله: ابن مَنْ؟ قال: ابنُ شهاب. فسأله: ممن؟ قال: من الحرقة. وعاد يسأله: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام. وهكذا في أسئلة ثلاثة أو أربعة عن مسكنه وموقعه، والرجل يجيب بما فيه معنى النار ومرادفاتها، حتى استوفاه، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا.
وقد يكون التأليف ظاهرًا في هذه القصة، ولكنها مع تأليفها، لا تخلو من الدلالة على اشتهار عمر باستكناه الألفاظ في معرض التفاؤل أو الإنذار.
أما الرؤيا فآخر ما رُوِيَ عنه من أخبارها أنه رأى قُبَيل مقتله كأن ديكًا نقره نقرتين، فقال: يسوقُ اللهُ إِلَيَّ الشهادةَ ويقتلني أعجمي؛ فإن الدِّيك في الرؤيا يُفَسَّر برجل من العَجَم. على أنَّ المكاشفة أو الرؤيا Vision كما يسميها النفسانيون [28]المحدثون، إنما تظهر بأجلى وأعجب من هذا كثيرًا في قصة سارية المشهورة، وهي مما يلحقه أولئك النفسانيون بهبة التلباثي Telepathy أو الشعور البعيد.
كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة، ونادى: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
فلم يفهم السامعون مُراده، وقضى صلاته، فسأله علِيٌّ — رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أَوَسَمِعْتهُ؟ قال: نعم، أنا وَكُلُّ من في المسجد.
فقال: وقع في خلدي أنَّ المشركين هزموا إخواننا، وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج منِّي هذا الكلام.
وجاء البشيرُ بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتًا يشبه صوت عمر، يقول: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! فعدلنا إليه، ففتح الله علينا.
ولا داعي للجزم بنفي هذه القصة استنادًا إلى العقل أو إلى العلم أو إلى التجربة الشائعة، فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها، ونفي أمثالها، بل منهم من مارسوا «التلباثي» وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين، إلا أنَّ المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد، أنَّ عمرَ كان مشهورًا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية، إما بالفراسة، أو الظن الصادق، أو الرؤية، أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة، وراقبوها، وأكثروا من المقارنات فيها، والتعقيبات عليها.
فهو رجلٌ نادرٌ بما تراه منه العين، نادر بما تشهد به الأعمال والأخلاق، نادرٌ في مقاييس الأقدمين ومقاييس المحدثين.
أو هو رجل ممتاز، وعبقريٌّ موهوبٌ في جميع الآراء.
صفحة كل شيء: جانبه.
تصنيف:
عبقرية عمر
=========
الثابت
من التفرس، وهو التثبت وبعد النظر۰
من قوم السلعة : اذا قدر قيمها
العقل والقلب
سواد الناس: عوامهم
أمسكت عن ضرب الدف
دقيق يطبخ بلبن أو دسم
أنزعه وأخلصه
أي النبذل
أي سرورا وفرحا
أي الباطل
لابتعاده
أي اهتمامه
============
صِفاتُه
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/صفاته
[29]
صفاته
حن على هذا أمام رجل لا كالرجال، رجل عبقري، أو رجل ممتاز من خاصة الخليقة الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من الآحاد.
أنقول: رجل قوي؟! نعم، هو رجلٌ قويٌّ لا مراءَ، وكلُّ عظيم فهو قويٌّ بمعنى من معاني القوة. نعلم هذا، فنعلمُ الشيء المهم عنه، ولكننا بعد هذا لا نعلم شيئًا مهمًّا عن صفاته وأخلاقه؛ لأن الناسَ من حيث القوة أقوياء وضعفاء، أو متوسطون ومنحرفون، إلى هنا تارةً، وإلى هناك تارةً أخرى. أما من حيث الصفات والأخلاق، فهم ألوف وألوف، وهم في قوتهم أو ضعفهم أنماط لا تحصى من المناقب والعيوب، وأَحْرَى بنا أن نقول: إنَّ القوةَ صفةٌ تستفاد من جملة مناقبِ الإنسان وعيوبِهِ، فهي حالة تدل عليها المناقب والعيوب، أو تدل عليها الصفات والأخلاق، وليست هي بالحالة التي تدلنا على مناقب الإنسان وعيوبه، وتهدينا بغير هادٍ إلى صفاته وأخلاقه.
فإذا قلت: إنَّ عمرَ بنَ الخطاب رجل قويٌّ، فما زِدْتَ على أن تقول: إنه رجل عبقريٌّ، أو إنه رجل عظيم.
وكُلُّ رجلٍ من هذا القبيل، فمعرفته ليست بالأمر اليسير؛ لأنه نمطٌ لا يتكرر، فيسهل فهمه بالقياس إلى أمثاله الكثيرين. وقد يكون الرجل العظيم نمطًا وحيدًا في التاريخ كله، لا نظيرَ له في تفصيل أخلاقه وصفاته، وإن ساواه في القَدْرِ أنداد وقرناء. وعمرُ بنُ الخطاب مَثَلٌ فَذٌّ من أمثلةِ هذا الطراز الفريد، تفهم سره؛ فإذا هو على وفاق مع جهره، وتنفذ إلى باطنه، فإذا هو مُصدِّقٌ للظاهر من سيماه.١
فهل حللنا العقدة بهذا التقريب بين الظاهر والباطن، وبين الجهر والسريرة؟.. كلا .. ولا تقدمنا بعيدًا في طريق حلها؛ لأننا لا نعرف [30]هذا التقارب إلا بعد معرفة السريرة التي نبحث عنها، فلا بدَّ إذن من البحث، ولا بدَّ من المعرفة، فإذا وصلنا إلى الغور البعيد عرفنا ساعتئذ أنه لا يناقض الظاهر المكشوف، ولكن لا بدَّ من الوصول إلى الغور البعيد قبل ذاك.
لا تناقض في خلائقِ عمرَ بنِ الخطاب، ولكن ليس معنى ذلك أنه أيسر فهمًا من المتناقضين، بل لعله أعضلُ فهمًا منهم في كثير من الأحوال؛ فالعظمةُ على كلِّ حالٍ ليست بالمطلب اليسير لمن يبتغيه، وليست بالمطلب اليسير لمن ينفذ إلى صميمه ويحتويه.
إنما الأمر الميسور في التعريف بهذا الرجل العظيم؛ أنَّ خلائقه الكبرى كانت بارزة جدًّا لا يسترها حجاب؛ فما من قارئ ألمَّ بفذلكة صالحة من ترجمته إلا استطاع أن يعلم أنَّ عمرَ بن الخطاب كان عادلًا، وكان رحيمًا، وكان غيورًا، وكان فطنًا، وكان وثيقَ الإيمان، عظيمَ الاستعداد للنخوة الدينية. فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان الوثيق صفاتٌ مكينةٌ فيه لا تخفى على ناظر، ويبقى عليه بعد ذلك أن يعلمَ كيف تتجه هذه الصفات إلى وجهةٍ واحدةٍ، ولا تتشعب في اتجاهها طرائق قددًا،٢ كما يتفق في صفات بعض العظماء، بل يبقى عليه بعد ذلك أن يعلم كيف يتمم بعض هذه الصفات بعضًا، حتى كأنها صفة واحدة متصلة الأجزاء متلاحقة الألوان.
وأعجب من هذا في التوافق بين صفاته، أنَّ الصفةَ الواحدة تستمد عناصرها من روافد شتى، ولا تستمدها من ينبوع واحد، ثم هي مع ذلك متفقة لا تتناقض، متساندة لا تتخاذل، كأنها لا تعرف التعدد والتكاثر في شيء.
خُذْ لذلك مثلًا: عدله المشهور الذي اتَّسَمَ به، كما لم يتَّسم قط بفضيلة من فضائله الكبرى، فكم رافدة لهذا الخلق الجميل في نفس ذلك الرجل العظيم؟
[31]روافد شتى: بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم[1] إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق.
لم يكن عمر عادلًا لسبب واحد، بل لجملة أسباب:
كان عادلًا؛ لأنه ورثَ القضاءَ من قبيلته وآبائه، فهو من أَنْبَهِ[2] بيوت بني عدي الذين تولوا السفارة والتحكيم في الجاهلية، وراضوا[3] أنفسهم من أجل ذلك جيلًا بعد جيلٍ على الإنصاف وفصل الخطاب، وَجَدُّهُ نفيلُ بنُ عبد العزى هو الذي قضى لعبد المطلب على حرب بن أمية حين تنافرا إليه، وتنافسا على الزعامة، فهو عادلٌ من عادلين، وناشئٌ في مهدِ الحكم والموازنة بين الأقوياء.
وكان عادلًا؛ لأنه قويٌّ مستقيمٌ بتكوين طبعه، وإن شئت فقل أيضًا بتكوينه الموروث؛ إذ كان أبوه الخطَّاب وجَدُّه نفيل من أهل الشدة والبأس، وكانت أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة قائد قريش في كل نضال، فهو على خليقة الذي لا يحابي؛ لأنه لا يخاف، والذي يخجل من الميل إلى القوي؛ لأنه جُبن، ومن الجور على الضعيف؛ لأنه عِوَج يزري بنخوته وشممه. وكان عادلًا؛ لأن آله من بني عدي قد ذاقوا طعمَ الظلم من أقربائهم بني عبد شمس، وكانوا أشداءَ في الحرب يُسَمُّونهم لعقة الدم،٤ ولكنهم غُلِبوا على أمرهم لقلة عددهم بالقياس إلى عدد أقربائهم، فاستقرَّ فيهم بغضُ القويِّ المظلوم للظلم، وحبه للعدل الذي مارسوه ودَرِبوا عليه، وساعدت عِبَر الأيام على تمكين خليقة العدل في خلاصة هذه الأسرة، أو خلاصة هذه القبيلة، ونعني به عمر بن الخطَّاب.
وكان عادلًا بتعليم الدِّين الذي استمسك به، وهو من أهله بمقدار ما حاربه وهو عدُّوه؛ فكان أقوى العادلين، كما كان أقوى المتقين والمؤمنين.
وكذلك اجتمعتْ عناصرُ الوراثة الشعبية، والقوَّة الفردية، وعبر الحوادث، وعقيدة الدِّين في صفة العدل التي أوشكت أن تستولي فيه على [32]جميع الصفات.
كان عادلًا لأسباب، كأنه عادلٌ لسببٍ واحدٍ لقلَّة التناقض فيه. وربما كان تعدُّد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها؛ لأنه منحَها القوةَ التي تشدها كما يشد الحبل المبرم[4]، فلا تتفكك ولا تتوزع، فكان عمرُ في جميع أحكامه عادلًا على وَتِيرَةٍ[5] واحدة لا تفاوت بينها، فلو تفرقت بين يديه مائة قضية في أعوام متباعدات، لكنت على ثقة أن تتفق الأحكام كلما اتفقت القضايا، كأنه يطبعها بطابع واحد لا يتغير.
إلَّا أنَّ الصفات إذا بلغت هذا المبلغ من القوة الرائعة، لم تكد تسلم من طروءِ التناقض عليها، وإن سلمت منه بطبيعتها؛ لأنها تدخل في صفات البطولة التي تثير الإعجاب والمبالغة، وكلُّ بطولة فهي عرضةٌ للمبالغات والإضافات، ومن ثمَّ لا تسلمُ من تناقض الأقاويل.
وصفاتُ عمرَ كلُّها صفات لها طابع البطولة، وفيها دواعي الإغراء بالإعجاب والمبالغة. وممن؟! من الأصدقاء المصدقين؛ لأنهم لا يتهمون بقصد السوء، وهم في الواقع أولى بالاحتراس من الخصوم المتهمين، فمن هنا يجيء التناقض لا من طبيعة الصفات التي تأباه.
فالعدل مثلًا هو المساواة بين أبعد الناس وأقربهم في قضاء الحقوق، وإقامة الحدود.
وليس أقرب إلى الحاكم من ابنه.
فإذا سَوَّى الحاكم بين ابنه وسائر الرعية، فذلك عدلٌ مأثورٌ يَقْتدي به الحاكمون.
ولقد سَوَّى عمر بين أبنائه وسائر المسلمين، فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين الحكام.
وذلك كافٍ في تعظيمِ قَدْرِه، لا حاجةَ بعده إلى مزيد.
إلا أنها صفةٌ من صفاتِ البطولة التي تروع[6] وتعجب، وتملأ النفسَ بالرغبة في التحدث بها والإطنابِ[7] في أحاديثها، فهي لا تكفي المبالغين حتى [33]يجعلوا عمرَ مقيمًا للحدِّ على ابنه، مشتدًّا في عقوبته اشتدادًا لا يُسوَّى فيه بينه وبين غيره. ثم لا يكتفي المبالغون بهذا حتى يموت الولد قبل استيفاء العقوبة، فيمضي عمر في جلده وهو ميت لا تقام عليه الحدود! ومن اعتدل من المبالغين لم يذكر الموت وإتمام العقوبة، وذكر لنا أنَّ الولد مات بعد ذلك بشهر من مرض الضرب الذي ثقل عليه، وعجزَ عن احتمالِه..
نعني بما تقدم قصة عبد الرحمن بن عمر في مصر، وهي كما رواها عمرو بن العاص والي مصر يومئذ حيث يقول: «… دخلا — عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة — وهما منكسران، فقالا: أَقِمْ علينا حَدَّ الله، فإنَّا قد أصبنا البارحة شرابًا فسكرنا. فزبرتهما٥ وطردتهما، فقال عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه. فحضرني رأي، وعلمت أني إن لم أُقِمْ عليهما الحدَّ غضبَ عليَّ عمر في ذلك وعزلني، وخالفه ما صنعت، فنحن على ما نحن عليه، إذ دخل عبد الله بن عمر، فقمت إليه فرَحَّبْت به، وأردتْ أن أجلسَه في صدرِ مجلسي، فأبى عليَّ وقال: أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من ذلك بدًّا. إنَّ أخي لا يحلق على رءوس الناس، فأما الضرب فاصنع ما بدا لك.»
قال عمرو بن العاص: وكانوا يحلقون مع الحدِّ، فأخرجتهما إلى صحن الدار فضربتهما الحد، ودخل ابن عمر بأخيه إلى بيت من الدار، فحلق رأسه ورأس أبي سروعة، فوالله ما كتبت إلى عمر بشيء مما كان، حتى إذا تحيَّنت كتابه إذا هو نظم فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى العاصي ابن العاص « ... عجبتُ لك يا بن العاص ولجرأتِكَ عليَّ وخلاف عهدي! فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك؛ تضرب عبد الرحمن في بيتك، وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أنَّ هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلتَ: هو ولد أمير » [34]المؤمنين. وقد عرفت ألا هوادة[8] لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا، فابعث به في عباءة على قتب[9] حتى يعرف سوء ما صنع»..
قال: «فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت ابنَ عمرَ كتابَ أبيه، وكتبتُ إلى عمرَ كتابًا أعتذرُ فيه، وأخبرُهُ أني ضربته في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر.»
قال أسلم: «فقدم عبد الرحمن على أبيه فدخل عليه، وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من مركبه. فقال: يا عبدَ الرحمنِ فعلت كذا؟ فَكلَّمَهُ عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين، قد أُقِيمَ عليه الحدُّ مرَّة. فلم يلتفت إلى هذا عمر وزَبَره[10]، فجعل عبد الرحمن يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي. فضربه وحبسه، ثم مرض فمات رحمه الله.»
فهذه قصةٌ تتوافقُ أخبارُها ومن رُوِيَت عنهم، فلا نستغربها في جميع تفصيلاتها إلا حين تطرأ عليها المبالغة التي تتسرب إلى كل خبر من أخبار البطولات المشهورة، وذلك أن يقسو عمرُ على ابنه تلك القسوة التي لا يوجبها الدين، ولا تقبلها الفطرةُ الإنسانيَّة، فيُقيم عليه الحدَّ وهو ميتٌ، أو يُعَرِّضُه للموت من أجل حد أقيم.
هذا هو الغريب الذي استوقفنا فأنكرناه، ومضينا في تمحيصه[11]، فطابق التمحيص ما قدَّرناه، أما سائرُ القصة فلا غرابة فيه من كل نواحيه، بل هو من القصص التي يستبعد فيها التلفيق والاختراع[12]، إلا أن يكون الملفق من حذاق[13] الرواة ومهرة الوضاع.
ولو كان المصدر واحدًا معروفًا بالحذق في القصص لحسبناها من وَضْعِه وتلفيقِهِ، ولكنها سُمِعَتْ من غير مصدر موثوق به، فهي أقرب إلى الواقع فيما يشبهه، ويجري مجراه
فعبدُ الرحمن بن عمر يذهب إلى الوالي؛ لأنه شرب شيئًا ظنه غير مسكر، فإذا هو قد سكر منه، ولا مناصَ[14] من إقامة الحدِّ عليه، وإلا رفع [35]الأمر إلى أبيه، وهي شنشنة[15] عمرية لا لبس فيها، وهو ابن عمر لا مراء.
والوالي، ومن الوالي؟ عمرو بن العاص الذي لا خفاء بدهائه، ولا يبعد حسابه، فهو يتريث بادئ الأمر، ويحاولُ أن يصرف الفتى إذا طاب له الانصراف دون أن يقيم الحد عليه، وهي أيضًا شنشنة لا غرابة فيها؛ فمن يدري؟! ألا يجوز أن يصبح هذا الفتى أخًا للخليفة، أو مدبرًا للسلطان معه في يوم غير بعيد؟!
والخليفةُ يدري بالأمر فيهوله، ويستكبر أن يخفيه عنه واليه، فلا يصل إليه نبؤه من قبله، وهو ما هو في تحرجه من تبعة يحملها غافلًا عنها؛ لحرص الولاة على تحري هواه، وابتغاء رضاه، فيشفق أن يقع ابنه في معصية، ثم ينجو من الحد الذي شرعه الدين، وهو مسئول عن الولاة والحدود، ومسئول عن ذويه الأقربين قبل سائر المسلمين.
كل أولئك — كما قلنا — سائغ لا غرابةَ فيه.
أما الغريبُ من عمرَ حقًّا في معدلته وعلمه بالدين، وكراهته رياء الناس، فهو أن يتم على ابنه الحد وهو ميت، أو يشتد في إقامة الحد على ابنه حتى يتلف، أو يصاب بما يتلفه بعد أيام.
فلا موجبَ لذلك من حكم دين ولا اتقاء تبعة.
وهو مع هذا مخالف لما عرف عن عمر في إقامة الحدود، خاصةً وفي مثل هذه العقوبة بعينها. فقد جيء له يومًا بشارب سكران، وأراد أن يشتدَّ عليه فقال له: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع الأسود العبدي ليقيم عليه الحد في غده، ثم حضره وهو يضربه ضربًا شديدًا فصاح به: قتلت الرجل، كم ضربته؟ قال: ستين، قال: أقص عنه بعشرين؛ أي ارفع عنه عشرين ضربة من أجل شدتك عليه فيما تقدم من الضربات.
وقد كان من دأبه أن يتريث في إقامة الحدود، حتى ليؤثر — كما قال — تعطيلها في الشبهات على أن يقيمها في الشبهات.
[36]ومر بقوم يتبعون رجلًا قد أخذ في ريبة[16] فقال: لا مرحبًا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر
وربما غضب على الوالي من كبار الولاة لغلوِّه[17] في تقاضي الحدود على المعاصي، كما فعل في إنذاره الشديد لأبي موسى الأشعري حين جلد شاربًا، وحلق شعره، وسوَّد وجهه، ونادى في الناس ألا يجالسوه ولا يؤاكلوه، فأعطى الشاكي مائتي درهم، وكتب إلى أبي موسى: «لئن عدت لأسودن وجهك، ولأطوفن بك في الناس»، وأمره أن يدعو المسلمين إلى مجالسته ومؤاكلته، وأن يمهله ليتوب، ويقبل شهادته إن تاب.
وتفقد رجلًا يعرفه فقيل له: إنه يتابع الشراب. فكتب إليه: «إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.» فلم يزل الرجل يردِّدها ويبكي حتى صحَّت توبته وأحسن النزع، وبلغت توبته عمر، فقال لمن حضروا مجلسه: «هكذا فاصنعوا .. إذا رأيتم أخًا لكم زَلَّ زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه»
وقد تكرر منه إعفاء الزانيات من الحدِّ لشبهة القهر والعجز عن المقاومة، وتكرر منه الإعفاء لمثل هذا العذر في غير ذلك من الحدود.
فلم يكن عمر بالسريع المتعطش إلى إقامة الحدِّ، ولم يعرف عنه قط أنه أقام حدًّا وله مندوحة[18] عنه.
وفي قصة ولده منادح شتَّى ترضيه على شدة تحرجه وتحريه، ثم لا حاجة بمثله إلى رياء العدل، فيجور على ابنه، ويسرف في القسوة عليه، ليقال إنه سوَّى بينه وبين غيره.
وأصح من ذلك أن نأخذ برواية عبد الله بن عمر، وهو أحَقُّ الناس بالمبالغة في عدل أبيه لو كانت المبالغة مما يجمل بمثله، فقد روى هذه القصة فقال ما خلاصته: «أنَّ أخاه عبد الرحمن وأبا سروعة عتبة بن الحارث سكرا، فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طَهِّرنا فإنا قد سكرنا من شرابٍ شربناه!.. ولم أشعر أنهما أتيا عمرو بن [37]العاص، فقلت: والله لا يلحق اليوم على رؤوس الأشهاد[19]، ادخل أحلقك! وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد، فدخل معي الدار فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهما عمرو بن العاص، فسمع عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو أن ابعث إلَيَّ بعبد الرحمن بن عمر على قتب، ففعل ذلك عمرو .. فلما قدم عبد الرحمن على عمر جلده وعاقبه من أجل مكانه منه، ثم أرسله، فلبث شهرًا صحيحًا ثم صحيحًا، ثم أصابه قدره، فتحسب[20] عامة الناس أنه مات من الجلد، ولم يمت منه.
هذه رواية عبد الله عن أبيه وأخيه، ولو كان الأمر مبالغة في عدل عمر، لكان الابن أحق الناس بهذه المبالغة، أو كان الأمرُ رحمةً بعبد الرحمن، لكان الأخ أحق الناس بهذه الرحمة، ولكنه أمر صدق لا نقص فيه ولا زيادة.
فالذي يجوز لنا أن نقبله من هذه القصة هو الجانب الذي يستقيم مع خلائق[21] عمر ولا يناقضها، وهو العدل الصحيح في محاسبة ولده على ذنبه ولا زيادة، ولا سيما الزيادة التي لا تستقيم مع عدله ورحمته على السواء، وكلا العدل والرحمة من صفاته الأصيلة فيه.
نعم، كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة، فما عُهِدَ فيه أنه أحب العدل لغضه[22] من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المعتدى عليه.
ولا يمنعن ذلك أنه كان خشن الملمس، صعب الشكيمة[23]، جافيًا[24] في القول إذا استُغضِب واستُثِير، فليست الخشونة نقيضًا للرحمة، وليست النعومة نقيضًا للقسوة، وليس الذين لا يستثارون ولا يستغضبون بأرحم الناس؛ فقد يكون الرجل ناعمًا وهو منطوٍ على العنف والبغضاء، ويكون الرجل خشنًا وهو أعطف خلق الله على الضعفاء، بل كثيرًا ما تكون الخشونة الظاهرة نقابًا يستتر به الرجل القوي فرارًا من مظنة الضعف الذي يساوره من قبل الرحمة، فلا تكون مداراة الرقة إلا علامة على وجودها، وحذرًا من ظهورها.
[38]ومن المألوف في الطبائع أنَّ الرجل الذي يقسو وهو معتصم بالواجب قلما ينطبع على القسوة، ولا سيما إذا كان الواجب عنده شيئًا عظيمًا يزيل كل عقبة، ويبطل كل حجة، ويقطع كل ذريعة، فهو إنما يعتصم بالواجب في هذه الحالة، كما يعتصم الإنسان بالحصن المنيع كلما خشي أن تقتحم عليه طريقه، ولولا خوف الرحمة أن تغلبه لما كانت به حاجة إلى ذلك الحصن المنيع، ولا سيما حين يكون حصنًا بالغًا في المنعة، كما كان الواجب عند عمرَ بنِ الخطاب.
أرأيت هذا الرجل الصارم الحازم قاسيًا قط إلا باسم واجب أو في سبيل واجب؟ كلا، وما نذكر أننا سمعنا رواية واحدة من روايات شدته إلا لمحنا الواجب قائمًا إلى جانبها يزكيها ويسوغها. ومن كانت القسوة طبعًا فيه، فما هو بحاجة إلى واجب يغريه بالقسوة، بل هو في حاجة إلى واجبات عدة تنهاه عنها وتغريه باجتنابها.
وليس قصاراه في هذا الخلق أنه غير قاسٍ، أو أنَّ الرحمة كانت تنفذ إلى قلبه كلما طرقته، واتخذت سبيلها إليه، فإذا نصيبه من الرحمة قد كان أوفى جدًّا من ذاك، وكانت هذه الفضيلة من فضائله الأصيلة فيه لا تكاد تفارقه في عامة حياته، حتى ليصح أن تضرب الأمثال برحمته كما كانت تضرب الأمثال بعدله، وأن يقرن معه لقب العادل بلقب الرحيم.
وفي صدد الكلام عن الخليفة الإسلامي الكبير، قد يهمنا خلق الرحمة فيه خاصة؛ لأن شأنها في التقريب بينه وبين الإسلام غير قليل. فمن المحقق أنَّ رقته للمسلمين وللدين الذي يدينون به، كانت مقرونة في أول الأمر برحمته لامرأتين ضعيفتين رآهما في حالة من الشكوى تلين القلب، وتكف الغرب،١٢ وتمسح جفوة العناد والبغضاء.
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر حتى وقف عليَّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجًا. فقال: صحبكم الله [39]ورأيت منه رقة لم أرها قط.
وحديثه مع أخته فاطمة في سبب إسلامه مشهور متواتر في أوثق الروايات، فإنه ضربها حين علم بإسلامها فأدمى وجهها، فأدركتها الثورة الخطابية التي فيها منها بعض ما فيه، وقالت وهي غضبى: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال غير متريث: نعم، فقالت: ما كنت فاعلًا فافعل، أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك.
ويذكر لنا رواة القصة التي اتفقت عليها روايات كثيرة، أنه ندم وخلَّى عن زوجها — بعد أن صرعه وقعد على صدره — ثم انتحى ناحية من المنزل، وطلب الصحيفة التي كتبت فيها آيات القرآن، وخرج من ثمة إلى حيث لقي النبي، فأعلن شهادة الإسلام على يديه.
وغير عسير علينا أن نرقب طوية عمر، ونرى كيف كانت تتمشى فيها الخوالج والخطرات، وهو يتحدث إلى المرأتين: بنت حنتمة، وبنت الخطاب. فهذا بطل مناضل يشحذه النضال إذا لقي أنداده من الأبطال، وأقرانه من الرجال: الإساءة تتبعها الإساءة، والتحدي يعقبه التحدي، وكلما قوبل البطش بمثله تضرمت سَورة الغضب، وثارت نحيزة القتال،١٣ ومضى العداء شططًا لا اعتدال فيه، ولا نكوص عنه، حتى ينكسر عدو من العدوين، فلا موضع هنا لرحمة، ولا سبيل لها إلى ظهور. وتتمادى الشرة١٤ على ذلك شهورًا وسنين، وكأن الرحمة لم تخلق في النفس، ولم يسمع لها في حنايا الصدور صوت.
أما المرأة الشاكية أو المرأة الدامية إذا واجهت ذلك البطل القوي، فما حاجته إلى قوته ونضاله؟ وما أحرى تلك القوة أن تهدأ في مكانها كأنها هي الخليقة الخفية التي لم تخلق، وليس لها صوت مسموع! وما أقربها إذن إلى أن تخجل من إيذائها، وتندم على قسوتها، وتثوب إلى التوبة والخشوع، وهما من لباب الدين!
إنَّ العرب يشتقون الرحمة من الرحم أو القرابة، وهو اشتقاق عميق [40]المغزى يهدينا إلى نشأة هذه الفضيلة الإنسانية العالية، ومودة عمر بن الخطاب لرحمه وذوي قرباه لا تنحصر دلائلها في رحمته لأخته الشاكية الثائرة؛ فإن المرأة قد تُرحم لضعفها في موقف شكواها ويأسها، ولو كانت بعيدة الآصرة[25]، منقطعة النسب. إنما يدل على مودته لذوي قرباه ذلك الحب الذي كان يضمره لأبيه بعد موته، مع شدته عليه وغلظته في زجره وتأديبه، فكان يطيل الحديث عنه، وينقل أخباره، ويقسم باسمه، وظل يقسم باسمه وهو كهل إلى أن نُهي المسلمون عن القسم بأسماء من ماتوا على الجاهلية.
وندر بين الناس من أحب إخوته، كما كان عمر يحب أخاه زيدًا في حياته وبعد مماته، فما شاء أحد أن يبكيه إلا ذكره له ففاضت شئونه، وجعل بعد قتله يتأسى بمن أصيب مثل مصابه، ولا يرى أحدًا فقد أخًا له إلا التمس الأسوة عنده.
حكى أحمد بن عمران العبدي عن أبيه عن جده قال: «صليت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل[26] من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبًا قوسه، وبيده هراوة[27]، فسأله: من هذا؟ فقيل: متمم بن نويرة. فاستنشده رثاءه لأخيه، فأنشده حتى بلغ إلى قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة[28]
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا[29]
فلما تفرقنا كأني ومالكًا
لطول افتراق لم نَبِت ليلة معًا
فقال عمر: هذا والله التأبين، يرحم الله زيد بن الخطاب! إني لأحسب أني لو كنت أقدر على أن أقول الشعر لبكيته كما بكيت أخاك. ثم سأله: ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت، فبكيت بالصحيحة، فأكثرت البكاء حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. فقال عمر: إنَّ هذا لحزن شديد، ما يحزن هكذا أحدٌ على هالك. قال متمم: لو قتل أخي يوم اليمامة كما قتل [41]أخوك ما بكيت أبدًا. فصبر عمر وتعزَّى عن أخيه وقال: ما عزَّاني أحد عنه بأحسن مما عزيتني.»
هذا هو عمر من وراء النقاب.
فما كان أحوجه — رضي الله عنه — إلى ذلك النقاب! وما أقل الغرابة في ذلك النقاب من الشدة والهيبة، حين ينفذ الناظر إلى ما وراءه، فيرى مكان الحاجة إليه!
وقد يرحم الرجل أهل الرحم والقرابة، ويجفو غيرهم من الناس، ولكن الرحمة الأصيلة في الطباع تسوي في المودة ولا تفرق، وتخلق هي سبب الرحمة، ولا تنتظر حتى تفرضها عليها القرابة بأسبابها، فكان عمر — كما روى «الحسن» — يذكر الصديق من أصدقائه بالليل فيقول: يا طولها من ليلة! فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه.
وكان بكاء طفل يزعجه ويقطع عليه صلاته وينغص عليه ليله.
قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فاقترح على عبد الرحمن بن عوف أن يذهبا ليحرساهم من السرق، ثم باتا يحرسان ويصليان، فسمع بكاء صبي، فتوجه نحوه وقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك. ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فرجع إلى أمه كرة أخرى، ثم سمع بكاءه آخر الليل فقال لأمه: ويحك! إني لأراك أم سوء ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله قد أبرمتني[30] منذ الليلة، إني أربعه عن الفطام. فسألها: ولم؟ فقالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم! فسألها: وكم له؟ فلما علم أنها فطمته دون سن الفطام أمر مناديًا فنادى: ألا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
وقصته مع الصبية الجياع مشهورة، ولكنها تعاد لأنها أحق قصة بأن تعاد. قال أسلم: «خرجنا مع عمر — رضي الله عنه — إلى حرة واقم[31]، حتى إذا كنا بصرار[32] إذا نار تؤرث،[33] فقال: يا أسلم إني أرى ها هنا ركبانًا قصر بهم [42]الليل والبرد، انطلق بنا! فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون،١٩ فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. فأجابته امرأة: وعليكم السلام، فقال: أأدنو؟ فقالت: ادنُ بخير أو دع. فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع! قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر! فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ فقالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟ فأقبل عليَّ فقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلًا٢٠ من دقيق وكبة٢١ من شحم، وقال: احمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك. قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟! لا أم لك! فحملته عليه، وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا فجعل يقول لها: ذري عليَّ وأنا أحرُّ لك.٢٢
وجعل ينفخ تحت القدر، وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلالها حتى طبخ لهم، ثم أنزلها وأفرغ الحريرة في صحفة وهو يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم — أي أبرده — ولم يزل حتى شبعوا وهي تقول له: جزاك الله خيرًا، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين.»
وأمثال هذه القصة في سيرة عمر كثير، لا يقال إنها هي ومثيلاتها من الشعور بالتبعة وليست من الرحمة؛ لأن العهد بالشعور بالتبعة أن يأتي من الرحمة، وليس العهد بالرحمة أن تأتي من الشعور بالتبعة!
كذلك لا يقال إنه قد كان يطيع أمرًا سماويًّا تحركت له نفسه، أو لم تتحرك، فإن النفس التي تتحرك للأمر السماوي هي النفس التي فيه [43]الخير، ولها رغبة فيه، وقلما تشفق من عقاب السماء، إلا أن تشعر بأمل الظلم، ومبلغ استحقاقه للعقاب.
على أنَّ عمر كان يرحم في أمور يحول فيها النفور الديني دون الرحمة عند كثيرين. فمن ذلك أنه رأى شيخًا ضريرًا يسأل على باب، فلما علم أنه يهودي قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن! فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر هذا وضرباءه،٢٣ فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب … ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
فهنا علمته الرحمة كيف يطيع الدين، ولن يطيع الدين هكذا إلا رحيم.
وقد فرض عمر لكل مولود لقيط مائة درهم من بيت المال كما فرض لكل مولود من زوجين، وهي رحمة قد يحجبها النفور من الزنا وثمراته في نفوس أناس ينفرون فلا يرحمون.
بل كان يرحم كل مخلوق حي حتى البهيم الذي لا يبين بشكاية، فروى المسيب بن دارم أنه رآه يضرب رجلًا ويلاحقه بالزجر؛ لأنه يُحمِّل جمله ما لا يطيق. وكان يدخل يده في عقرة البعير الأدبر٢٤ ليداويه وهو يقول: إني لخائف أن أُسأَل عما بك. ومن كلامه في هذا المعنى: لو مات جدي بطف٢٥ الفرات لخشيت أن يحاسب به الله عمر، وإنه لشعور بالتبعة عظيم.
لكنه — كما أسلفنا — لن ينبت في قلب كل أمير عليه تبعة، إلا أن يكون به منبت للرحمة عظيم.
•••
فنحن إِذَن بإزاء صفة كبيرة إلى جانب صفته الكبيرة؛ الرحمة إلى جانب [44]العدل، وكلتاهما من البروز[34] والوثاقة وعمق القرار بمثابة العنوان الذي يدل على صاحبه، أو بمثابة العنصر الأصيل الذي يلازمه ويلابسه، ولا يفارقه في جملة أعماله.
ومن خصائص عمر أنه كان على هذا الشأن في جميع صفاته المشهورة، خلافًا للمعهود في الصفات الغالبة بين الناس من المحامد كانت أو العيوب؛ إذ قلما يوسم إنسان بأكثر من صفة غالبة بهذه المثابة من التأصل والبروز، فهو عادل أو رحيم أو غيور أو فطن أو وثيق الإيمان، ثم تطغى إحدى هذه الصفات على سائرها، فلا تعطيها إلى جانبها مكانة رسوخ[35] واستقرار.
وعلى غير هذا العهد كان عمر في جميع صفاته الكبيرة التي ذكرناها، فكانت كل صفة منها في قوتها ورسوخها تكفي للغلبة على شخصية تتسم بها، ولا تذكر بغيرها، وإنه ليتصف بها فتأخذ من سماته ومعالمه ما يخصصها به، ولو كانت من الصفات القومية الشائعة في أبناء جلدته جميعًا، فيخيل إليك أنها سمة مميزة له لم توجد في غيره.
فأحرار العرب كلهم غيور، ولكنك إذا قلت «العربي الغيور» فكأنما سميت عمر بن الخطاب؛ لأنه طبع هذه الصفة القومية بطابعه الذي لا يشبهه فيه غيره، فكان الغيور بين الغيورين.
قال أكبر أصدقائه وأكبر العارفين به محمد — عليه السلام: «إنَّ الله غيور يحب الغيور، وإنَّ عمر غيور.»
وتحدث إلى صحبه يومًا وعمر فيهم فقال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر. فذكرت غيرته، فوليت مدبرًا. فبكى عمر وقال كالمعتذر: أعليك أغار يا رسول الله؟»
وكانت هذه الغيرة معروفة مخشية بين جميع من يعرفونه، ويسمعون بطباعه، والنساء من باب أولى يعرفنها ويعهدنها ويتقينها، كما لم يتقينها قط من غيره.
استأذن على النبي يومًا وعنده نساء من قريش، يكلمنه ويستكثرنه [45]عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قُمْن يبتدرن[36] الحجاب.
فدخل والنبي يضحك.
قال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. كأنه يسأله عن سبب ضحكه. فقال عليه السلام: عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي لما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم التفت إليهن يقول: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبنَ رسول الله ﷺ؟
قلن — ولا يخذل المرأة لسانها في هذا المقام: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله!
وحسبك من غيرته أنه هو الذي أشار على النبي ﷺ بحجاب أمهات المسلمين، وكان يرى إحداهن في الظلام ذاهبة لبعض شأنها، فيقول لها: عرفتك يا فلانة!
ليريها أنها في حاجة إلى مزيد من التحجب. وقد ضجرت[37] إحداهن منه لهذا فقالت له: وإنك علينا يا بن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا؟
على أنَّ الغيرة في ابن الخطاب لم تكن غيرة مقصورة على المرأة وكفى، بل غيرته على المرأة لم تكن إلا شطرًا من غيرته على كل حرم وحوزة[38]، فمن هذه الغيرة العامة سياسته العربية التي كانت تصد الغرباء عن جزيرة العرب كأنها الحرم الموصد[39]، ومنها غيرته على الزي العربي والشمائل العربية، ومنها غيرته على العقيدة وحدود الشريعة، وغيرته على كل حق يحميه غيور.
والأحاديث عنه في هذه الخصلة تتعدد في معارض شتى، كما تعددت أحاديث عدله ورحمته، وكل صفة بارزة فيه، فشأن هذه الصفات أن يظهرن أبدًا حيث ظهر له قول أو عمل؛ لأنهن أصيلات مطبوعات يختلطن بكل ما عمل وقال.
إلا أنك تقرؤها جميعًا فتخرج منها بأثر واحد لا اختلاف فيه.
[46] ذلك أنَّ عمر كان يغار على حق، ولا يغار من أحد، ولا ينفس على ذي نعمة.
فإذا قيل لك إنَّ عمر قد غار، فلن يخطر لك أن تسأل: ممن كانت غيرته؟ وإنما يخطر لك أن تسأل في كل مرة: علامَ غار؟ ولأي شيء كان يغار؟
فهو يغار على حق، أو يغار على عرض، أو يغار على دين، أو يغار على صديق أو صاحب حرمة، ولا يغار من هذا أو ذاك لنعمة أصابها هذا أو ذاك.
إنما كان يغار على شيء يحميه، ويعلم من نفسه القدرة على حمايته، فهي غيرة من يريد الحماية لغيره، ولا يريد انتزاع الخير لنفسه أو غلبة إنسان على حظه.
رجل قوي، جياش الطبع، شديد الشكيمة، مؤمن بالحق وحرماته، قادر على تقويم من يحيد عنها ويجترئ عليها. فإن لم يكن هذا غيورًا فمن يكون الغيور؟
وقُل في ذكائه وفطنته وألمعية ذهنه ما تقول فيما اشتهر به من صفات العدل والرحمة والغيرة، وإن كانت هذه الصفة أحوج منهن إلى الشرح والتحليل. فبعض المستشرقين الذين أثنوا عليه قد عرضوا لأمر تفكيره، فوصفوه بأنه محدود التفكير، أو أنه يأخذ الأمور بمقياس واحد.
[47] ونحن لا نقول إنَّ عمر — رضي الله عنه — خلق بذهن عالم بحاثة منقطع للكشف والتنقيب، ولا أنه خلق بذهن فيلسوف مطبوع على التجريد والذهاب بالفكر في مناحي الظنون والفروض، ولا أنه خلق بذهن مِنطِيق يدور بين الأقيسة والاحتمالات مدار الترجيح والتخمين؛ فالواقع أنه لم يكن كذلك ولا يعيبه ألا يكونه، وأنه كان معنيًّا بالعمل قبل عنايته بالنظر أو الفرض والتقدير، ولكن الفرق بعيد بين هذا وبين الفكر المحدود، والنظر الذي يقيس الأمور بقياس واحد. 
 
فعمر كانت له فطنة الرجل العليم بنقائض الأخلاق، وخبايا النفوس، ولم يحكم عليها قط كأنه ينظر إليها من جانب واحد، أو يطبعها في تفكيره بطابع واحد، بل علم الدنيا وعلم كيف يتقلب الإنسان، وراح في علمه هذا يراقب الناس مراقبة الجذور، ويقيم عليهم الأرصاد إقامة الرجل الذي لا يفوته أن ينتظر منهم ما ينتظر من خير وشر، وقوة وضعف، وصلاح وفساد. 
 
وكفى من كلماته الدالة عليه أن نذكر أنه كان يحب أن يعرف الشر كما يعرف الخير؛ لأن «الذي لا يعرف الشر أحرى أنه يقع فيه»، وأنه كان يحب أن يعرف الأعذار كما يعرف الذنوب، حيث يقول: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وأنه هو القائل: «احترسوا من الناس بسوء الظن»، وهو القائل مع ذاك: «أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر» … يوفق في هذين القولين بين سهر الحاكم الذي لا ينبغي أن تخفى عليه خافية، وبين عدل القاضي الذي لا ينبغي أن يحكم بغير بينة ظاهرة.
بل لو كان عمر بن الخطاب محدود التفكير، ينظر إلى الأمور من جانب واحد، لما كثرت مشاورته للكبار والصغار والرجال والنساء، مشاورة من يعلم أنَّ جوانب الآراء تتعدد، وأنَّ للأمور وجوهًا لا تنحصر في الوجه الذي يراه، وكثيرًا ما قال: «أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه.» وليس استطلاع الآراء ولا الخوف من الإعجاب بالرأي شيمة رجل محصور التفكير، ضيق المنافذ إلى الحقيقة.
وقد عاشره أناس من الدهاة فخبروه وحذروه، وقال المغيرة بن شعبة لعمرو بن العاص: «أأنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئًا فيلقنه عنك؟! والله ما رأيت عمر مستخليًا بأحد إلا رحمته كائنًا من كان ذلك الرجل. كان عمر والله أعقل من أن يُخدَع وأفضل من أن يَخدَع.» إنما كان عمر كما وصف نفسه «ليس بالخب ولكن الخب٢٦ لا يخدعه»، وهذا هو الحد الفاصل أحسن الفصل بين الدهاء المحمود، [48]والدهاء المذموم، أو بين الفهم الصحيح والخبث القبيح. فهناك فطنة تسيء الظن؛ لأنها تعرف الشرور التي في طبائع الناس، وفطنة تسيء الظن؛ لأنها تشعر شعور السوء، والفرق بينهما عظيم، كالفرق بين الخير والشر والمحمدة والمذمة. فالفطنة الأولى معرفة حسنة، والفطنة الثانية خلق رديء، وإنما كان عمر بالفطنة الأولى معصومًا من أن يخدع غيره، أو ينخدع لغيره، وهذا هو الحد القوام الذي لا نقص فيه من جانبيه.
وكانت له في استيحاء الخفايا قدرة تقرب من مكاشفة الغيب، لولا أنها تستند إلى التقدير الصحيح، والظن المدعوم بالخبرة، وحكاية واحدة من هذا القبيل تغني عن حكايات، وهي حكايته مع المغيرة الذي استكثر على عمرو بن العاص أن يوحي إلى عمر بمراده ويتداهى عليه. فقد همَّ عمر — رضي الله عنه — بأن يعزل المغيرة عن العراق، ويولي جبير بن مطعم مكانه، وأوصى جبيرًا أن يكتم ذلك ويتجهز للسفر، فأحس المغيرة، وسأل جليسًا له أن يدس امرأته، وهي مشهورة بلقط الأخبار حتى سميت «لقاطة الحصى»، لتستطلع النبأ من بيت جبير، وذهبت إلى بيته، فإذا امرأته تصلح أمره فسألتها: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة! قالت لقاطة الحصى: بل كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأطلعك على أمره! فجلست امرأة جبير متغضبة ودخل عليها وهي كذلك، فلم تزل حتى أخبرها وأخبرت لقاطة الحصى. وذهب المغيرة إلى عمر ففاتحه بما علم، وهو يقول له: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرًا! فلم يعجب عمر من وقوفه على السر، بل قال: كأني بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت، كأنما سمع رأي … وأنشدك الله هل كان كذلك؟ قال المغيرة: اللهم نعم. ثم صعد عمر إلى المنبر ونادى في الناس: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل٢٧ النسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك؟ فأبقاه على ولايته ولم يزل واليه على العراق حتى مات.
وإنما كانت مجاراته للداهية من هذا القبيل إعجابًا بحصافته لا انخداعًا [49]بمكره، وقد يتغابى ويعمل ما يريده المتداهي عليه؛ لأنه أدرك مرمى كلامه، وفهم ما فيه من صواب، كما صنع مع عمرو بن العاص في خطبة أم كلثوم بنت علي — رضي الله عنهما — وسيأتي الكلام عنها في فصل تالٍ.
على أنَّ القدرة الذهنية التي امتاز بها عمر في غنى عن الاستدلال عليها بما قال وما قيل فيه، وما دار بينه وبين بعض القوم من المساجلات والمحاورات، إنه عمل لم يعمله إلا القليل من أقدر الحكام في تاريخ بني الإنسان، وكفى بذلك دليلًا على قدرته الذهنية لا حاجة بعده إلى دليل. ساس شعوبًا بينها من الاختلاف مثل ما بين العرب والفرس، وبين الفرس والقبط والسوريين، ونصب ولاة، وانتدب قوادًا، وسيَّر بعوثًا، وأشرف على ميادين قتال، وأقام نظمًا في الحكومة، وراقب رعاة ورعية فيما يعلنون وما يبطنون، ونجح في كل ما عمل نجاحًا منقطع النظير، غير مردود إلى المصادفة ولا إلى ارتجال المغامرين، وليس هذا كله مما يضطلع به رجل محدود الفكر، ضيق الأفق، قليل الخبرة بالجماعات والأفراد. فإذا استوفى هذا الحظ الوافي من القدرة الذهنية، فذلك حسبه منها وحسب كل من تصدى لمثل عمله، ونهض بمثل وقره،٢٨ ولا عليه بعد ذلك أنه لم يفكر على نمط الفلاسفة، وأقطاب العلم، وأساطين المنطق والرياضة، فإن الدنيا لم تخرج لنا عمر ليزيدنا أفلاطون آخر أو إقليدس ثانيًا أو «فاراداي» سابقًا في الزمن القديم، بل أخرجته للناس ليكون مؤسس عهد ومحوِّل تاريخ. فإذا تأدى به عقله إلى تلك الغاية، فهو العقل الصائب، يفكر على النحو الذي خلق له ويبلغ القصد الذي رمى إليه. وعلينا نحن أن نعرف كيف كان تفكيره وأن نسلكه بين قرنائه وأنداده.
إنما طرأت شبهة العقل المحدود على المستشرقين الذين ظنوا به هذا الظن من ناحية واحدة، وهي ناحية العدل الذي لا يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، والقضاء الذي يكيل الجزاء دقة بدقة، ولا يبالي بالنقائض والمفارقات..
[50]ونظروا إلى جملة آرائه في المسائل الجُلَّى فإذا هي من الآراء التي يغلب عليها القطع والجزم والانطلاق إلى غرض ماثل، لا تنحرف عنه قيد شعرة، كأنه قد جهل ما في الدنيا من نقائض وخفايا ومن عوج وتعريج، أو كأنه السهم الثاقب ينفذ فيما أمامه إلى هدفه المحدود، ولا يلتفت إلى شيء في نفاذه، أو يعوقه عائق دونه.
فخطر لهم أنَّ فطنته إنما كانت فطنة فراسة فطرية، كالغريزة التي تهتدي على استقامة واحدة، ولكنها لا تنحرف ولا تتصرف ولا تخالف ما جبلت عليه، وأنها فطنة العقل المحدود والبصر الموكل بجانب واحد ينفذ فيه، ولا يحيط به أو يتشعب في نواحيه. والفكر المحدود هنا هو فكر أولئك المستشرقين، لا فكر عمر بن الخطاب.
فالرجل الذي يستقيم على وجه واحد، لا يحيد عنه، هو واحد من رجلين: فإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه لا يرى غيره، ولا يحيط بما حوله.
وإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه قادر على اختراق العقبات، عالم أنها تنثني إليه حيث كان دون أن ينثني إليها حيث كانت.
واستقامة عمر بن الخطاب على وجهه من هذا القبيل، وليست من ذلك القبيل؛ هي استقامة قدرة، وليست باستقامة عجز، وهي استقامة تصرف سريع، وليست باستقامة محجور مقيد، يأبى أن يدور؛ لأنه قد أعياه أن يدور.
هي استقامة حياة غلابة، وليست باستقامة أداة كالموازين تسوي بين التبر والتراب؛ لأنها لا تميز بين التبر والتراب.
فالرجل الذي يجتنب التصرف في العدل عجزًا عن الفهم والتزامًا للحرف المكتوب، ونزولًا إلى مرتبة الموازين التي لا تعي ولا تغضب [51]ولا تغار، إنما هو آلة فقيرة في مادة الحياة.
أما الذي يجتنب التصرف في العدل غيرة على الضعيف، وقدرة على القوي، وعلمًا بالتبعة، واضطلاعًا بجرائرها، فذلك حي غني بالحياة، يعدل لفرط السليقة الإنسانية، والقدرة الحيوية، ولا يعدل لأنه آلة تشبه الميزان الذي لا حس فيه.
وشتان بين هذا وذاك، إنهما لنقيضان، وإن كانا في ظاهر الأمر شبيهين متقاربين.
والاعتماد على الأمثلة الخاصة، أولى بنا في هذا المعرض من الاعتماد على القواعد العامة والتقريرات النظرية.
فهذه أمثلة ثلاثة من أمثلة العدل الذي يبدو لأول وهلة، كأنه عدل الموازين الآلية حين تسوي بين الأوزان، وإن اختلفت القيم والأقدار، وتفصل في الأنصباء بغير نظر إلى فوارق الدنيا، ومقتضيات السياسة، وتبدل الأحوال، ونختارها من أجهر الأمثلة وأدناها إلى تأييد شبهات المستشرقين فيما زعموه من العقل المحدود؛ لنرى على قدر ضخامة هذه الأمثلة ضخامة الخطأ في استخراج ما تدل عليه.
كان عمرو بن العاص واليًا لمصر وكان ابنه يجري الخيل في ميدان السباق، فنازعه بعض المصريين السبق، واختلفا بينهما لمن يكون الفرس السابق، وغضب ابن الوالي فضرب المصري وهو يقول: أنا ابن الأكرمين! فاستدعى عُمَر الوالي وابنه حين رفع إليه المصري أمره، ونادى بالمصري في جمع من الناس أن يضرب خصمه قائلًا له: «اضرب ابن الأكرمين!»، ثم أمره أن يضرب الوالي؛ لأن ابنه لم يجرؤ على ضرب الناس إلا بسلطانه، وصاح بالوالي مغضبًا: «بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» فما نجا من يده إلا برضًا من صاحب الشكوى واعتذار مقبول.
وكان خالد بن الوليد أشهر قادة الإسلام في زمانه، فأحصى عليه عمر بعض المآخذ، ومنها إنفاقه من بيت المال في غير ما يرضاه، فأمر به أن [52]يحاكم في مجلس عام، كما يحاكم أصغر الجند، وعزله بعد مقاسمته فيما يملك من نقد ومتاع.
وكان جبلة بن الأيهم أميرًا نصرانيًّا، فأسلم وأسلمت معه طائفة من قومه، ثم وطئ أعرابي إزاره فلطمه جبلة على ملأ من حجاج بيت الله؛ فقضى عمر للأعرابي أن يلطم الأمير على ذلك الملأ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين سوقة وأمير.
هذه أمثلة العدل الذي لا يتصرف، ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها من فوارق وتعريجات، تتأبى على القصاص المستقيم، وهي من أقوى الشبهات على النظر المحدود في تقدير الجزاء بالحرف المكتوب، دون التفات إلى الأحوال والمقتضيات.
فهل هي في الواقع كذلك؟ وهل كان على عمر أن «يتصرف» في هذه الأقضية بلباقة الساسة الدهاة في جميع الأزمان، إذ يحتالون على حرف الشريعة ويدورون حول حدود القانون؟
نعم، كان عليه ذلك لو عجز عن سنة المساواة، واحتاج إلى الحيلة، فإنما يعاب على الوالي عدل الموازين، ويحمد منه التصرف والدوران؛ لأن المساواة تعييه، أو لأن المساواة تعرضه لعاقبة شر، وأظلم من الإجحاف، فإذا نظر إلى عاقبة المساواة في المعاملة، فرآها شرًّا وأظلم من عاقبة التفرقة والتمييز؛ فقد وجب عليه إِذَن أن يدور حول الحقيقة، وألا يواجهها نصًّا بغير انحراف.
ولكن أين هذا من عمر، وأين عمر من هذا؟ إنه كان قويًّا قادرًا على العواقب، وكان شديد الألم من ظلم الظالم شديد الخجل من خذلان المظلوم، وكان وثيق الإيمان بنصر الله في الحق وفي النجدة؛ فلماذا ينحرف؟ ولماذا يتصرف؟ ولماذا يدور؟
كان قويًّا بطبعه، قويًّا بإيمانه فلماذا يهاب قويًّا جار على ضعيف؟ ولماذا يروغ من صرامة القاضي إلى دهاء السياسي الذي يدور حول الحقوق والحدود؟
[53] للمستشرقين المتحدثين بالتفكير المحدود أن يأخذوا عليه تشهيره بكبار الولاة، ويثبتوا به كل ما قالوه عن ذلك التفكير المحدود الذي ينسى الفوارق، ولا يحتال على المحظورات، ولكن بشرط واحد.
ذلك الشرط هو أن يتوقعوا — ولو من بعيد — أن يثور ابن العاص ونظراؤه على هذا القصاص، فيختل حكم الدولة، وينتشر الأمر على الخليفة، ويقع من المحظور أضعاف ما كان واقعًا لو بطلت المساواة بين السوقة والولاة.
أما أن يكون ابن العاص ونظراؤه لا يثورون، ويعلمون من هو عمر وما هي عقباهم إذا ثاروا عليه.
وأما أن يكون عمر لا يخشى تلك الثورة، ولا يعيا بها إذا هي فاجأته، أو جاءته على غير انتظار.
وأما أن يكون الأمر في ضميره، وفي ضمائرهم يجري على البديهة التي لا خفاء بها ولا شك فيها؛ فكيف يقال إذن إنَّ تفكير عمر في قصاص الولاة كبارًا وصغارًا تفكير محدود؟ وأين هو في هذه الحالة موضع التفكير المحدود؟
إنه في موضع واحد، وهو — كما أسلفنا — موضع الناقد الذي يصف عمر بغير وصفه؛ لأنه هو محدود الفكر في قياس الرجال بمقياس واحد، أو في اعتقاده أنَّ الخطوب تبقى كما هي، ولا تتغير كلما تغيرت عليها أيدي الرجال.
لقد كان عمرو بن العاص خطرًا على الخليفة الذي يغض منه لو كان غير عمر، ولكنه هو والذين كانوا أجرأ منه على الفتن وأسرع منه إلى الغضب، لم يكن لهم من خطرٍ إذا كان عمرُ هو الذي أمر بالعزل، وهو الذي قضى بالقصاص.
فأجرأ منه — ولا ريب — كان خالد بن الوليد، وأشهر منه بين سيوف الإسلام لو عمد إلى السيف، ومع هذا نقم خالد عزله فخطب الناس ومضى يقول: «إنَّ أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت [54]بَثَنِيَّةً — أي حنطة — وعسلًا عزلني، وآثر بها غيري.» فما أتمها حتى نهض له رجل من السامعين فقال له: صبرًا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حيُّ فلا.
نعم، لا فتنةَ وابن الخطاب حيُّ، ولو كان الغاضب خالدًا الغضوب، ومن هنا حق له أن يشكو ولا جناح عليه.
وأطرف من هذا في هيبة عمر بين ولاته وقواده أنه كتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يقاسم خالدًا ماله نصفين، فقاسمه جميع ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إنَّ هذا لا يصلح إلا بهذا، فأبى خالد أن يخالف أمر عمر، وأعطاه إحداهما وأخذ الأخرى.
لقد نظرنا إلى عمر مستقيمًا، ولم ننظر إلى الخطوب، ولو نظرنا إليها لرأينا أنها انثنت لتنقاد له، وتتقي مصادمته وتستقيم على منهاجه، فعلمنا لِمَ استقامَ دون أن يقدح ذلك في صدق نظره إلى الدنيا، وصدق فراسته في خلائق الناس.
وندع قضايا الولاة، وننظر في قضية الأمير الذي ارتد عن الإسلام هو وقومه؛ لأن عمرَ أجبره على قصاص المساواة بينه وبين رجل من السوقة. فماذا كان ينبغي أن يفعل عمر غير ما فعل من المساواة الصادقة بين الأمير الضاربِ وخصمه المضروب؟
لعل داهيةً من دُهاةِ السياسة الذين يصفونَ أنفسَهم بالنظر البعيد كان يؤثر إرضاء الأمير، واستبقاء أتباعه في الإسلام، والاحتيال على الشاكي بما يواسيه ويغنيه عن أن يسوِّي بين الخصمين، ويمكِّن لضعيف من ضرب أمير اعتدى عليه.
فهل معنى ذلك أنَّ عمرَ كان يعوزه دهاء أولئك الساسة، وما عندهم من بعد نظر مزعوم؟
كلا، بل معناه أنَّ أولئك السَّاسَةَ يعوزهم السخط على الظلم، والغيرة على الحق، واليقين بالقدرة، والإيمان بمناعة الإسلام أن يصيبه غضب أمير صابئ بما يضيره، ولو كثر أتباعه والصابئون في ركابه.
[55]معناه أنهم احتاجوا إلى التصرف، وعمر لم يحتج إليه.
وها هي ذي السنون قد مضت، وتلتها الأحقاب والقرون، فبدا لنا اليوم أنَّ النظر البعيد والعدل الشديد في هذه القضية يلتقيان، وأنَّ عمرَ كان أحسن المتصرفين فيها؛ لأنه اجتنب التصرف الذي يهواه الدُّهاة؛ فقد أفاد الإسلام ما لم يفده بقاء جبلة وأتباعه على دينه، ووقاه ضررًا أضخم وأوخم من نكوص أولئك الصابئين عنه. أفاده ثقة أهله بإقامة أحكامه، واطمئنان الضعفاء إلى كنفه، ورهبة الأقوياء من بأسه، وسمعته في الدنيا برعاية الحق، وإنجاز الوعد، وتصديق معنى الدين، ولا معنى له إن كان أضعف بأسًا من أمير وجب العقاب عليه.
ويجوز أنَّ الفاروق لم ينظر إلى عواقب القرون، كما ننظر إليها الآن، بعد أن برزَتْ من حَيِّز الفرض إلى حَيِّز العيان. غير أنَّ الأمر الذي لا يجوز في اعتقادنا أنه عدل في قضية جبلة ونظائرها عدل آلة أو عدل ميزان. إنَّ الميزان لأقل من مخلوق له حياة، أما الفاروق في هذه القضية فقد كان أكبر من الحياة الفانية، كان بطلًا يؤمن ويعمل بإيمانه، وهكذا يعلو الإنسان ببطولة الإيمان.
والعبرة التي نخرج بها من هذا أنَّ النظرة الأولى في أخلاق عمر بن الخطاب حسنة، ولكن النظرة الثانية هي على الأغلب الأعم أحسن من الأولى!
فالناقدون الأوروبيون الذين فَسَّرُوا عدله المستقيم القاطع بالنظر الضيق والفكر المحدود لم يفهموه ولم ينصفوه، ولو فهموه وأنصفوه لعلموا أنَّ عدله المستقيم القاطع زيادة في القدرة، وليس بنقص في الفطنة، أو أنه زيادة في قوة الثقة، وقوة الإيمان، وليس بنقص في العلم والبداهة، ولم يكن عسيرًا عليهم أن يفقهوا ذلك لو راجعوا أنفسهم وتريثوا في حكمهم؛ لأنَّ قوة الثقة وقوة الإيمان لا تخفيان في خلق من أخلاقه، ولا عمل من أعماله، ولا تزالان ممزوجتين فيه بكل إقدام وبكل إحجام، فكان يُقدِم على أعظم الخطوب، ويحجم عن أهون الهينات تحرجًا منها [56]وتنزهًا عنها، إذا اقتضى ذلك وازع من قوة الإيمان.
فلم يكن يمضي قدمًا لأنه يغفل عما حوله من النواتئ والمنعرجات والسدود، بل كان يمضي بينها قدمًا لأنه لا يباليها، ويؤمن أصدق الإيمان أنها تنثني له إذا مضى فيها، فلا حاجةَ به أن ينثني إليها.
إنه ليعلم العوج، ولكنه يعلم أنه أقدر منه؛ لأنه يؤمن بحقه إيمان القوي الوثيق، فله من قوته ومن إيمانه قدرتان.
إنه ليرفع العبء إلى كاهله، وهو قائم لا يطأطئ للنهوض به، فليس الفارق بينه وبين غيره أنه يجهل العبء الذي يعرفونه، أو ينسى العواقب التي يذكرونها، أو يتحلل من المصاعب التي يتحرجون منها، كلا، إنما الفرق بينه وبينهم أنهم ينثنون للخطوب، وأنَّ الخطوب هي التي تنثني إليه. هذه القوة في إيمانه كانت هي المسيطر الأكبر على كل خلق من أخلاقه، وكلِّ رأي من آرائه، بل كانت هي المسيطر الأكبر على ما هو أصعب مقادًا من الأخلاق والآراء، وأشد عُرَامًا٢٩ من العقائد والشبهات، وهي دوافع الطبع وسورات الغريزة، وقلما خلا منها طبع قوي عزوف غيور.
فالأفكار والأخلاق جانبان من جوانب النفس الإنسانية، قابلان للضوابط والقيود، ولكن ما القول في الدوافع والسورات؟! مثل الفكر كمثل السفينة الطافية على وجه النهر، لها شراع، ولها سُكَّان، وعليهما معًا رقيب من النواتية٣٠ والربان.٣١
ومثل الخلق كمثل النهر المتدفع، تحبسه الشواطئ والقناطر، ويفيض في موعد، ويُعرف له مجرى، ويُحسب له مقدار.
ولكن، ما القول في السيل العرم؟
ما القول في السورة الجامحة التي ليست بفكر يسوس ويساس، ولا بخلق متميز بسماته وخصائصه ومراميه؟!
هنا تبدو لنا قوة الضوابط والقيود،
[57]وهنا أيضًا كانت ضوابط الإيمان القوي في نفس عمر كأقوى ما تكون.
ولا أحسب أنَّ قلبَهُ الكبيرَ جمحت به في الجاهلية أو الإسلام سورة أكبر من سورته يوم نُعي النبي إلى المسلمين، فأنكر أن يُنعَى، وأبى أن يسمع صوتًا بين المسلمين يزعم أنَّ محمدًا قد مات، وصاح والناس في رهبة منه كرهبتهم من شبح الموت المخيم يومئذ على الرءوس: «والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات.»
ثم أقبل أبو بكر من مسكنه على فرسه، فنزل فتمشى وئيدًا صامتًا لا يكلم أحدًا، وتيمم النبي وهو مغشى بالثوب، فكشف عن وجهه ثم أَكَبَّ عليه وقَبَّلَه، وبكى.
ثم أحسَّ صولةَ عمرَ وهو يكلم الناس، فخرج إليهم فقال: اجلس يا عمر. وأقبلَ على المسلمين يُكلمهم بكلام السماء: «أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.» فأهوى عمرُ إلى الأرض وأنابَ.
وكأنه والمسلمين معه ما علموا أن أنزلت هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر تلك الساعة.
يا لروعة الشلال الزاخر!
ويا لروعة السابح القاهر الذي لوى به ليًّا، كأنما قبض منه على عرف، وأخذ له بعنان!
أكبر ميدان من ميادين الدنيا لا يرينا صراعًا عاتيًا هو أولى بالروعة من نفس عمر وهي متراوحة بين شعوره الزاخر، وإيمانه الوثيق.
لحظة هائلة من أهول ما تحس النفوس، ثم انهزام كأسرع ما يكون الانهزام، وانتصار كأسرع ما يكون الانتصار، وغاشية تنجلي عن صاحب تلك النفس، وهو مالك لزمامه، ماضٍ بشعوره إلى حيث يمضي [58] به إيمانه، فهما قوتان غالبتان، وليستا بعدُ بالعسكرين المتغالبين.
لقد كانت تلك سورته الكبرى، ولكنها لم تكن أولى سوراته ولا آخرتها.
فقد عهدت هذه السورات في طبعه، حتى عرف من عهدوها كيف يسوسونها ويتقونها، وأوشكت أن تحسب في عداد الأنهار المحكومة، لا في عداد السيول الجارفة، انطلقت من عقالها.
ذهب إليه بلال مستأذنًا، فقال له الخادم إنه نائم، فسأله: كيف تجدون عمر؟ قال: خير الناس إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم. قال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه.
فهو الإيمان ضابط كل شيء في تلك النفس، حتى السورات التي ليس لها ضابط في النفوس.
أو قل إنها هي النفس القوية في دفعاتها، وفي ضوابطها على السواء.
ورب نفس من ضعف الدفعة بحيث يقمعها أهون ضابط يسيطر عليها، فأما الدفعة التي لا يقف في طريقها إلا ضابط أقوى منها؛ فتلك هي الطبيعة الحيوية المضاعفة، وليست هي الضعف الذي يتراجع لأهون مراجعة.
نذكر هذا وينبغي أن نذكره ولا ننساه؛ لأن الفرق بين الإيمان الذي يكبح الهزيل المنزوف الحياة، وبين الإيمان الذي يكبح القوي الجياش فرق عظيم.
ولم يكن عمر مُعرضًا عن زخارف الحياة لهزال كان في دواعي الحياة فيه، وإنما كان مُعرضًا عنها لأنه كان قادرًا على الإعراض غير ممتحن به في إرادة ولا عزيمة.
وكان معرضًا عنها لأنه صاحب حيوية غير الحيوية الجسدية الموكلة بالسرور والمتاع.
فمن الواجب إذا ذكرنا الحيوية وضعفها وقوتها، أن نذكر أبدًا أنها حيويات متعددة وليست بحيوية واحدة.
حيوية الروح، وحيوية الخلق، وحيوية الذوق، وحيوية العقل، [59]وحيوية الجسد، وغير ذلك كثير مما يتداخل بين هذه الحيويات.
فليس من الضروري إذا رأيت رجلًا قليل الاشتهاء لمتعة الأجساد أن تحكم عليه بضعف الحيوية، فربما كانت له حيوية أخرى تملأ ألوفًا من النفوس، لا تجد متاعها في أكلة أو شهوة، وتجد المتاع في إحقاق الحق، وزجر الطغيان، وإقامة العدل والشريعة بين الناس.
وهكذا كانت حيوية عمر فيما يريده، وفيما يزهد فيه.
لم تكن قلة الرغبة في زخارف الدنيا هي مقياس حيويته العظمى، وإنما كان مقياس تلك الحيوية عظم الرغبة في الإصلاح والتقويم، وفي إجراء ما ينبغي أن يجري، غير مبالٍ ما يكلفه ذلك من جهدٍ تتضاءل دونه جهود الألوف من الموكلين بمتاع الأجساد.
•••
تلك صورة مجملة للصفات الخلقية الكبيرة التي كانت غالبة على نفس عمر بن الخطاب، وهي العدل والرحمة والغيرة والفطنة والإيمان.
وأول ما يُلاحظ عليها تعدد الصفات الغالبة في نفس واحدة، وصفة واحدة منها قد تغلب على النفس — وليست بصغيرة — فتنعتها بنعتها وتستأثر بتمييزها والدلالة عليها.
ثم يُلاحظ عليها أنَّ الصفة منها تتصل بعمر بن الخطاب، فتأخذ منه وتصطبغ بصبغته[40]، حتى كأنها لم تُعهَد في غيره على شيوعها وكثرة الموسومين بسماتها.
إلا أنَّ هذا وذاك ليس بأعجب الملاحظات، ولا أندرها في هذا السياق، وإنما العجب العاجب حقًّا هذا التركيب الذي ندر مثيله جدًّا بين خصائص النفوس، كائنًا ما كان نصيب صاحبها من العظمة والامتياز.
وأحرى بنا أن نقول «هذه التركيبة»، ولا نقول «هذا التركيب»؛ لأن صفاته الكبيرة تتركب كما تتركب أجزاء الدواء الذي ينفع لغرض واحد مفهوم، والذي ينقص جزء منه، فينقص نفعه كله، ويدخله التناقض والاختلاط.
[60] إذا نظرت إلى تلك الصفات أجزاء متفرقات، فهي سهلةٌ بسيطةٌ، ليس فيها شيءٌ عويصٌ[41]، أو مكتنفٌ بغموض.
ولكنك تنظر إليها مركبة متناسقة، فيبدو لك منها جانب الدهشة والإعجاز، أو جانب الندرة التي يعز تكرارها في طبائع النفوس؛ لأنها تتركب لاستيفاء الغرض منها جميعًا، واستيفاء الغرض في كلٍّ منها على حدةٍ، وهذا هو النادرُ جد الندرة في تركيب الأخلاق.
ما العدل مثلًا بغير الرحمة التي تمزجه بالإحسان؟! وما العدل والرحمة معًا بغير الحماسة الروحية، والغيرة اليقظى التي تجعل كراهة المرء للظلم كأنها كراهة الضرر الذي يصيبه في نفسه وآله، وتجعل حبه للعدل كأنه حب هواه، وقبلة مناه؟! وما العدل والرحمة والغيرة جميعًا بغير فطنة تضع الأمور في مواضعها، وتعصم المرء أن ينخدع لمن لا يستحق، ويغفل عمن يستحق وهو حسن القصد غير متهم الضمير؟! وما العدل والرحمة والغيرة والفطنة بغير الإيمان الذي هو الرقيب الأعلى فوق كل رقيب، والوازع الأخير بعد كل وازع، والمرجع الذي لا مرجع بعده لطالب الإنصاف؟!
كلُّ صفةٍ تتمةٌ لجميع الصفات.
وكلُّ الصفات روافدُ لغرضٍ واحدٍ، يتم به نصر الحق وخذلان الباطل.
وكلُّ خليقة فهي جزء لا ينفصل من هذه «التركيبة» التي اتفقت أحسن اتفاق، وأنفع اتفاق، وكأنما اتفقت لتصبح كل خليقة منها على أتم قدرتها في بلوغ كمالها، وتحقيق غايتها.
فلا نقص في العدل كالنقص في كل عدل يعمى عن الطبيعة البشرية، ويذهل عن ضعف الإنسان.
ولا نقص في الغيرة كالنقص في كل غيرة ظالمة قاسية كأنها ضراوة وحش، وليست بحماسة روح.
[61]ولا نقص في أولئك كله كالنقص في جميع الصفات بغير الفطنة التي تخرج بها من ظلام إلى نور، وبغير الإيمان الذي يقف منها موقف الحارس الساهر والرقيب الأمين.
صفات متراكبة كأنها صفة واحدة، يأخذ بعضها من بعض، فلا تتعدد في مرآها، ولا تزال في صورة البساطة بعيدة عن التركيب، فيخطئ النظر القصير في التفرقة بين هذه الظاهرة النفسية الرائعة، وبين ظاهرة الشيء البسيط المحدود، وإنه لخطأ شائع ينساق إليه كثيرون مما يستسهلون بساطة عمر، وهي أولى بالروعة من تركيب يختلط من كل مزيج، ثم يزيد في الألوان، ولا يزيد في الإتمام والتوحيد والإتقان.
ولو أنَّ مخترعًا من أهل القصص حاول أن يخترع سيرة عمر بن الخطاب؛ لأعياه أن يخترع ذلك الشتيت المتفرق من الأخبار والأحاديث والنوادر، ليقرأه القارئ بعد ذلك فيقبل منه ما يقبل، ويسقط منه ما يسقط، ثم يبقى منه ما يدل أصدق الدلالة على كل صفة من تلك الصفات.
فلا اختراع في جملة أخبار عمر، وإن جاز الشك في بعضها، أو جاز إسقاط الكثير منها، ومن شاء فليشك في هذا الخبر أو ذاك ما بدا له الشك، وليسقط منها ما بدا له الإسقاط، فسيبقى بعد ذلك جميعه خبر يدل على عدله ولا سبيل إلى نقضه، وخبر يدل على رحمته ولا سبيل إلى نقضه، وخبر يدل على غيرته ولا سبيل إلى نقضه، ويبقى ذلك التركيب العجيب الذي هو موضع الإعجاز وموضع الدهشة وموضع التساؤل في مصادر الأخبار.
هذه هي المعضلة التي عنيناها حين قلنا في صدر هذا الفصل إنَّ سهولةَ عمرَ وخلوَّ طبائعه من التعقيد والغموض، هي سهولة أصعب من الصعوبة؛ لأنها تنتهي بك إلى صعوبة التركيبة التي هي أندر من التعقيد والغموض، وتريك عناصر شتى قد تتناقض في غير هذا التركيب، ولكنها هنا لا تتناقض في شيء ذي بال؛ لأن التناقضَ أنْ يذهبَ كلُّ عنصر في وجهةٍ [62]معارضةٍ لسائر الوجهات، فأما أن تكون كلها ذاهبة في وجهة واحدة، فذلك عنصر واحد متعدد الأجزاء والألوان.
ولهذا كانت دراسة عمر غنيمة لكل علم يتصل بالحياة الإنسانية، كعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، ولم تقتصر مزايا هذه الدراسة على علم النفس وكفى.
لأن كل نفس صغرت أو كبرت فهي إنسان يضيف العلم به إلى علم النفس بعض الإضافة.
ولكن ليست كل النفوس بالنفس التي تصحح أوهام الواهمين في فضائل الأخلاق وفضائل الاجتماع، وفي القدوة المثلى التي يَقْتدي بها طلاب الرفعة والسيادة.
ونحن في عصر شاعت فيه فلسفات مسهبة[42]، تنكر الرحمة والعدل على الأقوياء الغيورين، وتحسبهما حيلة من حيل الطبع في خلائق الضعفاء لاستدامة البقاء، كأن رحمة الضعيف تنفعه إذا رحم، وكأن عدل الضعيف ينفعه إذا عدل، أو كأن القوي يخلق نفسه لنفسه، ولا يخلق قويًّا لتفيد قوته فائدتها في خدمة المحتاجين إليها.
فعمر ذو البأس والعدل، وعمر ذو الرحمة والغيرة، أصدق تفنيدًا لذلك الوهم الأخرق البليد؛ إذ كانت رحمته وعدله لا يناقضان البأس والغيرة فيه، بل كان بأسه معوانًا لرحمته، وكانت غيرته معوانًا لعدله، وكان هو قويًّا لينتفع الناس بقوته، ولم يكن قويًّا ليطغى بقوته على الضعفاء.
ولم يكن لزامًا أن يقسو ذو البأس ولا يرحم.
ألا يقسو الضعيف؟! فلم العجب إذن من رحمة القوي؟! كلُّ ما هنالك أنَّ رحمةَ الضعفاء غير رحمة الأقوياء. فأما العقل الذي يرى الرحمة غريبة في الأقوياء، ويرى القسوة غريبة في الضعفاء، فهو يرى غير الواقع من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ الواقع في الدنيا أنَّ القسوة لا تدل على القوة، وأنَّ الرحمة لا تدل على الضعف، وأن ليس في الدنيا أقسى من الأطفال [63]وهم أضعف من فيها من الضعفاء.
وبغير إمعانٍ طويلٍ في دقائق النفس الإنسانية، استطاعت امرأة محزونة أن تفرق بين الخصلتين، وتجمع بينهما معًا في عمر بن الخطاب، ونعني بها عاتكة بنت زيد حين قالت في رثائه:
رءوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدى
أخي ثقةٍ في النائبات مُنيبِ
وهي تفرقة سهلة، ولكنها صادقة جامعة، فغير عجيب أن يكون إنسان كذلك، وإنما هو أوفق شيء لطبائع الأشياء.
اسهب : أي اكثر الكلام
تصنيف:
عبقرية عمر
==========
أي معتدل
أشرف
من قولهم: راض المهر: أي ذلله ودربه وعلمه
الحبل المبرم : المفتول فتلا شديدا
أي طريقة
من راعه الشيء:أعجبه
الأطالة والبلاغة في الوصف
اللين
الاكاف الصغير على قدر سنام البعير
زجره ونهره
أي اختباره والوقوف على حقيقته
الكذب والاختلاق
بمعنی المهرة
لا مفر ولا هرب منه
الخلق والطبيعة
الريبة : التهمة والشك ، والمراد : التهمة
أي مغالاته
سعة
أي أمام جمع من الناس
اي ظن
جمع خليقة والخليقة : الطبيعة والفطرة
غض منه : أي رفع ونقص من قدره
شكمه : حزاه
أي شديدا غليظا
لأواصر : الروابط والعلائق
أي انصرف
العصا الضخمة
مدة لا وقت لها ، وقيل سنة
يتفرقا
اي املني وأضجرني :
منطقة من نواحي المدينة
مكان على مقربة من المدينة
ايقاد النار
أي الظهور
رسوخ : أي نبات
أي أسرعن إلى وضع الحجاب
أي اغتاظت
الحرم والحوزة : كل ما تجب حمايته
المغلق
الصبغة : أي اللون .
العويص من الشعر : ما يصعب استخراجه
========
مِفتاحُ شخصيتِهِ
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/مفتاح شخصيته
[64]
مفتاح شخصيّته
مِفتاحُ الشخصية هو الأداةُ الصغيرةُ التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمِفْتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض، فيكون البيت كالحصن المغلق، ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب، فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق!..
وليس مِفْتاح البيتِ وصفًا له، ولا تمثيلًا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها، ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد.
ولكل شخصية إنسانية مفتاح يسهل الوصول إليه أو يصعب على حسب اختلاف الشخصيات، وهنا أيضًا مقاربة في الشكل والغرض من مفاتيح البيوت؛ فرُبَّ بيت شامخ عليه باب مكين يعالجه مفتاح صغير، ورب بيت ضئيل عليه باب مزعزع يحار فيه كل مفتاح.
فليست السهولةُ والصعوبةُ هنا معلقتين بالكبر والصغر، ولا بالحسن والدمامة، ولا بالفضيلة والنقيصة، فرب شخصية عظيمة سهلة المفتاح، ورب شخصية هزيلة ومفتاحها خفي أو عسير.
وقد يحيرنا الرجل الذي قيل في وصفه مثل ما قيل في ابن عباد:
لا تمدحنَّ ابن عبَّادٍ وإن هطلتْ
يداه بالجوادِ حتى شابَهَ الدِّيما
فإنَّها خطراتٌ من وساوسِهِ
يعطي ويمنعُ لا بُخْلًا ولا كَرَمَا
فإننا لا نستطيع أن ننفذ منه إلى مواضع اللوم أو مواضع الثناء، [65]ولا ندري حقًّا أعمله من الكرم أم من البخل، ومن الرفعة أم من الخسة، ومن الشجاعة المحمودة أم من الجبن المذموم! وغاية ما ننتهي إليه أنَّ نفض[1] المشكلة بكلمة واحدة هي الوسواس، وهي حيلة تلجئنا إليها قلة الحيلة؛ لأن تفسير الأعمال بالوسواس يفيدنا في تقدير صاحبها وتقدير أعماله وأخلاقه، ولكنه تفسير له معنًى واحد في النهاية، وهو: ترك التفسير.
قد تحيرنا هذه الشخصية المنقوصة، ولا تحيرنا الشخصية الكاملة التي تروعنا بفضائلها ومزاياها، ثم لا نستغرب منها فضيلة أو مزية بالقياس إلى انتظام عملها، واتصال أثرها، كالشمس الطالعة تروعنا بإشراقها في أوقاتها وبروجها، ثم لا تحيرنا لمحة عين، كما تحيرنا الذُّبالة[2] الضئيلة، تومض[3] لحظة وتختفي من بعيد.
وفي اعتقادنا أنَّ شخصية عمر من أقرب الشخصيات العظيمة مفتاحًا، لمن يبحث عنه، فليس فيها باب معضل[4] الفتح، وإن اشتملت على أبواب ضخام.
وقد ذكرنا في الفصل السابق أنَّ إيمانَ عمرَ هو الضابطُ الذي يسيطر على أخلاقه وأفكاره، كما يسيطر على دوافعه وسوراته، ولكن الذي نريده بمفتاح الشخصية شيء آخر غير معرفة الضابط الذي يسيطر عليها؛ نريد به السمة[5] التي تميزه بين العظماء، حتى في الإيمان وسيطرته على الأخلاق والأفكار والدوافع والسورات، فإن الإيمان ليقوى في نفوس كثيرات، ثم تختلف آياته وشواهده باختلاف تلك النفوس، وهنا نبحث عن «مفتاح الشخصية»؛ لنعرف به الفارق بين الإيمان في طبيعة عمر، وبين الإيمان في طبائع غيره من الأقوياء.
والذي نراه أنَّ «طبيعة الجندي» في صفتها المثلى، هي أصدق مفتاح «للشخصية العمرية» في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم.
فأهمُّ الخصائص التي تتجمع «لطبيعة الجندي» في صفتها المثلى: الشجاعة، والحزم والصراحة، والخشونة، والغيرة على الشرف، والنجدة [66]والنخوة، والنظام، والطاعة، وتقدير الواجب والإيمان بالحق، وحب الإنجاز في حدود التبعات أو المسئوليات.
هذه الخصائصُ قد تجمَّعت بعد ألوف السنين من تجارب الأمم في تعبئة الجيوش، حتى عرف الناس أخيرًا أنها لازمة للجندي في أمثل حالاته، فما من خاصة منها يستغني عنها الجندي الكامل الذي تحلى بأجمل صفاته وألزمها لتحقيق وجوده.. {{وسط|' فانظر إلى هذه الخصائص جميعها، هل تجدك محتاجًا إلى التنقيب طويلًا عن واحدة منها في نفس عمر؟ هل تجدك محتاجًا إلى تَعَمُّلٍ أو استقصاء لجمع أشتاتها، والاهتداء إلى شواهدها ومواقعها؟
كل هذه الخصائص عُمَريَّة لا شك فيها؛ فهو الشجاع، الحازم، الصريح، الخشن، المطيع، الغيور على الشرف، السريع النجدة، المحب للنظام، المؤمن بالواجب والحق، الموكل بالإنجاز، العارف بالتبعات والمسئوليات.
هذه الخصائص واضحة كلها في عمر، وعمر وحده واضح بين أمثاله في جميع هذه الخصائص، حتى ليخيل إلينا لو أنَّ أحدًا مولعًا بتأليف الألغاز سأل عن عظيم في الإسلام والعروبة، متصف بجميع هذه الخصائص على أصدق وأبرز حالاتها، لكان الجواب الواحد عن سؤاله اسم عمر بن الخطاب.
وقد يكون العجب من توافر هذه الخصائص في تفريعاتها الثانوية، وأشكالها العارضة، أبلغ وأدل على العمق والتأصل من توافر الخصائص الجليلة، التي هي بمثابة الأصول الجامعة في طبائع الجنود.
فالنظامُ مثلًا ليس بالخلق الأصيل في الجندي الباسل، فقد ينساق إليه بطبعه، وقد يحتاج إلى تعوده وإدمانه[6]، حتى يكسبه بطول المرانة. لكن النظام كان خلقًا أصيلًا في طبيعة عمر، حتى فيما يتفرع عليه، ويدخل منه في عداد الأشكال والنوافل.٣[7]أرأيته وهو يصلي بالناس فلا يكبر حتى يسوي الصفوف، ويوكل [67]رجلًا بذلك؟! أرأيته وهو يرى الناس يجتمعون بالمسجد في شهر رمضان أوزاعًا متفرقين حول كل قارئ، فيأمرهم أن يجتمعوا إلى قارئ واحد؟! أرأيته وهو يحمل الدرة لينبه المخالفين في الطريق، ويذكرهم هيبة القانون؟! أرأيته وهو يركب في السوق؛ فيكسر ما برز من الدكاكين، ويخفق التجار بالدرة إذا تكوَّفوا على الطعام٤ وقطعوا طريق السابلة؟! أرأيته وهو لا يزال يأمر بالمثاعب٥ والكنف٦ أن تقطع عن طريق المسلمين؟! أرأيته وهو ينهى الولاة عن الاتِّكاء في مجالس الحكم، ويكتب إلى عمرو بن العاص: «وقع إِلَيَّ أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلستَ فكن كسائر الناس، ولا تتكئ؟!»
بل أرأيته وهو يرعى المراتب، فينزل درجة من سلالم المنبر بعد أبي بكر؛ لأن الخليفةَ الأول أحقُّ منه بالتقديم؟!
ذلك هو السمت العسكري بالفطرة التي فُطر عليها، وليس هو السمت العسكري بالأسوة والتعليم.
وبالفطرة التي فطر عليها كان يحب ما يحسن بالجندي في بدنه وطعامه، ويكره ما ليس بالمستحسن فيه، فكان يقول: «إيَّاكم والسمنة فإنها عقلة»،٧ وكان يقول: «إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قُوتِكم، فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة.» وكان يأمر بالجد، ويحذر من المهازل؛ لأن «من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن كثر سقطه٨ قل ورعه»، وكان يمشي «شديد الوطء على الأرض، جهوري الصوت» كما يمشي الجنود، وكما يتكلمون، وكان يأمر بتعلم الرماية والسباحة، والفروسية والمصارعة، وكلِّ رياضة يتدرب عليها الجندي، وتتهذب بها الأبدان والأخلاق.
وإذا ارتقينا من هذا إلى النظام الأشمل، والتقسيم الأعم الأكمل، فهناك عمر بن الخطاب الذي دَوَّنَ الدواوين، وأحصى كلَّ نفسٍ في الدولة الإسلامية، كأدق إحصاء وعاه الموكلون بالتجنيد في العالم الحديث، فما [68]من رجل أو امرأة أو طفل إلا عرف اسمه، وعرف مكانه، وعُرفت حصته من بيت مال المسلمين. وما من مجاهد إلا عرفت له رتبته من السبق والتقديم على حسب المراتب التي يمتاز بها الجنود؛ فالحاضرون في «الحديبية» يأتون بعدهم في التقديم، والذين اشتركوا في حرب الرِّدَّةِ يأتون بعد هؤلاء وهؤلاء، والذين حاربوا في معارك الروم والفرس ومعهم أبناء الغزاة في بدر يلحقون بمراتب هؤلاء المتقدمين، وَقِسْ على ذلك ما يليه من سائر المراتب في حقوق التقديم والتقسيم.
ثم هناك عمر بن الخطاب الذي عشر الجنود؛ أي جعلهم عشرات عشرات، ثم قسمهم إلى كتائب وبنود.
وهناك عمر بن الخطاب الذي لم يدبر قط تدبيرًا كبيرًا أو صغيرًا في شئون الدولة إلا بنظام لا يختل، أو على أساس لا يحيد. وقد كانت له طريقة الجند في التصريف السريع، الذي ينفذ إلى الغرض من أقرب طريق، فلما تشاور المسلمون ماذا يصنعون بسهيل بن عمرو — خطيب المشركين يومئذ وأقدر الخائضين[8] منهم في الإسلام — قال عمر بن الخطاب: «يا رسول الله، انزع ثَنِيَّتَيه السفليين، فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا.» وكان سهيل أعلم — أي مشقوق الشفة السفلى — فإذا نزعت ثَنِيَّتاه، فقد عجز عن الخطابة من غير ما حاجة إلى عهد أو تحذير، أو شغل شاغل بإسكاته والرد عليه.
والقضاء لم يكن من لوازم «الطبيعة الجندية» وإن تولاه القادة والجند في أيام الفتن، والأيام التي تقام فيها الدول الناشئة، والنظم الجديدة.
ولكن كم من قضية لعمرَ بن الخطاب تذكرنا بالقضاء العسكري الذي يمنع الضرر من أقرب الطرق، ويحمي الأكثرين بالحد من حقوق الأقلين. هتفت امرأة باسم نصر بن حجاج، وتمنت أن تشرب الخمر وتلقاه، فأرسل إليه، فإذا هو أحسن الناس شَعرًا وأصبحهم وجهًا، فأمره أن [69]يجم[9] شعره، فظهر جبينه ووجنتاه فازداد حسنًا، ثم أمره أن يعتم[10]، فزادته العمامة زينة وغواية، فقال: لا يسكن معنا رجل تهتفُ به العواتقُ[11] في خدورها[12]. وزوده بمال وأرسله إلى البصرة ليعمل في تجارة تشغله عن النساء، وتشغل النساء عنه.
وفي القضية جور على نصر بن حجاج لا جدال فيه، ولكن في سبيل مصلحة أكبر وأبقى، أو في سبيل مصلحة يرعاها «الحكم العسكري» في أزمنة كزمان عمر، ويقضي فيها بما هو أعجب من إقصاء نصر بن حجاج، يرعاها أحيانًا بمنع الإقامة بمكان، ومنع المرور من طريق، وتحريم تجارة لا حرام فيها، ومراقبة إنسان يخشى أن يقود إلى جريمة، وتقييد السهر بعد موعد من الليل.
***
ولسنا نقول إنَّ هذا الحكم في قضية نصر بن حجاج، كان حكمًا لزامًا لا محيص عنه، ولا مأخذ عليه، ولكنا نقول إنه حكم فيه تلك الصبغة العمرية التي سميناها «مفتاح شخصيته»، وهي المقصودة بما نكتبه الآن.
وقد كان له في قضائه ذلك الحزم الذي يقطع اللجاجة[13] وينهض بالحجة على كل ذي خلاف كلما اشتجر الخلاف، كتب إليه أبو عبيدة من دمشق أنَّ عمرو بن معد يكرب، وأبا جندل وضرارًا وجماعة من علية القوم والوجوه، شربوا الخمر وسئلوا فأجابوا: «إننا خُيِّرنا فاخترنا. قال: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ولم يعزم»، وكأن أبا عبيدة تحرج من عقاب هؤلاء العلية، فرفع أمرهم إلى الخليفة يستفتيه، فلم يلبثِ البريد أن بلغ المدينة حتى عاد إليه يأمره أن يدعوهم على رءوس الأشهاد، ويسألهم سؤالًا لا يزيد عليه ولا ينقص منه: أحلالٌ الخمر أم حرامٌ؟ فإن قالوا: حرام. فليجلدهم، وإن قالوا: حلال. فليضرب أعناقهم، فقالوا: بل حرام، فجُلِدوا وتابوا.
وربما تجمع للرجل كل ما في «طبيعة الجندي» من الخصائص، وبقيت محبوسة فيه لا يدري بها الناس إلا أن يأتي بعمل ينم عليها، فيدين [70]نفسه بطبيعته تلك، ولا يدين غيره، ويكون مطبوعًا على أن يطيع، ولا يكون مطبوعًا على أن يطاع، وإذا جاءته طاعة المطيعين له، فإنما تجيئه من سلطان النظام، وحكم الشرع، وغلبة العادات؛ لأن الشجاعة مثلًا لا تلازم الهيبة في كل حال، فقد يكون الشجاع مهيبًا، ويكون غير مهيب أحيانًا ممن تقتحمهم الأنظار، ويجترئ عليهم المستخفون.
أما عمر بن الخطاب فقد كانت له «طبيعة الجندي» ظاهرة وباطنة، تبادر القلوب كما تبادر الأنظار، وتلازمه كأنها عضو من أعضائه، فما يجترئ عليه مجترئ إلا أن يطمعه هو، ويسهو عن نفسه لحظة ليغريه بالاجتراء.
وهي في موقف الأمر مخيف من لا يخاف، ويجفل منها من يحتمي بجاه أو كبرياء. شكا إليه رجل من بني مخزوم أبا سفيان لظلمه إياه في حدٍّ كان بينهما، فدعا بأبي سفيان والمخزومي وذهبوا إلى المكان الذي تنازعاه، ونظر عمر فعرف صدق الشكوى ونادى بأبي سفيان: خذ يا أبا سفيان هذا الحجر من هنا فضعه هنا، فأبى وتردد، فعلاه بالدرة وهو يقول: خُذْهُ فضعْهُ ها هنا، فإنك ما علمت قديم الظلم. فأخذ أبو سفيان الحجر، ووضعه حيث قال، ولو غير عمر أمره هذا الأمر لاستكبر أن يطيع، أو شنَّها عليه شعواء لا تؤمَن جريرتها.
كان١٥ يومًا في مجلس عمر وزياد بن سمية١٦ يتكلم، وهو يومئذ شاب، فأحسن — كعادته — في مجال الخطابة والمشورة، فأعجب به عمر، وهتف به: لله هذا الغلام! لو كان قرشيًّا لساق العرب بعصاه.
وكان علي بن أبي طالب إلى جانب أبي سفيان، فمال إليه هذا، وهمس في أذنه كلامًا، فحواه أنه يعرف من أبو ذلك الغلام من قريش. قال علي: فمن؟ قال: أنا. قال: فما يمنعك من استلحاقه؟ فهمس له: أخاف هذا الجالس أن يخرق عليَّ إهابي.١٧
وخليق بمثل هذا الرجل ألا يكون له شعار غير شعار الجند حيث كانوا: الأمر هو الأمر، والطاعة هي الطاعة. [71]وخليق بالناس أن يفهموا ذلك عنه بغيرِ بيانٍ، لا سيما إذا فهموا قبل ذلك أنه متى وجبت الطاعة، كان هو أول من يطيع.
ذلك هو الجندي المطبوع[14].
جندي من جنود الله في معترك[15] الحقِّ والإيمان. وإذا استوفينا المثل إلى أقصاه، فالقانون المطاع هو القرآن، والقائد الأعلى هو النبي الذي يُوحَى إليه، وليس أحد بعد ذلك أكبر من أن يطيع.
يأمر الله فالطاعة واجب لا هوادة فيه
ويأمر القائد الأعلى فقد يراجعه من دونه، ويرتفعان معًا إلى القانون؛ لأن الطاعة لا تمنع المراجعة والمشاورة، ولكنها تمنع التمرد على القائد الأعلى، وإنكار سلطانه حينما استقر على قرار، فإن رجع القائد عن أمره فحسن، والمراجعة إذنْ خيرٌ لا ضررَ فيه، وإذا مضى في أمره فلا خلاف إذنْ فيما يجب، فالذي يجب إذنْ واحد، وهو أن يطاع.
كذلك راجع عمر النبي في مسائل شتى، فأخذ النبي برأيه في بعض هذه المسائل وخالفه في بعضها، فلم تكنْ طاعته فيما خُولِفَ فيه أقل ولا أضعف مما وُفِّقَ عليه.
وكذلك راجع الخليفة أبا بكر في كبريات المسائل وصغارها، فكان أبو بكر[16] يثوب إلى رأيه كثيرًا، ويُصرُّ على ما بدا له إذا رأى الحسنى في الإصرار، فيطيع عمر أمره بعد ذلك، كأنه لم يكن خلاف.
وإذا امتنعت المراجعة فليس الرجل عند ذلك بواهن[17] عن احتمال التبعة، وتصريف الرأي، والاضطلاع[18] بأعباء الموقف كيف كان.
اشتد المرض بالنبي عليه السلام فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده. قال عمر: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.
عندنا كتاب الله حسبنا[19]..
عندنا القانون الأعلى.
أما القائد الأعلى فهو في مرضه بحال لا تستحب معها المراجعة، وهو [72]مع ذلك لم يُصِرَّ على أمره، ولم يعاود طلب الورق للكتابة، وإنما قال حين كثر اللغط بين الصحابة: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. ثم عاش عليه السلام أيامًا ولم يذكر الكتاب.
فالرجل يطيع إذا استقام الأمر، واستقرت التبعة.
وكان يراجع إذا اتسع مجال المراجعة.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فهو ضليع بالتبعة التي توجبها عليه نفسه، وقمين أن يذهب إليها ولا ينكل عنها. وتلك سُنَّة جرى عليها عمر عن علم وقصد، ولم يجر عليها عن بداهة وإلهام وكفى، وأشار إليها في كلامه غير مرة، فقال في خطبة من خطبه ما فحواه:
… كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه وجلوازه،١٩ وكان كما قال الله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ. وكنت بين يديه كالسيف المسلول، إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكف عنه، وإلا أقدمت على الناس لما كان أمره.
فهو جلواز النبي، وسيفه المسلول، كما وصف نفسه.
وهو على أقوم مثال للجندي الفاضل العليم بموقع الطاعة، وموقع المراجعة، وموقع المشاورة، وهو مع التبعة حيث لا مهرب منها، وتلك هي الجندية في صورتها المثلى.
وما نحسبه كان يراجع ويشاور إلا لغرض واحد، وهو الوصول إلى الأمر الذي يحمل التبعة فيه.
فإذا أعفى نفسه من التبعة بمراجعة رؤسائه، وأعفى نفسه من التبعة بمشاورة مرءوسيه، فقد عرف كيف ينبغي أن يطيع، وعرف كيف ينبغي أن يطاع، وعرف ما يتوق كل جندي أن يعرفه، حين يؤمر وحين يأمر، وهو توضيح ما يطلب منه، وما يطلب من غيره، وتقرير مكان التبعات حين تقسم التبعات.
ولقد كانت له مخالفات، ليست من قبيل المراجعة ولا المشاورة التي [73]تعمل فيها الروية عملها، أو تختلف مذاهب الآراء فيها.
كانت هذه أيضًا من مخالفات «الجندي» التي يندفع إليها كُلَّما غلبته الحماسة، وثارت به الحمية[20].
فلما كان يومُ أحد، جاء أبو سفيان ينادي على مَسْمع من المسلمين: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله: لا تجيبوه!
فعاد ينادي مرتين: أفيكم محمدٌ؟ فلم يجيبوه!
فسأل ثلاثًا: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا …
ثم سأل: أفيكم ابن الخطاب؟ وكررها ثلاثًا، فلما لم يسمع جوابًا، قال لقومه: أمَّا هؤلاء فقد كفيتموهم.
كثير على عمر أن يحتوي صبره في هذا الموقف أكثر مما احتواه، فما قالها أبو سفيان حتى صاح من مكانه: «كفرت يا عدو الله، ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأنا أحياء! ولك منا يوم سوء.»
هذه مخالفة لا مراجعة فيها ولا مشاورة.
لكنها من مخالفات الجند، ولهم ولا شك مخالفات، كما لهم طاعات.
•••
نعم كانت لهم مخالفاتهم وطاعاتهم، وكانت لهم كذلك فكاهاتهم وأهواؤهم التي هي أخص من سائر الفكاهات والأهواء.
فكانت تعجبه الفكاهة التي توحي إليه معنى مضحكًا فيه صراحة وخشونة، ومنها الفكاهة التي نُسميها اليوم «بالنكات العملية». فرغ رسول الله يومًا من بيعة الرجال، وأخذ في بيعة النساء، فاجتمع إليه نساء من قريش فيهن هند بنت عتبة متنقبة[21] متنكرة، لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنه فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بصنيعها، فلما دنون منه ليبايعنه قال عليه السلام: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئًا.
[74]قالت هند: والله إنك لتأخذ أمرًا ما تأخذه على الرجال، وسنؤتيكه[22].
قال: ولا تسرقن.
قالت: والله إن كنت لأصيب[23] من مال أبي سفيان الهنة[24] والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالًا لي أم لا.
قال أبو سفيان — وكان شاهدًا: أما ما أصبتِ فيما مضى، فأنت منه في حل.
فقال رسول الله: وإنك لهند بنت عتبة!
قالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف، عفا الله عنك.
فمضى رسول الله في أخذ البيعة وعاد يقول: ولا تزنين.
قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة؟
قال: ولا تقتلن أولادكن.
قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت وهم أعلم..
فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرب،[25] وكان قليل الإغراب في الضحك، فإن استغرب ضاحكًا بين حين وحين؛ فإنما يضحكه مثل هذه الفكاهة.
وعلى هذا النحو فكاهته مع خادمه أسلم وابنه عاصم: دخل عليهما، وهما يغنيان غناء يشبه الحداء[26]، فوقف يستمع ويستعيد، وشجعهما إصغاؤه واستعادته، فسألاه: أيُّنَا أحسنُ صنعةً؟ قال: مثلكما كمثل حماري العبادي. سئل: أيهما شر؟ فقال هذا ثم هذا.
ومن فكاهته القوية تلك المزحة المرعبة التي أطار بها لب[27] الحطيئة ليكف عن هجاء الناس، فدعا بكرسي وجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بأشفى — أي مثقب وشفرة — يوهمه أن سيقطع لسانه، فضج[28] الحطيئة وتشفع الحاضرون فيه، ولم يطلقه حتى أخذ عليه عهدًا لا يهجونَّ أحدًا بعدها، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، [75]فما هجا أحدًا بعدها وعمر بقيد الحياة.
تلك أمثلة من فكاهته الخشنة التي تعهد في طبيعة الجند، وهي فكاهة لا يطمع منه في غيرها.
وشاءت الجاهلية أن تورطه في بعض أهوائها، فكان هواه منها معاقرة الخمر، يحبها ويكثر منها. وقد نرى أنه هو قريب من مزاج الجند غير نادر فيهم؛ إذ الخمر توافق ما فيهم من سورة طبع، وتشغلهم عن الخطر، أو تعينهم عليه، وتصاحبها في كثير من الأحيان ضجة يألفونها.
وقد أحب ضجة الدفوف، وهي في سياق هذا الهوى، وظل يحبها بعد إسلامه وخلافته، وإن كرهها في غير الأعراس. فسمع ضوضاء في دار فسأل: ما هذا؟ قيل له: عرس! فقال: هلا حركوا غرابيلهم؛ أي الدفوف! على أنه كان يحب الغناء جملة ويطيل الإصغاء إليه ما لم يشغله عن مهم من أمر دينه أو سياسته، فسمع صوت حادٍ وهم منطلقون إلى مكة في جوف الليل، فما زال يوضع راحلته٢٦ حتى دخل بين القوم يسمع إلى مطلع الفجر، ثم قال للقوم: إيه! قد طلع الفجر، اذكروا الله.
•••
فطبيعة الجندي في الفاروق تامة متكاملة بأصولها وفروعها، ويندر أن تتم طبيعة شاملة في رجل واحد، إلا أن يكون كعمر في أصالة الطبع وصراحته وخلوصه واتساقه، فلا يخذل منه جزء جزءًا، ولا تقبل منه وجهة حيث تدبر أخرى، وحينئذ لا عجب أن تنم له طبيعة واحدة بالغة ما بلغت من تعدد العناصر والألوان والشيات، كما أنه لا عجب أن يشبه الولد أباه؛ لأنه أصيل صريح النسب، بالغًا ما بلغ التعدد في مشابه الأخلاق والجوارح والأعمال. ولهذه الطبيعة أثرها في أمور لا تمت إليها على ظاهرها، كأثرها في تحريم رق العربي، وفي إخلاء الجزيرة من غير العرب، فهي شنشنة الغيور على الحوزة، الموكل بحماية الذمار.٢٧
ولها أثرها في سياسته مع الأمم حيث يأمر الجند بتصديق كلمة الشرف، [76]والبر بالوعد، ولو كان إشارة باليد، أو نبأة من صوت، فقد أوجب على قادته وجنوده إذا نزلوا بلاد الأعاجم فبدرت منهم إشارة أو نبأة يحسبونها عهدًا أن ينجزوا هذا العهد، ولا ينكصوا فيه، ولو أتيح لهم أن يتعللوا بجهل اللغة، وغرابة العادات والمصطلحات.
وإنك على الجملة لا تعرض عملًا من أعمال الفاروق العامة والخاصة على هذه الطبيعة، إلا وجدت له قرارًا فيها، ووجدت عليه صبغة منها.
فهي لا ريب أقرب مفتاح لهذه الشخصية العظيمة، وبها تتميز خصائصه التي لا يشترك فيها أناس مطبوعون على غيرها، وإن كانوا عظماء أقوياء.
وقد أسلفنا الإشارة إلى الإيمان القوي وقلنا إنه ضابط لأخلاقه وسوراته، وليس بمفتاح يكشفها، ويفتح مغالقها؛ لأن الإيمان القوي نفسه يحتاج في فهمه وتمييزه إلى المفتاح الذي يفرق بين ضروب الإيمان عند الأقوياء، وليست القوة كلها — كما لا يخفى — معدنًا واحدًا في البواعث والمظاهر والآثار.
وهكذا كان إيمان عمر في سلوك دنياه وسلوك دينه، كان إيمان الطبيعة الجندية في حالتها المثلى.
ففي سلوك دنياه كان يعيش أبدًا عيشة المجاهد في الميدان؛ فآثر الشظف، وقنع منها بأقل ما يكفيه ولا غنى عنه.
وفي سلوك دينه كان موقفه بين يدي الله أبدًا كموقف الجندي الذي يعلم أنه لا يلقى مولاه إلا ليؤدي الحساب على الكثير والقليل، فإن تجئه المسامحة جاءت عفوًا، لا ينسيه تحضير الحساب. وكان معتمدًا على الغيب موصولًا بالقدر، يركن إليه كأنه يراه بعينيه. ومن دأب كل طبيعة تستحضر الموت أن تنظر إلى الغيب، وتستطلع طِلعه٢٨ وتنتظر منه الحماية والهداية.
فاشتهر عن كثير من كبار القادة أنهم يؤمنون لهم بنجم سعد يلحظهم، أو بغاية أجل لا يعجلون عنها، أو بإلهام يهديهم إلى النجاة، ويرون أماراته [77]وعلاماته في الرؤى والهواتف، وكلمات الفأل والبشارة.
وكان عمر يتفاءل بالأسماء، وينظر في الرؤى والمنامات، ويروى عنه في روايات متواترة أنه أنبئ بموته في منام، وأنه رأى كأن ديكًا ينقره نقرتين، وفسروا له الديك برجل من العجم يطعنه طعنتين.
وروى محارب بن دثار عنه أنه سأل رجلًا: من أنت؟ فقال: قاضي دمشق. قال: كيف تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله. فسأله: وإذا جاءك ما ليس في كتاب الله؟ فأجابه: أقضي إذن بسنة رسول الله. فسأله ثانية: وإذا جاءك ما ليس في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي وأؤامر جلسائي. فاستحسن قوله وأوصاه إذا جلس للحكم أن يدعو الله قائلًا: «إني أسألك أن أفتي بعلم، وأن أقضي بحلم، وأسألك العدل في الغضب والرضا.»
ثم رجع القاضي بعد فترة فسأله عمر: ما أرجعك؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان، مع كل واحد منهما جنود من الكواكب. فسأله: مع أيهما كنت؟
فقال: مع القمر! فتأمل قليلًا ثم ذكر قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ. ثم قال: لا تلي لي عملًا.٢٩
هذه رواية من روايات كثيرة عن المنامات ونظره فيها، لا ندري مبلغها من الصحة في تفصيلاتها، ولكنها كلها تدل على الغرض الذي قصدنا إليه، وهو استهداء الغيب من طريق الرؤى والعلامات، إلى جانب الإيمان القوي لا يسهو عن عالم الغيب طرفة عين.
ومن الحق أن نضيف هنا أنَّ الإيمان القويَّ ليس بمستغرب في الطبيعة الجندية، بل ربما كانت طبيعة الجهاد أقرب شيء إلى طبيعة الإيمان. وأن نضيف هنا استدراكًا آخر، لعله أدعى إلى البحث من القول في الجهاد والإيمان، وذلك أنَّ العدل لا يناقض طبيعة الجند عامة، وأنَّ طبيعة الجند لا تستلزم العدوان في كل محارب، ولا سيما المحارب نضحًا٣٠ عن دين ووفقًا لشريعة.
[78]فالعدل يفتقر إلى شجاعة وشرف، وهما خصلتان مطلوبتان في الجندي المطبوع، فأما الشجاعة في الرجل العادل فتحميه أن يحابي الأقوياء وهو جُبن، وأما الشرف فيحميه أن يجور على الضعيف وهو خسة، ولا تناقض بين هذه الخصال.
إنما المحارب المعتدي هو الذي «يحارب لحسابه» كما يقولون، أو يحارب لنفسه مرضاة لطمعه، وذهابًا مع نزواته، ومن هذا الطراز الإسكندر وتيمور ونابليون.
أما المحارب الذي تقيده إرادة غير إرادته، ويحكمه قانون غير هواه، فالحرب من مثله واجب يلام على تركه، وليست بجريمة يلام على اقترافها.
وقد يرى هؤلاء أنَّ أشرف الجهاد جهاد النفس والهوى، قبل جهاد الخصوم والأقران، كما رأى عمر بن الخطاب.
ومصداق ذلك ظاهر في كل قائد تدعوه إلى الحرب إرادة إله، أو إرادة أمة، أو إرادة ضمير له قانون. فطبيعة الجندي في هؤلاء لا تناقض العدل، إلا كما تناقضه طبيعة الفيلسوف، أو طبيعة الفن، أو طبيعة التصرف في شئون المعاش، ولا تناقض بينه وبين واحدة منها، أو هي جميعًا في هذه الخصلة سواء. هؤلاء لا يحاربون إلا مكرهين، وإذا حاربوا لم يحاربوا لبغي ولا لتنكيل، ولو كان في ميدان القتال، وسنتهم هي سنة عمر حين حذر المجاهدين أن يعتدوا؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ثم قال: «لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور،٣١ ولا تقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، ونزهوا الجهاد عن عرض الدنيا، وأبشروا بالإرباح٣٢ في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.»
وذلك هو الجندي في حالته المثلى.
وذلك هو المفتاح الصادق الذي لا نعلم مفتاحًا أصدق منه لخلائق هذا الجندي العادل الكريم.
صاح وأحدث جلية
تصنيف:
عبقرية عمر
==========
أي ننهيها ونزيلها
الفتيلة
ومض البرق : لمع لمعا خفيا
أي صعب
العلامة
بد من كذا : أي يديمه
ما يؤديه الانسان تطوعا
الذين يتحدثون في الاسلام بالباطل
أي يحلق شعره
أي يلبس العمامة
العاتق : التي لم يفض ختامها أحد
الخدر : الستر
المبالغة في الخصومة
أي أن الجندية طابعه من الاساس
موضع الحرب أو ميدانه
أي يرجع
الضعف
أي القيام
أي يكفينا
الحمية : العار والانفة
متنقبة : أي تلبس النقاب
أي سننفذه لك
أي آخذ
الشيء اليسير
من بين معاني . الاغراب : المبالغة في الضحك
الغناء للابل
العقل
=========
إِسلامُه
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/إسلامه
[79]إسلامه و 6 يجوز أن نبحث عن سبب واحد للعمل الذي يعمله الرجل اليوم وينساه غدا ، أو يكرره كل يوم ولا يلتفت الى عقباه ، أو يلتفت الى عقباه ولا يتوقع له أثرا يغير في مجرى حياته . فسبب واحد لعمل من هذه الأعمال كاف ولا حاجة بعده الى استقصاء لكن العمل الذي تتحول به حياة الانسان تحولا حاسما لن يرجع الى سبب واحد ، ولن تستغني في تفسيره عن عدة أسباب ، بعضها حديث وبعضها قديم ، ومنها الظاهر الطبع والخفي المستعصي ، وقد يجهل صاحبها بعض هذه الأسباب وينسى المهم منها ويتعلق بالهين القريب فالرجل الذي يغير موطنه ، أو معیشته ، أو زبه و لا يفعل ذلك عفو الساعة ، ولا تلبية لاقتراح يوحى إليه في مجلس فراغ . وقد يتوهم هو سمع الاقتراح فلاه ، وأنه لم يكن ليليه لولا ما في تلك اللحظة العارضة . فهاجر أهله وترك موطنه وغير صناعته وأنك سائله ساعتئذ : « انك قد هجرت أهلك وترکت موظنك وغيرت معيشتك لأنك لبتيت اقتراحا ، فهل تعلم لم لبيت الاقتراح ». فاذا سألته ذلك السؤال ، رددته إلى نفسه فعلم أن الأسباب الصحيحة وراء وانه لم يتحول لأنه سمع الاقتراح المزعوم ، بل وليا لأنه كان قبل ذلك مستعدة للتحول ماضيا في طريقه ، ولو سمعه لم يكونوا مستعدين مثله ، لما عملوا به ولا التفتوا اليه وأين تغيير المعيشة والموطن والزی من تغيير العقيدة الدينية ? .. اننا اذا استصغرنا السبب الواحد في تفسير تلك التغييرات فهو لا مراء أصغر من ذلك جدا في تفسير التحول الحاسم الى دين جديد أجل كلية . ذلك الاقتراح 6 مائة معه (۱) أي استجاب [80]۸۲ 6 6 موقوتة . هی الحدث العظيم في وقد أحاط 6 لأن الانسان اذا غير معیشته فانما يغير صناعة ، واذا غير موطنه فانما يغير بلدا ، واذا غير زبه فانما يغير سمتا يقوم على كساء ، ولكنه اذا غير عقيدته الدينية فقد غير كونه واستبدل به کونا آخر ، وقد غير ماضيه وماضي أهله ، وغير حاضره وحاضر أهله ، وغير مصيره في الدنيا وبصيره بعد الموت ، وغير آراءه ومقاییسه فيما يأخذ وفيما يدع من أمور الحياة وعلاقات الناس ، ومنها ما لف) وأواصل ومحان وکاره متوشحات الأصول الى ما وراء الآباء والأجداد فسبب واحد لا يغير هذا كله دفعة واحدة ولا بد لتمام هذا التغيير من أسباب سابقة ، وأسباب مهيئة ، وأسباب أقلهر تلك الأسباب ، وقد تكون أضعفها وأقلها تفسيرا لذلك العالم ، وهل يتغير الأنسان هكذا الا بالعالم في نظره حدث عظیم ? .. و نحن قد أشرنا فيما تقدم الى ندم عمر لشكاية المرأتين اللتين عارضهما في الاسلام ، والى ما كان لندمه من كسر حدته واستلال ضغنها وترويض عناده والتقريب بينه وبين الخشوع الديني والهداية الاسلامية . فهل نقف عند هذا الندم و كفي ؟ وهل التنهينا به إلى حيث يستقر الوقوف ? .. انه لسبب من الأسباب ومما لاشك فيه أن عمر كان مقتربا من الاسلام يوم رئي لأم عبد الله بنت حثمة ، وتركها تنطلق إلى الهجرة وهو يدعو لها بالسلامة ، وكانت هي على صواب حين طمعت في اسلامه ورجالها يائسون منه ، فقد سألها عامر بن ربيعة مستغربا مستبعدا : كأنك قد طمعت في اسلام عمر قال : أنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب ! ولكن الرجل أخطأ وصدقت المرأة ، اذ ليس أسرع من المرأة أن تامح جانب الرقة وجانب الغضب من قلب الرجل في خطفة عين أليست حياتها كلها من قديم الزمن منوطة بذلك الغضب کیف تتلطف في تحويله (۱) أي هيئة • (۲) من الألفة • (۳) أي علاقات وروابط . (4) من المحبة . (5) توشحت : أي لبست الوشاح (1) اي حقده • 4 L. ? وو قالت : نعم . . [81]هو
عمر 6 لا وبتلك الرقة .كيف تتلطف في ابتعاثها من مكمنها ?.. وهل تحجبها عنها القوة ، وهي ما نفذت الى نفس الرجل قط الا من وراء القوة ?.. فعمر كان مقتربا من الاسلام يوم رثي للمرأة المهاجرة ودعا لها بصحبة الله ، وكان على تمام الإسلام يوم رأى الدم على وجه أخته ورأي زوجها منطرحا تحته لا يقوى على دفاع ولكنه كما قلنا : سببه من أسباب ، أو أنه السبب العارض الذي يومية إلى السبب العميق : سبب عارض هو الإسف لشكاية الضعبف ، وسبب عمیق هو الرحمة التي تجمل بذي نخوة کریم . وليس الانسان کله ندما ورحمة وان طال ندمه وطالت رحمته . فليس كل ما احنوى رحمته بمحتويه الى زمن طويل وقد تعددت الروايات في اسلام واختنف بعض هذه الروايات في اللفظ واتفق في المغزى"، وجعل أناس ينظرون فيها، كأنما الصحيح منها لا يكون الا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشمل على حقيقة ، فلم تكون صحاحا كلها .. ولم لا تكون أسبابا متعددات في أوقات مختلفات ?.. فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلا من الحشو هنا وهناك ثم نخلص منها الى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجوهر ، وقد يعزز بعضها بعضا في نسق السيرة، وفي تباب النتيجة روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « كنت للاسلام مباعدا ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش .. فخرجت أريد جلسائى أولئك فلم أجد أحدا . فقلت : لو أنني جئت فلانا الخمار ... وخرجت فجنته فلم أجده .. قلت : لو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين !.. فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، وكان أنا صلی استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين : الركن الأسود والركن اليماني ، فقلت حين رأته : والله لو اني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول ، وقام بنفسي أنني لو (1) أي يشير (۲) الكبرياء والعظمة . (۳) أي المقصد A. [82]> و هم نعیم دنوت اسمع منه لاروعنه ، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها ما بيني وبينه الا ثياب الكعبة ، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلنى الاسلام » وروى ابن اسحق في سبب اسلامه كما قلنا عنه في كتابنا ( عبقرية محمد » : « أن عمر خرج يوما متوشحا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه .. قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر ؟.. فقال : أريد محمدا هذا الصابي؟" الذي فرق امر قریش ، وسفيه أحلامها ، وعاب دينها ، وسبة آلهتها ، فأقتله . فقال والله لقد غرتك نفسك ياعمر !.. أتری بنی عبد مناف تاو كيك
تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا .. أفلا الى أهل بيتك فتقیم أمرهم .. قال : وأي أهل بیتی .. قال : اختك وابن عمك سعيد ابن زید بن عمرو ، وأختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه .. فعليك بهما قال فرجع الى أخته وختنه : وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا الى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت .. قالا له: ما سمعت قال : بلى والله ، لقد اخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه ، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت اليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجا .. فلما فعل ذلك قالت له أخته : نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك ، فلما رأی عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا ، أنظر ماهذا الذي جاء به محمد .. وقرا سورة طه ، فلما فرا (1) أي لافز عنه واخيفنه • (۲) ما دون العشرة من الرجال . (۳) الذي ترك دينه إلى دين آخر : (4) الصهر ، أو كل ما كان من قبل المرأة كالاب والاخ . (0) أي قاصدا : (6) الموت الخفي - (۷) أي جرحها و . عمر عامدرا 5 (۷), . [83]ذلك خباب < "1"} عمر منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ، فلما خرج اليه فقال له : با عمر ، والله اني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فانی سمعته أمس وهو يقول : اللهم أيد الاسلام بأبي الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب ، فالله الله ياعمر .. فقال له عند ذلك شمر : دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم ، فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه ، فأخذ سيفه فتوشحه ثم عمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب ، وقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا بالسيف ، فرجع إلى رسول الله وهو فزع ، فقال : يا رسول الله !.. هذا الخطاب متوشحا السيف ، فقال حمزة بن عبد المطلب : تأذن له ، فان كان يريد خيرا بذلناه له ، وان كان يريد شرا قتلناه بسيفه ... فقال رسول الله : ائذن له ونهض اليه حتى لقيه بالحجرة فأخذ أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال : ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك تارعة فقال عمر : يا رسول الله !.. جنتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله !.. » عمر بن بحجز ته)
هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للاسباب « المباشرة ، التي قربت بين عمر والاسلام . وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارة أن عمر قد أوفد القتل النبي من قبل قرش ، ويزيد بعضها تارة أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمر في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة انيها في سورة طه .. وأشبهها بالتصديق أنه لما اطلع على الصحيفة ترا فيها أسم « الرحمن الرحيم ، فذعر وألقاها . ثم رجع إلى نفسه فتناولها مر باسم من أسماء الله ذعر ، وبالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم أن کنتم مؤمنين » قال : أشهد أن لا اله الا الله ، وأن محمدا رسول الله وهذه على اختلافها روایات متقاربة يبدو لنا أنها قصة واحدة شطرت) (1) أي الآيات الأولى منها . (۲) أي لبسه ۰ (۳) أي قصده . (4) الفرجة بين الشيئين : (0) معقد الازار • (1) أي جذبه . (۷) الداهية • (۸) أي أرسل • (۹) نصفه وجعل كلما .. فلما بلغ ۰۰ (1). . [84]۸۹ وهي 6 (۱) هو شطرين وزيدت عليها الحواشي والأطراف ، فاختلفت في ألفافتها ومواعيدها واتفقت في جوهرها ومدلولها ، لأنها تمس نفس عمر من الناحية التي هي أشبه أن تهديه إلى طريق جدید كما أسلفنا - تجمع لنا الأسباب « المباشرة » التي اقترنت باسلام عمر ، ولا تغنينا عن الاسباب الاخرى التي هي أساس هذه الاسباب ومرجعها ، ولأجلها كان خليقا أن تأخذه بلاغة القرآن ، وأن میل به الرحمة الى الايمان فقد كان مهيأ للاسلام لا محالة ، وكانت مجافاته للاسلام خليقة أن تنتهي بعد قليل ، وألا تطول الا ريثما تعن" المناسبة للشهادة باللسان بعد التهيؤ بالفطرة والضمير فلم يكن بين عمر والاسلام في بداءة الأمر الا باب واحد للعداء وكل ما عدا ذلك من الأبواب فقد كان مفتوحا بينه وبين هذا الدين الجديد ، ما الا أن يراه بالعين حتى يندفع فيه كان باب العداء بينه وبين الاسلام انه رجل قوي غيور عزيز في قومه ، فاذا رجل يخرج عليهم فيفرق كما قال - أمر قریش ایسفه أح ويعيب دينها ، ويسب آلهتها .. فلا جرم أن يثور ويغضب وينقم ، ولا أن يذود عن دماره ويرحض المعابة عن شرف آبائه ، ويرى أنه غير د ولا باغ ، وأن البغي والعدوان انما يجيئان من قبل ذلك الرجل الخارج على قومه ، حتى يتبين له بالحق الذي يصدع به أن الذي هو فيه هو البغي والعدوان ذلك باب العداء الوحيد الذي كان بين عمر والاسلام ، وهو باب لا يطول مدخله في نفس طبعت على العدل والإنصاف من سبب يصل بين الجاهلي الشريف وهذا الدين الجديد الا كان موصولا بنفس عمر أوثق صلة ، وما علمنا من سبب للاسلام الا كانت له عقدة في نفس عمر وثيقة القرار فربما أسلم أناس لأنهم أخذوا ببلاغة القرآن ، وأسلم أناس لأنهم (1) أي تعرض أو تأتي • (۲) أي فلا بد ، او فلا محالة . (۳) أي يكره• (4) يغسل ، (9) صدع بالحق : تكلم به جهارا . جد أحلامها عجب (a) . فما 6 [85](۱) مر عمر یان عمر (1) (1) کرهوا المنكر الذي كان يشيع في الجاهلية ، أو لأنهم ورثوا النزعة الدينية والخلائق المستقيمة ، أو لأنهم جبلوا على روحانية تصل بينهم و بين عالم الغيب وحظيرة الأسرار ، أو لأنهم قد رضت لهم عارضة موقوتة حرکت ما فيهم من كوامن تلك الأسباب وكل أولئك كان عمر على استعداد له عظیم وكل أولئك لم يكن فيه بالوسه وسط المكرر ، بل كان فيه العلم المرتفع المضيء بين الأعلام بليغا النقد للبلاغة ، هواه منها الصدق والطبع وجمال الننصیل .. فكان يطرب لقول زهير : فان الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء ويقول كلما أنشده معجبا : ما أحسن ما قسم ! .. وسماه شاعر الشعراء لأنه لا يعاظل بين القوافي ولا يتبع حوشي الكلام وربما قضي الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر فيقول لجليسه : « الآن اقرأ يا عبد الله » جاءه يوما بعض آل هرم بن سنان ممدوح زهير فقال أما وان زهرا كان يقول فيكم فيحسن ، فقيل له : كذلك كنا نعطه فنجزل"، فعاد عمر يقول : ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم وجاءه وفد من غطفان فسألهم : من الذي يقول : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب قالوا : نابغة بني ذبيان . فسألهم : ومن الذي يقول : أتيتك عاريا خلقا ثيابی على رجل نظن بي الظنون فألفيت الأمانة الم تخنها كذلك كان نوح لا يخون قالوا : هو النابغة . فقال : هو أشعر شعرائكم وطالما أعجب بقول عبدة بن الطبيب : والمرء سماع الأمر ليس بدرکه والعيش شح واشفاق و تأمیل وينشده فيقول : على هذا بنيت الدنيا ! .. (1) أي طبعوا ، (۲) من النفور ، ونفار الشيء من الشيء : تجافيه عنه وتباعده (3) الظهور والوضوح (4) ضمن (5) أي خيشبه وغريبة (6) أي نغدق العطاء . (۷) الثوب الخليق : القديم البالي عمر
(1)
(۲). .
. [86]
وندر بين أئمة الدين من غاص في أدب قومه غوصه ، ووعي من أشعارهم وطرفهم مثل ما وعاه . قال الأصمعي : ما ما قطع عمر أمرا الا تمثل
فيه ببيت من الشعر. ونحن نرجع الى الشعر الذي تمثل به فنراه في أحسن موقع وأصدق شاهد ، وتلمح من قليل أخباره في خلوته أن الأدب كان جانبا من جوانبه التي ترق فيها حاشيته ويأنس فيها الى قلبه ويرجع فيها انی فطرته . جاء عبد الرحمن بن عوف الى بابه فوجده مستلقيا على مزحفة له ، واحدي رجليه على الأخرى ، وهو ينشد بصوت عال : وكيف ثواني بالمدينة بعدما قضى وطرا منها جميل بن معمر فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال له : يا أبا محمد ، انا اذا خلونا قلنا كما يقول الناس ولم يقصر اعجابه بالشعراء ، على الذين وافقوا المواعظ والسنن الدينية ، بل نظر في فنهم وفاضل بينهم في بلاغتهم ، ففضل امرأ القيس لأنه « سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح ونوادره مع الشعراء والرواة كثيرة تدل على شغفه بالبلاغة الصادقة وحفظه لأجمل ما يحفظ بين أهل عصره ، كما تدل على ذلك خطبه ورسائله وشواهده وأمثاله أنه نظم الشعر أو لا يصح ، فقد نسبت اليه أبيات وأنكر أنه شاعر حيث يقول : لو نظمت الشعر لقلته في رثاء أخي . ولكن الصحيح أنه كان الشعر البليغ ويرويه ويوصي بروايته ، وأنه نشا في قوم يحبون مثل ما أحب ، ويعجبون بمثل ما أعجبه ، ومنهم أبوه الذي نظم الشعر في أكثر من مناسبة وروى عنه أنه قال لما توعده ابن أمية : أيوعدني أبو عمرو ودوني رجال لا ينهنهها الوعيد بهر وقد بمج فو أبو عمرو (4)
*
ربيع المعدمين وكل جار اذا نزلت بهم سنة. كؤود هم الرأس المقدم من قریش وعند بيوتهم تلقى الوفود (1) أطال الاقامة به ، أو نزل به . (۲) الحاجة . (۳) معنى العبارة : أي استنبط عين الشعر ، وشق طريق المعاني ، وأتي بالشوارد الحسان (4) نهنهله عن الشيء : أي كفه وزجره (9) اي شاقة . [87](1)
ونصرهم اذا أدعو عتيسة .. فكيف أخاف أو أخشى عدوا فلست بعادل عنهم سواهم طوال الدهر ما اختلف الجديد الى آخر ما نسب اليه أقرب شيء إلى الواقع - والى المتوقع - أن يؤخذ ببلاغة القرآن رجل نشا هذه النشأة ، وأحب الكلام البليغ هذا الحب ، وأن يخشع التفصيله ، فيفتح من قلبه مسالك الأصغاء مستقیم الطبع مفطورا على الانصاف ، فلم يكن رجل مثله ليستريح الى فساد الجاهلية ، أو ينكر فسادها ، اذا نبه اليه وهدی 6 الآياته ويعجب وكان عمر 6 منه { وكانت النزعة الدينية وراثة في أسرته ، على ما يظهر من مبادرة أخته فاطمة وابن عمه سعید بن زید الى الاسلام ، وكان له قبل الاسلام رجل من عمومته يقدح في الوثنية ويبحث عن الحق في النصرانية واليهودية ، ويبتلى أهله بالخلاف ويتلونه بالايذاء والحب والارهاق ، ونعني به زيد بن عمرو بن نفیل
وعمر نفسه ألم يقل لنا انه يئس ليلة من السمر ومن الخمر فذهب يطوف بالبيت كان طواف البيت شهوة من شهوات قلبة تنوب عنه مناب المحبوب من الشهوات .. ألم يكن في الجاهلية ينذر أن يعتكف ليلة كل أسبوع .. بل لعل صلابة الخطاب أبيه لم تكن في صميمها شيئا مناقضا لعنصر الدين والايمان . فان هؤلاء الصلاب الشداد في المحافظة على العرف هم أولئك المؤمنون المتزمتون الذين لا يطيقون المساس بعقائدهم اذا آمنوا بدین وزاد عمر على الوراثة الدينية أنه كان صاحب فراسة وزكانة وكان يستطلع الرؤى والمنامات ويتصل بالغيب ويصر على البعد کما سلف في حديث سارية حين ناداه : يا سارية الجبل !.. يا سارية الجبل ، وبينهما مسيرة ايام (۱) حاضر مهيأ . (۲) ظن بمنزلة اليقين . [88]1.
و وو 6 (۳). من وكانت الموارض تمر به فتعطفه الى الاسلام تارة من طريق الرحمة وتارة من طريق العدل والنخوة ، فيخشع ويندم ويراجع عناده وكبرياءه . اذ ليس أبغض الى الرجل الأبي المنصف من أن يحارب أناسا لايحاربونه ويلج في ايذاء قوم لا يقدرون على أذاه فاذا تفتحت هذه الأبواب جمیعا بين عمر والاسلام ، فباب واحد موصد لن يحجبه طويلا عن هذا الدين ، ولن يحجب هذا الدين طويلا عنه وقد تفتحت في يوم من الأيام تفتحت كلها فدخلها دخول العاصفة من جميع الأبواب ، وأسلم الجاهلي الشريف كما كان ينبغي أن يسلم ، وكما كان يقينا سیستم في مناسبة المناسبات فاذا العالم الانساني قد تفتحت فيه صفحة جديدة صفحة يقرأ فيها القاريء قبل كل شيء ماذا يصنع الإسلام بالنفوس ويعلم منها قبل كل علم أن هذا الدين كان قدرة بائية منشئة الدن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود : كان قدرة تلابس الضعيف فيقوى ، وتلابس القوی فتنمى قوته وتجرى به في وجهته ، وكان يدا خالقة حاذقة "تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه فاذا هي صرح أساس وأركان ، وفيه مأوى للضمائر والأذهان جاهلی کسبه الاسلام فكسبه العالم الانساني كله الى آخر الزمان ردت الى صاحبها فعرق منها ما كان ينكر واطلع منها على ما كان يجهل ، ونفع بها أمته وأمما لا تحصى ، وصنع بها الاسلام أعظم وأفخم ما تصنعه قدرة بناء وانشاء ، حيثما كانت قدرة بناء وانشاء .. ونظرت الأمم فرأت کیف تعلو النفس الإنسانية حتى يحار فيما الانسان وهو رشة في مهب النوازع والاشجان رأت کیف يقع العدل والحق طبيعة حياة ، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم وكأنه لا يأكل طعامه ولا يروي ظمأه الا ليعدل ويعرف الحق ، نفخو ولا ينام الا ليعدل ويعرف الحق ، وكانه لا يتنفس الهواء (1) أي يبالغ ۰ (۲) مغلق . (۳) أي عند ۰ (4) الماهر . (0) المفازة ، (1) القمر و كل بناء عال 4 .. و نفس ضائعة وكأنه لا والضلال و [89]-روسی (1) الا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس ، وكأنما العدل والحق دین عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحدد أقوى في المطالبة بهما من ألف خريم ta) لا أنسی في تاريخ ا * يصيبه ما يصيب المسلمين ، لقد كان هذا الرجل المجيد يبغض أن يظلم غيره أشد من بغضه أن يظلمه غيره": وهذه منزلة في الانفة لا تطاولها المنازل ، لأنها منزلة الأبطال الذين يسمون على أنفسهم ، ولهم أنفس أسي من عامة الأبطال واننا لنعلم کم حز في قلبه الكريم أن يضرب بريئا على دين الحق كلما رجعنا إلى أيامه الأولى بعد الاسلام ، وهي أيام البطولة والابطال فما شغله أمر بعد اعلان الدين الا أن يخرج ليضربه أناس كما كان يضرب أناسا في سبيل ذلك الدين ثار الى الناس يضربونه ويضربهم ، فقام خاله يسأل : ما هذه الجماعة ?.. قيل له ان ابن الخطاب قد صبأ ... فقام على الحجر فنادى : الا انني قد أجرت ابن أختي : قانكشف الناس عنه ، فكان لا يزال يرى مسلمان يضرب ولا يضر به أخد ، وثقل عليه ألا فذهب الى خاله وقد اجتمع الناس في الحجر وناداه : اسمع !.. جوارك مردود عليك . قال خاله وهر به وبما يستهدف له أدري : لا تفعل يا ابن أختي . فأصر على ود جواره ، وطاب له بعد ذلك أنه اقتص من للأبرياء الذين ضربهم وهو يجهل دينهم ، فلا تمضي تلك الضربات بغير قصاص ، وان كفر عنها بالتوبة واعزاز الدين الذي آذاهم من أجله وأبي اللحظة الأولى الا أن يواجه الخطر الأكبر في سبيل دينه والا أن يقبض على الثور من قرنيه كما يقول الغربيون في أمثالهم ، وأن تحدي قريشا بحقه من آمن بأنهم على باطل ، فسأل أناسا : أي أهل مكة أنقل للحديث ؟.. قيل له : جميل بن معمر الجمحي . فذهب اليه فصرح له باسلامه !.. ولم يكذب الرجل الظن به ، فما هو الا أن سمعها حتى خرج وعمر وراءه إلى أندية قريش حول الكعبة يصرخ بأعلى صوته (1) أي تغلب و تنهزم - (۲) المراد هنا : الأول . (۳) الكريم الاصل (4) أي استنکف • (9) يعلون ويترفعون - (۹) أي ترك دينه إلى دين آخر و من 6 [90]۹۲- وشمر يقول من مد على باب المسجد : يا معشر قريش !.. ألا أن عمر بن الخطاب قد صبا » خلفه : كذب !.. ولكني أسلمت، وشهدت أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله . ثم تنشب المعركة بين هذا الرجل المفرد وبينهم فيثب على أدناهم منه وأجر أهم عليه عتبة بن ربيعة - فيصرعه ويبرله عليه يضربه ، ويدخل اصبعيه في عينيه ، لأنهما عمياوان عن الحق لا تبصران النور !.. ويتكاثرون عليه فلا يدنو منهم أحد « الا أخذ دنا منه ، حتى أحجموا عنه وركد الشي وفتر" من طول الصراع ، فجلس وهم قائمون على رأسه يتلبونه وهو يقول لهم : « افعلوا ما بدا لكم ، فوالله لو كنا ثلثمائة رجل لتركتموها لنا أو شريف من (1) < تركناها لكم » .. افعلوا ما بدا لكم ... وهذا ما أراد .. فما يستريح وجدانه الحي ان يضرب مسلما لاسلامه ، ولم يضرب كافرا لتكفره ، وما يشعر أنه وفي الله دينه ، وقد ضرب ولم تضرب ، وآذى أناسا ولم يذه أحد ، وما تهدا حاسبة العدل فيه وقد كانت كانها من حواس بدنه - الا أن يحس القصاص في نفسه كما أحس المضروبون بالأمس عدو أنه في أنفسهم « وراح يسأل النبي : يا رسول الله !.. ألسنا على الحق ان متنا أو حبينا ?.. فقال عليه السلام : بلى والذي نفسي بيده أنكم على الحق ان متم وان حييتم . قال : ففيم الاختفاء .. والذي بعثك بالحق لتخرجن ! « فما لبث النبي أن خرج في صفين ، أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة . ولهما كديده كانه کديد الطحين ، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها کابة فلا يجرؤ سلیط منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان .. وسماه النبي يومئذ بالفاروق قال علي بن أبي طالب رضی الله عنه : «ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر الا مختفيا ، الا عمر بن الخطاب ، فانه لما هم بالهجرة تقلد سیفه وتنك" قوسه واتضى في يده أسهما واختصر عنزته (۵) ومضى قبل . (1) اي كفوا ۰ (۲) استوت (3) الانكسار والضعف • (4) مسرح بالعيب فيه وتنقصه . (5) التراب الناعم . (6) سوء الحال والانكسار من الحزن . (۷) أي وضعه على منكبه . (۸) أطول من العصا ، وأقصر من الرمع 4 [91]۹۳_ باره ) (۳) (1) ( ... و من
الكعبة والملا من قريش بفنائها .. فطاف في البيت سبعا متمكنا ، نم المقام فصلى ، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة يقول لهم : شاهت الوجوه ... الايرغم اله الا هذه المعاطس ... من أراد أن يتكل أمه أو پونم ولده أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي لقد كان له في تحديه هذا الفريش عدتان : شجاعته وعدله .. فما كانت شجاعته في هذا التحدي بأنلهر من عدله ولا كان عدله فه بأظهر من شجاعنه . اذ الشجاع الحل مطبوع على الانفة من الظلم لأنه سدید الاحساس بذله كان شديد الإحساس بذلة الظلم فهو شدید الاحساس بعزه العدل من طريق واحد. وقلما أغضب العادل الشجاع کاستالة الظالم وظنه أن المظلوم لا يستطيل عليه : فذلك هو التحدي الذي يثير الشجاعة ويثير النقمة على الظلم أو بتير حب العدل في وقب واحد ، وان الموت الأهون من الصبر على هذا التحدي المرذول وهذا الملف القبح، وما الشجاعة ان لم تكن هي الجرأة على الموت کلما الاجتراء عليه ?.. وأي امرىء أولى بالجرأة من الشجاع الشجاع الذی بعلم أن الحق بين يديه .. ألسنا على الحق ان حيينا وأن منا .. فعلى الحق اذن فلنمب، ولا نعيشن على الباطل .. فالاطل كريه والجبن كریه وذانك ملتقى العدل والسجاعة في قلب العادل النجاع نی؟ (a) وج
لیست يح قويم الخطاب و نهج عسر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه الى الاسلام : کالاهما طريق « عمري » هو أشبه به وهو أقدر عليه ، و کالاها طريق صراحة وقوة لا يطبق اللف والتنطع ولا يحفل بغير الجد الذي لا فيه فلا وهن ولا رياء ولا حذلفة ولا ادعاء . وما شئت بعد ذلك من الام سریع فهو اسلام عمر بن قال في بعض عظاته : « لا تنظروا الى صيام أحد ولا الى صلاته ، ولكن انظروا متن اذا حدث صدق ، واذا ائتمن أدى . واذا أشفي - أي همه بالمعصية - ورع (۱) قبحت . (۲) ارغم الله أنفه : ألصقه بالرغام وهو التراب . (۳) وهو الانف . (4) الشكل : ففدان المرأة ولدها: (0) : مجاوزة الحد. (6) المغالاة [92](۱) من و من 1. ده (1) وقال في هذا المعنى : « لايعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكن .. من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، وسلم الناس من يده ولسانه » وقال في عمل الدنيا والآخرة : «ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا ، أو عمل للدنيا وترك الآخرة ، ولكن خيركم أخذ هذه . وانما الحرج في الرغبة فيما تجاوز قدر الحاجة وزاد على حد الكفاية . ولم يكن أبغض اليه ممن يتوان ليقال انه متوكل على الله . أو تراءى بالضعف؛ ليقال : انه ناسك ، أو يفرط في العبادة ليقال: أنه زاهد في الدنيا فكان يقول : « ان المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله » ... و « لا قعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقنی وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وان الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض » وكان يضرب من يتماوت ويستكي ليظهر التخشع في الدين ، فنظر الى رجل مظهر للنسك" متماوت نخفقه" بالدرة وقال : « لا تمت علينا ديننا أماتك الله ، وأشاروا له الى رجل يصوم الدهر فضربه وهو يقول له : كل يا دهر !.. كل يا دهر !.. ينهاه عن الصوم الذي يعوقه عن معاشه ولا يوجبه عليه الدين وكان كلما رأى شابا منكسا رأسه ، صاح به : « ارفع رأسك فان الخشوع لا يزيد على ما في القلب ، فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فانما أظهر للناس تفاقا الي نفاق » وانما كان يعجبه الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الرائحة ، ویری المسلمين بخير ما علموا أبناءهم الرمي والعوم والفروسية ، فأنتم بخير كما قال : « ما نزوتم على ظهور الخيل » دین الرجل القوى الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة ، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا فأوهم نفسه انه هو (۱) حكاية صوت الطنبور وشبهه . (۲) ايقصر ۰ (۳) يتظاهر (4) يخضع ويذل • (5) العبادة . (6) اي ضربه • (۷) اي العابر ۰ (۸) أي و ثبتم • 6 y 6 (۲) 6 . [93]-1- .. تارکها ليقبل على الآخرة وكانت شجاعته في دينه أندر الشجاعات في النفوس الآدمية ... لأنها الشجاعة التي يواجه بها تهمة الجبن وهو أرذل من الموت عند الرجل الشجاع . فان كثيرا من الناس ليعدلون عن الصواب الذي يظهرهم بمظهر الخوف ليقل انهم شجعان ، وانهم عدولهم عنه لمن الجبناء المستعبدين للثناء ، ولم يكن يعدل عن صواب فهمه ولو قيل في شجاعته ما قيل ، وتلك أشجع الشجاعات عمر
(1) عنه رعیت فشا طاعون عمواس ، وعمر في طريقه إلى الشام ، فلقيه أبو عبيدة وأصحابه عند تبوك وأخبروه خبر الطاعون ، فاستشار المهاجرين والأنصار ، فاختلفوا بين ناصح بالمضي وناصح بالقفوا : ناصح بالمضي في طريقه يقول انه خرج لأمر ولا ری له أن ترجع ، وناصح بالقفول يقول انه اصطحب « بقية الناس وأصحاب رسول الله ولا يرى أن يقدمهم على وباء ) ... ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يختلف عليه رجلان وأشاروا جميعا بالرجوع . فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ? قال عمر : نعم ، نفر من قدر الله الى قدر الله .. أرأيت لو كان لك ابل هبطت واديا له عدوتان، احداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس ان الخصية رعيتها بقدر الله ، وان رعيت الجدية رعيتها بقدر الله ... وما رام مكانه حتى جاءه عبد الرحمن بن عوف لحسم الخلاف برأى النبي في الخروج من أرض الطاعون والقدوم اليها حيث قال عليه السلام : و اذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، واذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها » فكان ايمانه بصيرا لا يهجم به على عمياء ولا يستسلم فيه استسلام العجزة وهو قادر على الحيطة والأخذ بالأسباب ، وكانت نصيحته العامة للمسلمين في أمر الطاعون کرايه الخاص في أمر نفسه وصحبه ، فأمرهم بالاستنقاذ ما وجدوا له سبيلا وكتب إلى أبي عبيدة : « انك قد أنزلت (۱) بالرجوع (۲) العدوة : جانب الوادي وحانته (3) أي لبث فيه ولم يغادره .. . . [94]۱۱ الناس أرضا غمقة - أي وخيمة - فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة ،، وهو أحوط ما يحتاط به أمير عالم في هذه الأيام كذلك لم يكن يؤمن بشیء ينفع أو يضر غير ما عرفت أسباب تفعه وضرره ، فكان ينظر الى الحجر الأسود فيقول كلما استلمه : اني لأعلم افك لا تضر ولا تنفع ، ولولا اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلك ما قبلتك أن الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله تحتها بيعة الرضوان ، فیصلون عندها ويتبركون بها ، فأوعدهم وأمر بها أن تقطع مخافة أن تسرى الى الاسلام . هذه المناسك وأشباهها لوثة من الوثنية والتوكل على الجماد حجر وسمع 6 من
ما لا وربما التبس الأمر من نوادر عمر في النقشف واجتناب المتع والمناعم فحسبت فرائض يوجبها ويجري على طريقة أولئك النساك المتخشعين الذين كان ينهاهم أن يميتوا الدين ويهزأ بهم كلما تنطعوا فيه وأوجبوا يجب على المؤمنين فلا يلتبسن الأمر هذا الملتبس ، فهو واضح بين التفرقة من سيرته ومن الأحاديث التي صحبت تلك النوادر ، ففسرتها ودلت على الغرض منها فعمر كان مسلما وكان خليفة للمسلمين . وفرق بين محاسبة المسلم قفسه وهو مسئول عنها دون غيرها ، وبين محاسبة الخليفة نفسه حتى يقع الشك في عمله ، وينزهه يده وأيدي أهله عما ليس لهم بحق من سلطان الحكم أو بیت المال ، ثم يفي لذكرى صاحبه الذي خلفه على المسلمين ، فلا يعيش في مكانه خيرا من عيشته ولا يمنح نفسه وذويه ما لم يمنحه النبي لآله وذويه وعمر الذي كان يقنع بالخشن الغليظ من المأكل والملبس و يا بي أن يذوق في المجاعة مطعما لا المسلمين أنما هو الخليفة الذي يحاسب نفسه قبل أن تحاسبه الرعية ، وقد وجد منهم من لامه لأنه طرح" (۱) الحمق ، ومس الجنون • (۲) تنطعوا هنا : بمعنی تغالوا : (۳): رماه ۰ [95]-1- (۳) 6 من يجب عليك أن تريح. - | مر کساءه وفيه فضل ملبس . فاتقاء هذا الحساب وما وراءه من حساب الله هو الذي توخاة خليفة النبي في معيشته ومعيشة أهله ، مما يشبه تقشف النساء وعلى هذا كان أعلم الناس أن الطيبات حلال وأن النهي عن الحلال تنطع في الدين يأباه الاسلام كتب اليه أبو عبيدة أنه لا يريد الاقامة بأنطاكية لطيب هوائها ووفرة" خيراتها ، مخافة أن يخلد الجند الى الراحة فلا ينتفع بهم بعدها في قتال . فأنكر عليه ذلك وأجابه : ( ان الله عز وجل لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات ، فقال تعالى في كتابه العزيز : « يأيها الرسل کلوا الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم» وكان . المسلمين من تعبهم وتدعهم يرغدون في مطمعهم ويريحون الأبدان النكبة في قتال من كفر بالله ) وحدث حذيفة بن اليمان أنه أقبل على الناس وين أيديهم القماع فدعاه إلى الطعام وعنده خبز غليظ وزيت ! فقال حذيفة : « أمنعتني أن أكل الخبز واللحم ودعوتني على هذا ?.. قال : إنما دعوتك على . فأما ذاك فطعام المسلمين » فللمسلمين حل ما شاءوا من الطعام أما الرجل الذي ينفق من بيت المال فله ما يكفيه . والحرج كل الحرج عليه . في عدل عمر وحزمه وجلده - أن يأخذ منه ما لا حاجة به اليه ، وانه ليزداد حرجا على ما قناعة أن يكون من أصحاب رسول الله ويعلم کیف کان الله يأكل في بيته وماذا كان يجد من الملبس له ولأهله ، ثم يصيب من هذا أو ذاك خيرا مما أصاب الرسول وللولاة عنده مثل ما للمسلمين عامة من حق المتعة السائغة والنعمة التي ترضاها الرجولة ، لا يأخذهم بمحاكاته لأنهم يتولون الأمر كما تولاه . بل ربما لامهم على التقتير كما كان يلومهم على الإسراف أنكر على عامله في اليمن حللا مشهرة ودهونا معطرة فعاد إليه في العام (۱) أي قصده (۲) أي تغال • (۳) أي كثرة . (4) : ير کن (5) الآية : 51 من سورة : المؤمنون ، ۰ (1) التعبة . (۷) أي الجائزة • (۸) برود اليمن• (۹) تلبس للخيلاء طعامي وهو رسول فيه من (۸) [96]وعمر ع من الذي يليه أشعث مغبرا علیه اطلاس"، فقال : لا. ولا كل هذا .. ان عاملنا ليس بالشعث ولا العافي .. كلوا واشربوا وادهنوا انكم ستعلمون الذي أكره من أمركم ومن تمام العلم باسلام عمر أن نعلم فضل اسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام ، فان الحق الذي يتبعه الرجل أهل دينه وحدهم لحق محدود ، يدخل في باب السياسة القومية أكثر من دخوله في باب الفضيلة الانسانية . وأنما يصبح جديرا باسم الحق، حين يتبعه الرجل مع أهل دينه الخارجين عليه كان ولا ريب أشد المسلمين في اسلامه فلو كان الاسلام ظالما بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه : لكان عمر أشد المسلمين ظلما لهم وقسوة عليهم . لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم من كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعمار بأدبه فكان شا نه حاربوه شأن المحارب الشريف ، ولن ينتظر محارب من محارب الى آخر الزمان معاملة أقوم ولا أصدق مع من صالحوه وعاهدوه أن يفي بعهدهم ويخلص في الوفاء به اخلاص من يطالب نفسه به قبل أن يطالبوه ، ومن يراقب نفسه فيه قبل أن يراقبوه كتب للنصارى في بيت المقدس أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن ، وحان وقت الصلاة وهو كنيسة القيامة فخرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده . وقال للبطرك : لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون. من بعدي وقالوا : هنا صلی عمر !.. ثم کتس کتابا يوصي به المسلمين ألا يصلي أحد منهم على الدرجة الا واحدا واحدا غير مجتمعين للصلاة فيها ولا مؤذنين عليها وكذلك كان يفعل في كل موضع صلي فيه من الكنائس التي عاهد النصارى على تركها وتحريم هدمها (1) : المنبر الراس - (۲) : ثياب خلقة بالية . من معاملة عمر المحاربيه وكان شأنه جالس في صحن . وسكناها [97]من أحد معهم فانه آمن على أما عهده لهم فقد كان مثالا السماحة والمروءة لا يطمع فيه طامع أهل حضارة من حضارات التاريخ كائنة ما كانت فكتب لهم العهد الذي قال فيه : « ... هذا ما أعطى عبد أمير المؤمنين أهل ایلیاء من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنا نسهم وصلبانهم وسقيمها وبرينها وسائر ملتها : أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ولا من خيرها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بایلیاء من اليهود .. وعلى أهل ایلیاء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن وأن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج عنهم نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعلية مثل ما على أهل الياء من الجزية أهل ایلباء أن يسير بنفسه وماله من الروم ويخلي ببيعهم وصلبهم فانهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم وليس الذي عهد من ظافر أن يطمع في أمان أكرم من هذا الأمان وانه لقد كان يعطيهم عليه وعلى قومه هذه العهود ثم لا يقنع بها حتی يشفعها بالو مساية للولاة أن يمنعوا المسلمين من ظلم أهل الذمة ، وأن يوفي لهم بعهدهم وينضح عنهم ولا يكلفوا فوق طاقتهم : کتب بذلك إلى أبي عبيدة كما كتب الى غيره من الولاة وأوصى به في وصيته قبل أن 6 ،، ومن أحب من يموت (0) . وما شكا إليه مظلوم من أهل الذمة واليا كبر أو صغر الا أنصفه منه . بعث زياد بن حدير الاسدي على عشور العراق والشام . فمر عليه تغلبی نصراني معه فرس قوموها بعشرين ألفا . فخيره أن ينزل عن الفرس ويأخذ تسعة عشر ألفا أو يمسكها ويعطى الألف ضريبة . فأعطاه التغلبی ألفا وأمسك فرسه ، ثم مر عليه راجعا في سنته فطالبه بضريبة أخرى فأبى وشكام الى عمر وقص عليه قصته فما زاد على أن قال له : کھیت !.. ثم رجع التغلبي الى زياد وقد وطن نفسه على أن يعطيه ألفا أخرى ، فوجد (۱): اللصوص (۲) البنيع : الكنائسی (۳) أي منتصر . (4) أي یزب ويرفع (5) جمع عشر : (1) أی هيأ . [98]تعمي | (1)
فيك منی Y (۳) (1) قد كتب اليه : من مر عليه فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئا الى مثل ذلك اليوم من قابل ! وسمع أن بني تغلب لا يزالون ينازعون واليهم الوليد بن عقبة و ينازعهم ، وأنهم أوغروا قدره ، فقال فيهم يتوعدهم اذا ما عصبت الرأس مني بمشون تغلب ابنة وائل فخشي أن يضيق بهم صبره فيسطو عليهم ، فعزله وأمر غيره ولعل حاكما من الحكام لا يرام منه أن يبلغ في البر بمخالفيه في الدين مبلغا أكرم وأرفق من اجراء الصدقة على فقرائهم ، ولاسيما الحاكم الذي يدعو الى دين جديد وقد تقدم أن عمر أجرى الصدقة على شيخ يهودی مکفوف البصر وقال : ما أنصفناه ان أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم وقد جعل ذلك سنة فيمن يبلغه أمرهم من الذميين والمعوزين" فمر في أرض دمشق بقوم مجدمين من النصارى . فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجرى عليهم القوت واذا أحصيت له في سيرته الطويلة أوامر وخططا تحرم الحريات أو بعض الحقوق فكن على يقين أنه قد صدر في ذلك جميعه عن حكمة توحيها سياسة الدولة ، ويقرها العقل والعرف ، كما يقرها الدين والكتاب ، ولم يصدر فيه قط عن حيف مقصود أو عن رغبة في حرمان الذميين حرية يستحقونها أو حقا أحرار فيه ولعل الذي يحمي هذه الأوامر والخطط لا يعدو النهي عن استخدام بعض النميين ، ومنعهم أن يتشبهوا الأزياء والمظاهر بالمسلمين ، وأجلاء بعضهم عن الجزيرة العربية في ابان الفتوح والحذر من الكيد والتجسس والانتقاض فأما نهيه عن استخدام بعض الذميين فارجع الى ما قاله في ذلك ، تعلم منع استخدامهم لمصلحة العدل وكراهة الظلم والمحاباة فقال : « أني نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب فانهم يستحلون الرشي » (۱) توقد مي الغيظ : (۲) بعمامة . (۳) أي المحتاجين 0 (4) أي أصابهم الجذام ۰ (۰) : الجور والظلم : (1) أي وقت • (۷) أي الرشوة . الذميين بعض من (۷)
[99]وطلب يوما من أبي موسى رجلا ينظر في حساب الحكومة، فأتاه
بنصرانی ، فقال : اني سألتك رجلا أشركه في اماتي، فأتيت بمن يخالف دیشه دینی ، وقلما نهى عن استعمال اليهود والنصارى الا ذكر بعدها : أنهم أهل رشي ، ولا تحل في دين الله الرشي ! وكان له عبد من أهل الكتاب يقال له أسبق . فعرض عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين . فأبى ، وأعتقه وأطلقه وقال له : اذهب حيث شئت ! فلم يكن نهيه عن استخدام أهل الكتاب في مهام الدولة الا ایثارا للعدل وكراهة للرشوة والزيع في الحكومة ، وما نظن أحدا ينكر أني استخدام الغرباء عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر وأن تجتنب فيه مثل هذه الآفة . اذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول و هم غرباء عنها كارهون لمجدها وسلطانها أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن بنظروا إلى منفعتها . وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها * والرغبة في خيرها وخير أهلها ، ولا سيما في زمن كانت الدولة تميز بالعقائد قبل أن تميز بالأوطان وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة الا بقيود وفروق متفق عليها : أولها تحریمها على الأجانب ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة في مسألة الوظائف القومية، بغير اعنات) للدولة ولا اعنات للرعية ، وكفى باتقاء الاعنات أن العبد المملوك يخير في الوظيفة والاسلام فيأبي ، فلا ذلك ضيم. ويطلق له زمامه يفعل ما يشاء أما نهيه عن تشبه الذميين بالمسلمين وكراهته أن يبدلوا أزياءهم التي ولدوا عليها ، فلا يلام عليه حتى نعلم لم كان أناس من الذين يودون التشبه بالمسلمين في الزي والشارة ?.. أكانوا يتشبهون بهم اذن مسلمون لا يمنعهم مانع أن يجهروا بالاسلام .. أم يتشبهون بهم کیدا لهم ورغبة في التسلل بينهم والافلات من عهودهم والتزاماتهم وما (1) : الميل (۲) من معاني العنت : الوقوع في أمر شاق . (٣) : الظلم وهذه هي سياسة عمر 6 نفسه حبا لدينهم فهم [100]عمر
عن استخلف عمر توجيه الدولة عليهم في تلك العهود والالتزامات ؟ .. ان كانوا يفعلونه لهذا فلا لوم على أن يأباه . وبخاصة في الزمن الذي كان المسلمون فيه جميعا في حكم الجنود ، وما من دولة ترضي أن تبيح أزياء جنودها لمن يشاء وأما اخراج بعض الذميين من الجزيرة ، فما خرج منهم أحد الا وقد غدر بذمته وكرر الغدر مرة بعد مرة ، كما صنع أهل خیبر ومنهم من أجلى عن الجزيرة لأنه طلب الجلاء فضلا نقضه العهد ، كما فعل أهل نجران فقد صالحهم النبي على أن يبقوا في مساكنهم ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به ، وجاء أبو بكر فجدد الصلح على ذلك ، ، ثم فرجعوا الى الربا وأفرطوا فيه ، وكانوا قد بلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم وأتوا عمر يسألونه اجلاءهم فاستحب هذا الجلاء على أنه لم يكن أبي على التجار المأمونين أن يدخلوا الجزيرة ويؤدوا العشور . فلما كتب اليه المشركون من أهل منبج أن « دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا» شاور أصحاب النبي فأشاروا عليه بقبولهم ، فدعاهم اليه ولا يفوتنا في هذا الصدد أمران مقترنان بخطة الاجلاء التي لجأ اليها عمر ، وأيقن بصوابها وضرورتها .. فأول الأمرين أن الجزيرة حرم الاسلام الذي كان يحيط به أعداؤه ويتربصون به الدوائر ويثيرون الفتنة على صنع الفرس بالعراق ، والروم بالشام ، ولا أمان على حرم يسكنه أناس فيهم من يغدر بأهله ، بل فيهم من هؤلاء كثيرون وثاني الأمرين أن قد سوى بين الاسلام والنصرانية في هذه النصرانية بیت المقدس للمسيحيين لا يسكنه معهم لا يقبلونه ، كما حفظ حرم الاسلام بالجزيرة العربية للمسلمين لا يسكنه معهم من يحذرون غدره . وقد أجمل العوض حين ألجأته ضرورة الدولة إلى اتخاذ هذه الخطة فاشترى بيوت أهل نجران وعقاراتهم وأقطعهم النجرانية عند الكوفة ، (1) أي جعلها لهم
أطرافه ، کما عمر الخطة، فحفظ من اه (1) [101]. I.. .. وكتب لهم وصاة قال فيها : د ... هذا ما كتب به عمر أمير المؤمنين لأهل نجران . من سار منهم آمن بأمان الله لا يضره أحد من المسلمين .. ومن مروا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من حرث الأرض ، فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة لوجه الله ومن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فانهم أقوام لهم الذمة وجزتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا ، ولا يكلفوا الا من صنعهم البر غير مظلومين ولا معتدى عليهم » ولم يفارق عمر الدنيا حتى أوصى الخليفة الذي يختار بعده بالذميين كافة « أن يوفي يوف بعهدهم ولا يكلفوا فوق طاقتهم وأن يقاتل من ورائهم » ودون هذا بالمراحل الشاسعة يقف عدل الدول القدامى والمحدثات في كل ما اتخذت من حيطة حربية،أو حماية فومية، أو معاهدة بينها وبين أمة أجنبية : ، وان عذرها لدون عذر عمر في خططه وأن أسبابها لدون أسبابه في الاقناع كان مسلما شديدا في اسلامه ، فلم تكن شدته في اسلامه خطرا على الناس ، بل كانت ضمانا لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمی ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة وكان جاهليا فأسلم . فأصبح اسلامه طورا من أطوار التاريخ ، ولو لم يكن الاسلام قدرة بانية منشئة في التاريخ الإنساني لما كان اسلام رجل طورا من أطواره الكبار . وكان هذا الرجل يحب ويكره کیا الناس ويكرهون ، ولكن يا لا ينفعك عنده أن يحبك ولا يضيرك عنده أن يكرهك اذا وجب الحق يوما لأبي مريم السلولی قاتل أخيه : والله لا أحبك ووضح ! القضاء . قال حتى تحب الأرض الدم المسفوح !.. فقال له أبو مریم حقا ؟.. قال : لا .. قال : لا ضير .. انما يأتي على الحب النساء وحسبك من اسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه ، فذلك المسلم الشديد في دينه ، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق (۱) : أي لا ضرر . • أتمنعني لذلك
تصنيف:
عبقرية عمر
==============
عمرُ والدَّولةُ الإسلاميَّةُ
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عمر والدولة الإسلامية
[102]
عمر والدولة الإسلامية
من من تأسست الدولة الاسلامية في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنه وطد العقيدة وسير البعوث . فشرع السنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه في حرب الردة ، وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة أعدائها بتيسير البعوث وفتح الفتوح . فكان له السبق على خلفاء الاسلام في هذين العملين الجليلين الا اننا نسمى عمر مؤسسا للدولة الاسلامية بمعنى آخر غير معنی السبق في أعمال الخلافة . لأننا « أولا لا نجد مكانا في التاريخ اليق به من مكان المؤسسين للدول العظام ولأننا جهة أخرى لا نربطه بين التأسيس وولاية الخلافة في اقامة دولة كالدولة الاسلامية . اذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها وليس للتوسع في الغزوات والفتوح . وعمر كان على نحو من الأنحاء مؤسسة الدولة الاسلام قبل ولايته الخلافة بسنين ، بل كان مؤسسا لها منذ أسلم ، فجهر بدعوة الإسلام وأذانه ، وأعزها بهيبته وعنفوانه . وكان مؤسسا لها يوم بسط يده إلى أبي بكر، فبايعه بالخلافة، وحسم الفتنة التي أوشكت أن تعصف بأركانها ، وكان مؤسسا لها أشار على أبي بكر بجمع القرآن الكريم ، وهو في الدولة الاسلامية دستور الدساتير ودعامة الدعائم ، ولم يزل يراجع أبا بكر في دلك ، حتى استدعی زيد بن ثابت كاتب الوحي، فأمره أن يتتبع آي القرآن ليجمعها من الرقاع والاكتاف والعسب" وصدور الرجال ، فكان ذلك أول الشروع في الكتاب هذا إلى أن أبا بكر رضي الله عنه أسس، ولم يتسع له الأجل حتى (۱) : أي تمکین و تقوية • (۲) أي عسب النخل 6 4 جمع . [103]فرع من عمله ، وجاء عمر بعده فأتم عمله وأقام الأساس ثم أقام عليه البناء .. وكانت قدرته على التأسيس هي آية الآيات فيه ، وفي ذلك العصر البداوة البادية، لأنه التفت الى مواضعه الخليفة بالاهتمام والتقديم كأنه راجع تاريخ عشرين دولة مستفيضة الملك راسخة العمران . وهي قدرة تروعنا وتدهشنا لو شهدناها من ملك ترني على الملك ، وسلفه على عرشه سمط من الملوك ، وأولى أن تروعنا وتدهشنا من رجل البادية الذي يقدم على أمر جديد ، لم تعنه فيه السوابق : ولم يهتد فيه الا با أختار هو أن يهتدي اليه فبعد جمع القرآن لا نعرفه عملا يقترن به ويلازمه ويعد من أسس الدولة العربية كالعمل على تصحيح اللغة وحفظها من الخلط والفساد وكلاهما عمل لا يفطن اليه الا من طبع على سايقة التأسيس وأخذ بها من أصولها . وكلاهما فطن اليه هذا المؤسس الكبير على أهون ما يكون من البساطة والسهولة . فأشار بوضع علم النحو كما أشار تجمع آی القرآن ، وكان أثره في تدعيم الدولة الأدبية كأثره في الغزوات والفتوح وندر في الدولة الاسلامية من نظام لم تكن له أولية فيه فافتتح تاريخا ، واستهل حضارة ، وأنشأ حكومة ورتب لها الدواوين ونظم فيها أصول القضاء والادارة ، واتخذ لها بيت مال ووسل بين أجزائها بالبريد ، وحمى ثغورها بالمرابطين ، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه ، وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء . فأوجز ما يقال فيه أنه وضع دستورا لكل شيء وتر که قائما على أساس لمن شاء أن تدعيم دولة ? $
. يبني عليه وملاك النظم الحكومية كلها نظام الشورى الذي أقامه عمر على أحسن ما يقام عليه في زمانه ، فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة والاستفتاء ، ومن بهم على العمالة في أطراف الدولة ، تنزيها لأقدارهم وانتفاعا برأيهم واعتزازا بتأييدهم له و معاونتهم اياه فيما تولاه من ثواب أو عقاب (1) : الظاهرة • (۲) أي الجديرة • (۳) من معاني السمط : خيط فيه (4) ملاك الأمر : أي قوامه [104]بها- ما وكان عمر لهم {1} يحسن الموازنة بين ومن يقبل وجعل موسم الحج موسما عاما للمراجعة والمحاسبة واستطلاع الآراء في أقطار الدولة من أقصاها إلى أقصاها : يفد فيه الولاة والعمال لغرض حسابهم وأخبار ولايتهم ، ويفد فيه أصحاب المظالم والشكايات لبسط شکیه ، ويفد فيه الرقباء الذين كان يبثهم في أنحاء البلاد المراقبة الولاة والعمال فهي « جمعية عمومية » كأوفي ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور يستشير جميع هؤلاء ويشير عليهم ، ويستمع ويسمعهم ، ويتوخي في جميع ذلك تمحيص الرأي وابراء الذمة والخلوص الى التبعة السليمة من العقابیل" وان أضعف الناس رأيا لمن يستضعف فضل الأمبر عمل تولاه ، لأنه عمله بمشاورة غيره فان باب المشاورة مفنوح لكل انسان ، وليس كل اسان مع ذلك بالذي يريد أن يستشير ، أو بالذي يعرف كيف يستشير اذا أراد ، أو بالذي الآراء أن عرف من يستشير مشورتهم في حالة ويرفضها في حالة أخرى ان المشاورة لفن" عسير .. وان الذي ينتفع بمشورة غيره لاقدر ممن يشير عليه وقد كان عمر عبقرى هذا الفن الذي لا يجاري. وكان من بدعه الملهمة في هذا الفن العسير أنه لم يلتمس الرأي عند أهل الحنكة والخبرة وكفى ، بل كان يلتمسه كذلك عند أهل الحدة والنشاط ممن يناقضون أولئك في الشعور والتفكير فكان كما روی یوسف بن الماجشون : « اذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم » وانه الالهام في فن الاستشارة لا يلهمه الا صاحب رأي أصيل . فمن الرأي الأصيل أن يخبر الانسان كيف يستعير آراء المشيرين انظر اليه كيف يستشير في اختيار أمير ، تعلم أن الاستشارة كما قلنا : فن ، وأنه فن عسير (۱): بقايا العلة . (۲) أي لا يضاهي • (۳) الذين أحكمتهم التجارب • (4) أي لم يهتد لوجهته . (5) : الشباب (۳) - 6 [105]-۱۰۷ كان كأنه رجل منهم قال لأصحابه : دلوني على رجل أستعمله فسألوه : ما شرطك فيه .. قال : اذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم ، واذا كان أميرهم ان الذي يسأل هكذا لهو أقدر من الذي يجيه بالصواب ، لأنه قطع له ثلثي الطريق السديد الى الجواب وكان ربما استشار العدو الذي لا يأمنه ، كما فعل في سماع رأي الهرمزان في أمر الحرب الفارسية ، لأنه بصير يطلب نورا ، فاذا رأى النور استوى لديه أن يحمل له المصباح عدو أو صديق . ومن اليسير ، اذا تعقبنا مشاورات عمر ، أن نعلم دستور الشورى في الدولة الاسلامية .. وان الشورى التي وضع دستورها هي شورى الرأي الأصيل يستعين بكل أصيل من الآراء انه هر وأضع
مسرعا الغد وقد وضع لقواده دستور الحرب ، أو دستور الزحف من الجزيرة العربية إلى تخوم أعدائها ، كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقواده وأجناده فأرسل المدد الى العراق ، وعليه أبوعبید بن مسعود الثقفي ، وعلمه كيف يستشير مجلس الحرب الذي معه ، وكيف يقدم في موضع الاقذام ، ويتريث في موضع التريث ، وأجمل له ذلك في قوله : « اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجتهد بل فانها الحرب لايصلحها الا الرجل المكي الذي يعرف الفرصة ، ولا يمنعنی أن أؤمر سليطا ( ابن قیس ) الا سرعته إلى الحرب. والسرعة إلى الحرب الا عن بیان ضياع » وزاده تبصرة بالحيطة فقال له : « ان تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية" تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه ، فانظر كيف تكون وأحرز لسانك ولا تفشين سرك ، فان صاحب السر ما يضبطه - منحصن لايؤتى من وجه يكره ، واذا لم يضبطه كان بمضيعة » (1) أي اؤمره واولیه ۰ (۲) : حدود ۰ (۳) أي ترد وتمهل : (4) المكث: اللبث والانتظار . (5) أي التجبر . [106](1) 6 . 6 (۲) له قبس من (۳) (1} القتاله لا قلوبهم فهي المشاورة ، ثم اناة في الاجتهاد ، الا أن تجب السرعة بيان وثقة فليكن الاسراع ، وهذه وصية عمر بن الخطاب الذي يظن به الاندفاع وينسى من يظن به هذا الغظن أنه فوری اندفاع وقوى ضابط في وقت واحد ، وعندما يقترن الاندفاع بضابط فهو مزية وليس بعيب وكتب الى سعد بن أبي وقاص بعد اختياره لحرب فارس ، وفي كتابه هذا المعنى : اذا انتهيت إلى القادسية وهو منزل رغیب خصيب دونه قناطر وأنهار ممتنعة ، فنكون مسالحك على أنقابها و يكون الناس بين الحجر والمد"، على حافات الحجر وحافات المدر والجراع بينها ، ثم الزم مكانك فلا تبرحته .. فانك اذا أحسوك أنغصتهم ورموك الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ، فان أنتم جمعهم صبرتم لعدوكم واحتبستم وقويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم ، ثم يجتمع لكم مثلهم أبدا ، إلا أن يجتمعوا وليست معهم وان تكن الأخرى كان الحجر في أدبار کم فانصرفتم من أدنی مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ، ثم كنتم عليهم أجرأ وبها أعلم . وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ، حتى يأتي الله بالفتح » ثم كتب اليه يستوصفة المنازل التي نزل بها ويسأله : « أين بلغك جمعهم ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم ? .. فانه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمى بما هجمتم عليه والذي استقر عليه أمر .. فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن : صفة كأني أنظر اليها واجعلني من أمركم على الجلية ) وكتب الى أبي عبيد وقد ترك حصار حلب يستضعف رأيه في ترك حصارها : د ... سرني ما علمت من الفتح وعلمت من قتل من الشهداء ، وأما ما ذكرت عن قلعة حلب الى النواحي التي قربت من انطاكية فهذا بن الراي . أتنرك رجلا ملكت دیاره ومدينته ثم ترحل عنه وتسمع أهل النواحي والبلاد بأنك ما قدرت عليه .. فما هذا برای .. يعلو ذكره بما صنع ويطمع من لم يطمع ، فترجع (۱) من معاني الاناة : النايې ، والحلم : (۲) : شعلة تقتبس من معظم البار ۰ (۳) : قطع الطين اليابس · (4) الجرعاء . رملة مستوية لا تنبت شيئا • اليكدير (5) : الواضح الظاهر 4 عدوكم من انصرافك اليك الجيوش + [107]-۰۹-
الحرب أن وتكاتب ملوكها . فاياك أن تبرح حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . وقد أنفذت اليك كتابي هذا ومعه أهل مشارف اليمن ممن وهب نفسه الله ورسوله ورغب في الجهاد في سبيل الله ، وهم عرب وموال ، رجال وفرسان ، والمدد يأتيك متواليا ان شاء الله تعالى » فان دستوره في العامة ويعهد في تنفيذها الى ذي خبرة وأمانة ، ولا يتخلى عن تبعته العظمى في مصائر الحرب كل التخلى اعتمادا على القائد وحده ، اذ ليس القائد بالمسئول الوحيد عن المصير فاذا رأي القائد را یا وخالفه هو في رأيه أعانه بالمدد والمشورة على الأخذ بالرأي الذي دعاه اليه ، وأبطل معاذيره بتوضيح الأمر واعاته الأسس . عليه (0) فيما يحسن ولقد كان الى جانب هذا السهر على الميادين عامة لا يغل" يد القائد أن تنطلق فيه ، فاذا تجاوز الأمر سياسة الحرب العامة فتح الميادين وفك الحصار وانتظام الهجوم ، فمن حق القائد عنده أن يختار لنفسه ولا ينتظر الرجوع اليه ، وأن يجري في ادارة المعركة على الوجه الذي تمليه ضرورة الساعة ، ولهذا استشاره أبو عبيدة في دخول الدروب خلف العدو فكتب إليه : « أنت الشاهد وأنا الغائب ، والشاهد پیری ما لايرى الغائب ، وأنت بحضرة عدوك ، وعيونك يأتونك بالأخبار ، فان رأيت الدخول الى الدروب صوابا فابعث اليهم السرايا وادخل معهم بلادهم وضيق عليهم مسالكهم ، وان طلبوا اليك الصلح فصالحهم من واجب فهو يضع القواعد العامة للحملة كلها منذ بداءتها وهو يختار القائد الضليع" بتسيير تلك الحملة وهو بعد هذا لا يعني نفسه من التبعة ، ولا يعني القائدی الرجوع اليه في المواقف الحاسمة ، ولا يغل يده فيما هو أدرى به وأقدر على الاختيار فيه ، ولا يني أن يعينه اذا خالفه في الرأي ليتفق الريان (1) أي لا يقيد . (۲) المراد : الجواسيس . (۳) التوي [108]عمر Y المختلفان. فاذا القائد الى الحصار الذي أزمع أن يتركه رجع اليه وهو مؤمن بصواب ما يعمل ، ليستمد من الايمان بالصواب قوة أن يشعر بها وهو يؤدي عملا يخالف الصواب في تقديره وهذه السياسة هی السياسة التي جرى عليها في جميع بعوثه وغزواته وسراياه . وهي السياسة التي لا يستطيع حاکم يجرى على شيرها في حرب قديمة أو حدينة : وقد جرى عليها فجعلته كاسب النصر كما يكسبه القائد في الميدان ، وجعلت بطل الفرس رستم المشهور في التواريخ والأساطير يقول : ان عمر هو هازمه في الميدان و « انه هو الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل ! .. أكل عمر كبدي أحرق الله كبده ! .. » عمر
وربما أخطأ القائد الذي يختاره ، فمسته التبعة هذا الجانب لأنه هو المسئول عن اختياره غير أنها لا تمسه من جانب الا أعفى منها من جانب آخر أو جوانب عدة ، كما حدث في وقعة الجسر التي قتل فيها قائده أبو عبيد المتقدم ذكره ثم انهزم فيها جيش المسلمين . فهو مسئول عن اختيار هذا القائد كما يسأل کل رئیس دولة في مثل ذلك ، ولكن أعذاره على التحقيق أكبر من أخطائه في كل مسألة من هذا القبيل ، وفي هذه المسألة بعينها كان اختياره لأبی عبید انصافا له حجته الراجحة فيه ، لأنه كان أول من أجاب الدعوة إلى القتال ، فلم ير من الأنصاف أن يؤخر المتقدم ويقدم عليه المتخلفين ، وقد سوغ الرجل اختياره اياه بانتصاراته الأولى التي رفعت شأنه بين القواد ، فلما أخطأ جاءه الخطأ مخالفة في وصاياه ، ومنها وجوب التريث والحذر من عبور الأنهار والحسور ، ولم يكن على لوم في تقصير عن التنبيه والتحذير وقبل أن يضع دستورا للولاة وضع دستورا لنفسه قوامة أن الحكم للحاكم ومحنة للمحكومين ، و « انه لا يصلح الا بشدة لا جبرية فيها ولين لا وهن وان الخليفة مسئول عن ولاته واحدا واحدا (1) أزمع على الأمر : نبي عليه عزمه • (۲) قوام الامر : نظامه وعماده • (۳) أي تجبر ، (4) أي ضعف . مر عمر (۳) فيه ) [109]6 هی خير الحق من 6 في كل كبيرة وصغيرة ، ولا يعفيه من اللوم أنه أحسن الاختيار قال يوما لمن حوله : « أرأيتم اذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليه .. قالوا : نعم . قال : لا ، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا ? .. و عهوده على نفسه العهود التي تؤخذ على ولاة الأمر ، وأبينها لاحدود القائمة بين الراعي والرعية ، وخير ما فيها أنه كان يحث الناس على الاستغناء عن التحاكم الى الحكام خلافا لأصحاب الأمر الذين یو دون لو فرضوا لأنفسهم حكما في كل شيء فكان يقول لهم : « أعطوا أنفسكم ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا الى وجمع صلاح الأمر في ثلاث : « أداء الأمانة ، والأخذ بالقوة . والحكم بما أنزل الله ، وصلاح المال في ثلاث : « أن يأخذ من حق - ويعطى في حق ، ويمنع من باطل » وعاهد الناس فقال :« لكم على ألا أجت شيئا من خراجكم ولا ما أفاء الله من وجهه ، ولكم على اذا وقع في يدي ألا يخرج مني الا في حقه ، ولكم على أن أزيد عطاياكم وأوراقكم ان شاء الله ولكم على ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم - أي أحبسكم - - في ثغوركم ، واذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا اليهم .. فاتقوا الله عباد الله ، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحفاری النصيحة فيما ولانی أمركم » . ومن أوائل عهوده في بيان الحق الذي يرشح الحاكم لولاية الحكم : « أيها الناس : اني قد وليت عليكم ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم ، وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم ما وليت ذلك منكم » فأحق الناس بالحكم أقدرهم على البر والحزم والنهوض بالأعباء ، وليس له في غير ذلك حق يرشحه للحكومة (1) أي أجمع • (۲) الثغر : موضع المخافة من فررج البلدان • عليكم الا وأسد ثغور کم 6 اله . [110](1) 9 بهم ومن أوائل خطبه بعد توليه الخلافة : « أن الله ابتلاكم بي ، وابتلاني بكم ، وأبقاني فيكم بعد صاحبي ، فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دونی ، ولا يتغيب عني فالو فيه عن أهل الصدق والأمانة ، ولكن أحسنوا لأحسن اليهم ، ولئن أساءوا لأنكلن فهو يعاهدهم أن يلى الأمر بنفسه في كل ما حضره ، وألا يعهد فيه إلى غيره الا أذا غاب عنه ، ثم لا يكون وكلاؤه فيه الا أهل الصدق والأمانة ، ، ثم لايدعهم وشأنهم بعد ذلك بل يراقبهم ويتتبع أعمالهم ، فيحسن الى من أحسن وینکل أساء وقد كان يقول ، ويعني ما يقول، ويعمل بما يقوله . من هو لمن
وصارح القوم فيما لا يحمي من الخطب والأحاديث أن له عليهم حق الطاعة فيما أمر الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأن لهم عليه حق النصيحة ولو آذوه فيها . ومن ذلك الرواية المشهورة التي سأل الناس فيها أن يدلوه على عوجه فقال له أحدهم : « والله لو علمنا فيك اعوجاجا القومناه بسيوفنا » فحمد الله أن جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج . عمر بسيفه و و ولم يكن يبيح من مال المسلمين أجرا لعمله إلا ما يقيم أوده واود أهله عند الحاجة اليه ، فان رزقه الله ما يغنيه عن بیت المالى كف يده عنه : « ... الا واني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم : أن استغنیت استعففت ، وان افتقرت أكلت بالمعروف : تقرم البهيمة الأعرابية : القضم لا الخضم » أي كما تأكل ماشية البادية قضما بأطراف أسنانها لا مضغا وطحنا بأضراسها ولما سئل عما يحل للخليفة من مال الله قال : « أنه لا يحل لعمر من مال الله الا حلتين : حلة للشتاء وحلة للصيف وما أحج به واعتمر وتوتي وقوت أهلی کرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ، ثم رجل من المسلمين » (1) الابتلاء : الاختبار والامتحان - (۲) أي يتولاه ۰ (۳) البعير المقرم: أي المكرم ولا يحمل عليه ولا يذلل : (4) : الاكل بأطراف الأسنان (5) : الاكل بجميع الفم أنا بعد
. کا [111](1) مسعود درهما وربع وقد كان أسخي من ذاك في تقديره لأرزاق الولاة والعمال ، فقدر العمار بن یاسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه . يزاد عليها عطاؤه الذي يوزع عليه كما توزع الأعطية على أمثاله ، وصف شاة و نصف جر من الدقيق وقدر لعبد الله بن درهم وربع شاة لتعليمه الناس في الكوفة وقيامه على بيت المال فيها ، ولعثمان بن حنیف منائة وخمسين شاة في اليوم ، عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم وهكذا على حسب الولايات والنفقات وكان يحظر على الولاة مظاهر الخيلاء والأبهة التي تبعد ما بينهم وبين الرعية ، ولكنه ينظر في أعذارهم فيقبلها أو يغضي عنها حيثما توقف صلاح الولاية على ذلك قدم الى الشام راكبا على حمار فتلقاه عامله معاوية بن أبي سفيان في وكب عظيم ، فلما رآه معاوية نزل وسلم عليه بالخلافة فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين ، فلو كلمته فالتفت اذ ذاك الى معاوية وسأله : انك لصاحب الموكب الذي أرى ؟ قال : نعم قال : شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال : نعم - البذلة" قال : ولم ويحك ؟ قال : لأننا بلاد كثر فيها جواسيس العدو ، فان لم تتخذ المدة والعدد استخف بنا وهجم علينا ، وأما الحجاب فاننا نخاف برأة الرعية ، وأنا بعد عاملك ، فان استقصتنی نقصت ، وان اسردتی زدت ، وان استوقفتني وقفت ! فقال ما سألتك عن شيء الا خرجت منه . ان كنت صادقا فانه
رأي لبيب، وان كنت كاذبا فانها خدعة ارب"، لا آمرك ولا انها (1) : مکیال ، وهو أربعة أقفزة • (۲) : ما يمتهن من الثياب . (1) : أي عاقل 0 (4) : الدماء وهو من العقل عمر {)
[112]أما
دستور من 6 الولاة عنده فأساسه أن الولاية نمییز بالواجب والكفاءة وليست تمییزا بالوجاهة والاستعلاء ، فكان يقول للوالي : « افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك ، فانما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أنقلهم حملا » وشغله كل الشغل أن تخضع الرعية لواليها رغبة في حكمه واطمئنانا الى عدله ، فكان يقول للوالي : « أعتبر منزلتك عند الله بمنزلت الناس » ويقول للرعية : أني لم أبعب اليكم الولاة ليضربوا أبشار کم ويأخذوا أموالكم ، ولكن ليعلموكم ويخدموكم » وتستوي عنده رغبة الرعية من المسلمين ورغبة الرعبة من غيرهم فلما رأى أقواما ذميين ينقضون العهد ويثورون على الدولة طلب من صلحاء البصرة وفدا ، فيهم الأحنف بن قيس ، وهو مصدق عنده فسأله : « انك عندي مصدق : وقد رأيت رجلا فأخبرني : « ألمظلمة نفر أهل الذمة أم لغير ذلك » ? .. فقال الأحنف : «لا بل لغير مظلمة والناس على ما نحب » فهد باله وقال : « فنعم اذن انصرفوا إلى رحالكم » وربما ذهب في ارضاء الرعية مذهبا لم يحلم به الغلاة من المطالبين بحقوق الشعوب في هذه العصور فكان من قواده وولاته سعد بن أبي وقاص قائده المظفر في حروب فارس ، وقريب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرجل الذي جعله ستة يستشارون بعده في أمر الخلافة ، فثارت به طائفة من أتباعه وشكته الى عمر وجيوش الفرس تتجمع للغزو والثأر ، فلم يشغله ذلك عن تحري الأمر من مصادره ، وایفاد من يبحث عن حقيقة الشكوى بين أهلها .. فبعث بوكيله على العمال محمد مسلمة، يسأل عن سعد وسيرته في الرعية ، وكلما سأل عنه جماعة أثنوا علبه ، فقد أحجم فريق منهم لم يمدحوه ولم يذموه ، وقال فريق منهم : انه يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية ، ولا يغزو في السرية » .. (1). شمر واحدا من . الا من شکوه . الا (۱) من التغالي [113]مده ۱۱- فهاد محمد بن استعد استعد لكم من ذلك يومئذ مبر من أهله ، ومسمی الى المدينة وسعد معه ، وأعاد عمر سؤاله فلم شبت له من أمره ريبة ، إلا أنه اتقى الفتنة والخطوب منذرة ، فعزله وقال الشاكه : « أن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم لهذا الأمر وقد الله لا يمنعنی من النظر فيما لديكم وان نزل بكم » وقال لسعد تهمة خصومه : « هكذا اظن بك يا أبا اسحق !.. ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيننا ». ثم أبي أن يفارق الدنيا وفي ذمته شهادة لسعد يعلنها لملا المسلمين ، فلما حضرته الوفاة وسألوه أن يستخلف ، أبى أن يخلف أحدا عليا وعثمان وطلحة و الزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدا « لأنهم نفر توفي رسول الله وهو عنهم راض ، فأيهم استخلف فهو الخليفة » ... فان أصابت سعدا فذاك ، والا فأيهم استخلف فليستعن به ، فاني لم أعزله عن عجز ولا خيانة أمثلة الوفاء بجميع الحقوق والرعاية لجميع الذمم من حاكمين ومحكومين ولا يبعد أن يقع الغبن على بعض الولاة الكفاة من فرط العناية بشکایات الرعية ، الا أن في حزمه وعدله لم يكن يفوته مفرق الصواب بين الأمرين .. فغبن وال أو قائد أهون من غبن أمة أو جیش.. ومن أقواله في ذلك : « هان شيء وأصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان ثم قال : - وهذا مثل من عمر أمير » .. سا من بل ربما جرى منه حكم العزل على الولاة الكفاة لغير أسباب الشكاية أو القصاص . وانما هو سبب من الأسباب التي ترجع الى سلامة الدولة أو ما نسميه في العصور الحديثة بالسياسة العليا ، وهذه أن يغفل عنها ولاة الأمر في أيام تأسيس الدول وتجربة النظم الحديثة ، وأولها عصمة الدولة من فتنة الولاة المقتدرين المحبوبين فربما كان الوالي المقتدر الحبوب أخطر على الدولة الناشئة في الوالي العاجز البغيض اذا لم يتعهده نظر ثاقب وحساب أسباب لا يصح أسسها من [114]عسير • (۱) فقد تزين له نفسه ، أو تزئن له رعيته ، أن يستقل بالأمر وينتحل لذلك ما شاء من المعاذير . فان فاته الاستقلال ورئيسه قوي مهيب لم يفته بعد زوال ذلك الرئيس ، ولو جاء بعده من مضارعه في القوة والمهابة لأن الفترة بين زوال عهد واستقرار عهد آخر تؤذن بمثل هذا النقلقل وتفتح الثغرات لمن يريد أن يلج منها بعد طول تربص و استعداد ولم يكن عمر بن الخطاب يعرف تاريخ الاسكندر المقدوني وتواريخ العتاة من قياصرة الرومان ، ولا كان الغيب قد انكشف له فرأى ما تلاه من الأمثلة في دول المغول والعثمانيين ودول المسلمين من مشرقيين و مغربيين ، ولكنه لو استقصى أخبارهم جميعا وعرف فتنة الولاة بعد زوالهم ما ندم لحظة على عزل الذين عزلهم وهو يقول لهم : انما عزلتكم الكيلا أحمل على الناس فضل عقولكم ، أو لكيلا تفتنوا بالناس كما افتتن الناس بكم ، ولكان له سبب آخر وجيه بالغ في الوجاهة يادعوه إلى تغلب رغبات الرعية على مكانة الولاة ، وهو عصمة الدولة من أولئك الولاة أن يطول بهم العهد وتنم لهم القدرة ويحولهم الحب والولاء فلا يبقى بينهم وبين الأنقاض الا الفرصة السانحة ، وهي شیء سنويا في ابازالتأسيس والانتقال وما لم يكن عزل العمال لسبب من أسباب السياسة العليا التي من هذا القبيل ، فلا جزاء الا بقسطاس دقیق محیط ، ولا سيما في الشؤون المالية ، لأنه يعتمد في محاسبتهم على وسائل متفرقة بستدرك بعضها نقص بعض ، فلا تكاد تخفى عليه خافية مما يريد الوقوف عليه فمن هذه الوسائل أنه كان يحصى أموالهم قبل الولاية ليحاسبهم بها على ما زادود بعد الولاية مما لايدخل في عداد الزيادة المعقولة ، ومن تعكل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه لأنه كان يقول لهم : انما بعثنا کم ولاة ولم نبعثكم تجارا ومنها أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون" من حولهم ليبلغوه ما ظهر (۱) : أي بدعي " (۲) أي الجبارين (۳) أي المهيأة والمواتية (4) أي وقت . (5) الترصد : الترقب . (6) أي الجواسيس (۴). أقرب
. [115]۱۷- 6 وما خفي من أمرهم ، حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشی من أقرب الناس اليه أن يرفع نبأه الى الخليفة ومنها أنه كان يندب لهم وکیلا خاصا شكايات الشاكين منهم وتولى التحقيق والمراجعة فيها ، ليستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون ... ومنها أنه كان يأمر الولاة والعمال أن يدخلوا بلادهم نهارا اذا قفلوا اليها من ولاياتهم ، ليظهر معهم ما حملوه في عودتهم ، وتصل نبأه بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق . ومنها أنه كان يستقدمهم في كل موسم من مواسم الحج ليحاسبهم ويسمع ما يقولون وما يقال فيهم ، وعليهم شهود ممن يشاء أن يحضر الموسم من أهل البلاد . ونوی في أواخر أيامة أن يستكمل الرقابة بالسير في البلاد ، فيقيم شهرين شهرين في الشام ، ومصر ، والبحرين ، والكوفة ، والبصرة ، وغيرها . فانه ليعلم د ان للناس حوائج تقطع - هم فلا يصلون إليه ، وأما عمالهم فلا يرفعونها البه » وكان لا يكتفي بوسائله تلك اذا استراب"، فيعمد الى الحيلة للكشف عن الخبايا التي تريبه ، ومن بعودة أبي سفيان من عند ولده معاوية والى الشام ، فوقع في نفسه أن ولده قد زوده في . وجاءه ابوسفیان مسلما فقال له : أجزنا يا أبا سفيان ! .. قال : ما أصبنا شيئا فنجيزك ! .. فمد يده الى خاتم في يده فأخذه منها وبعثه الى هند زوجه ، وأمر الرسول أن يقول لها باسم زوجها : انظری الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما فما لبث أن عاد بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم ، فطرحهما عمر في 6 عنه أما ذلك أنه عودته 1 بیت المال (1) وكانت سنه اذا ثبتت على الوالى شبهة التصرف في بيت مال المسلمين أن يصادر المال الذي ظفر به أو يقاسم الوالي فبما أربي" على كسبه المعقول فيترك له النصف ويضم النصف الى بيت المال ، وهذا عدا ما (1) أي عزم (۲) من الرب، وهو : النيك ۰ (۳) سیه : أي طرفته . (5). أي زاد . [116]!.. ومن
. يجزيه به من عزل أو عقاب أما حساب شکایات من المظالم ، فكانت سنته فيه التحقيق ثم الجزاء على شرعة المساواة بين أكبر الولاة وأصغر الرعية بغير تفرقة بين السيئة وجزائها . فمن ضرب ضرب ، ومن غصب رد ما غصب اعتدى قوبل بمثل اعتدائه وعليه زيادة التأديب وقد يأخذ الوالى أحيانا بوزر" ولده أو ذوی قرابته اذا وقع في نفسه أنهم يستطيلون على الناس بسلطان الولاية ولا ينهاهم الوالي المسئول عنها جاءه مصری فشكا اليه واليها عمرو بن العاص ، وزعم أن الوالي أجرى الخيل فأقبلت فرس المصرى فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح : فرسی ورب الكعبة !.. ثم اقتربت وعرفها صاحبها فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط ويقول له : خذها وأنا ابن الأكرمين وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمنا .. وما زال محبوسا حتى أفلت وقدم الى الخليفة لابلاغه شكواه قال أنس بن مالك راوي القصة : فوالله ما زاد عمر على أن قال له اجلس ومضت فترة اذا به في خلالها قد أستقدم عمرا وابنه من مصر فقدما ومثلا في مجلس القصاص . قنادی عمر : أين المصري ?.. دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين و فضربه حتى أثخنة" ونحن نشتهي أن يضربه . فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ، وعمر يقول : اضرب ابن الأكرمين ... ثم قال : أجلها" على صلعة عمرو !.. فوالله ما ضربك ابنه الا بفضل سلطانه قال عمرو فزعا : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفیت ، وقال المصري معتذرا : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني .. فقال عمر : أما والله لو ضربته ما حطنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه. والتفت الى عمرو مغضبا يقول له تلك المقولة الخالدة التي ما قالها حاکم قبله : أيا عمرو !.. متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ! (۱) أي شريعة • (۲) اي بذنب . (۳) يقال : مثل بين يديه : أي انتصبا قائما . (4) : اذا بالغ الجراحة فيه . (5) : أي أدرها . (6) تتر که
(۴). [117]ومن هذا العدل في شؤون الولاية . نستطيع أن نفهم دستوره في شؤون القضاء ، فلن يكون هذا الدستور الا دستور العدل المحكم في الجزاء والفصل بين الحقوق .. الا اننا نعتقد أن وصاياه في القضاء أحكم وأصلح لجميع الأزمنة من جميع وصاياه ، فلا تعقیب بعدها لمعقب في رمانه أو فيرمان يليه . مهما تختلف الأقوام والاوقات أنشأ ونظائف القضاة وتخير لها العدول الأكفاء . ولم تكن به من حاجة هنا الى سن الشريعة التي يحكمون بها فانها ماثلة في الكتاب والسنة ، ولكنه كان في حاجة إلى تعليم القضاة كيف يتصرفون حين يلتبس عليهم الأمر . فأحسن التعليم .
به ا
كان يكتب لأحدهم : « اذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ، ولا يلفتك عنه الرجال ، فان جاءك أمر ليس في كتاب الله فا نظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها ، فان جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ فان جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت : ان شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم ، وان شئت أن تأخر فتأخر . ولا أرى التأخير الا خيرا لك » وضرب لهم أصلح الأمثلة باجتهاده واستفتائه . فلم يقطع يد السارق في عام المجاعة رعاية للزمن ، ولم يقطع يد الغلام الذي سرق من سيده رعاية لسنه أو للعلاقة بين السارق والمسروق منه ، واشتركت المرأة وصاحبها في قتل رجل فتحرج من قتل اثنين بواحد حتى الله عنه بأنهما مستحقان للقتل كما يستحق اللصوص المتعددون أن يقام عليهم الحد اذا سرقوا لحما من بعير واحد ، فأخذ بفتواه 6 أفتاه علی رضی
(1) {} ومن وصاياه للقاضي: د آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى الايطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . والبينة على من (1) أي ساوی ۰ (۲) جورك وظلمك . [118]۱۲. خير من . في الباطل . الفهم الفهم . ووو ادعى واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا حرم حلالا وأحل حراما ، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه ، فان الحق قديم ومراجعة الحق التمادي في عندما يتلجلج في صدرك ما لم يبلك في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد الى أحبها الى الله وأشبهها بالحق فيما ترى ، واجعل للمدعى حقا غائبا أو بينة أمد" ينتهي اليه . فان أحضر بیئنته أخذت له بحقه ، والا وجهت عليه القضاء فان ذلك أنفي للشك وأجلى للعمى وأبلغ في العذر المسلمون عدول بعضهم على بعض الا مجلودا في حد أو مجريا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة ، فان الله قد تولى منكم السرائر ودرا عنكم بالشبهات . ثم اياك والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الأجر ويحسن بها الدخر ، فانه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس » ومن وصاياه لمن يلون الحكم : " الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بأفضل حظك : اذا تقدم اليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة ، وأدن الضعيف حتى يشتده قلبه وينبسط لسانه ، وتعهد الغريب فانك ان لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله ، وانما ضيع لم يرفق به ، و آس بين الناس في لحظك وطرفك"، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء » اله (۲) حقه
6 يعسر تعليله . فقد كان تلك نماذج متفرقة من وصاياه للقضاة وولاة الأحكام ، وهي فيما نراه أحكم وصاياه وأقربها أن يتبعها سواه ولذلك الا في الجاهلية حكما منا عمر قبيلة محكمين ، أو سفيرا يسعي بين الناس بالصلح من قبيلة سفراء . فهو في هذه الصناعة عريق (۱) أي الاستمرار • (۲) أي أقصد • (۲) وقتا . (4) : المتهم (5) أي دفع • (6) اللحاظ : مؤخر العين ، ولاحظه : راعاه . (۷) : العين • 4 [119]۱۲ -
الا أن المرء قد يجلس للحكم بين النامی کا جلس عمر ولا حسن الوصية فيه كما أحسنها ، وانما بلاغ حسن الوصية أن الخصلتين اللتين اجتمعتا في وصاياه لقضاته فما أحد يستطيع أن يوصي قاضيا بخير مما أوصى ، وما من عقدة قضائية تأتي من قبل القضاة أو من قبل التقاضين إلا وهي ملحوظة في كلامه ، وهاتان هما الخصلتان الباديتان في دستور القضاء كما أملاه
== .. سريرته ولا بد أن يلفت النظر في سياسته للولاية وسياسته للقضاء أنه كان يأخذ بالواجب حيث وجب ، وان اختلف الواجبان ففي الولاية كان يتحرى البواطن ، ويمعن في تحريها ، ولا يكتفي من الناس بالظواهر وفي القضاء وما شابه القضاء كان يكتفي بالظواهر حتى تنقضها البينه القاطعة ، وكان يعلن هذه الخطة على المنبر فيقول : « أظهروا لنا حسن أخلاقكم والله أعلم بالسرائر ، فان أظهر لنا قبيحا وزعم أن حسنة لم نصدقه ،، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا ، أو يقول : « انما كنا نعرفكم اذ الوحي ينزل ، واذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، فقد رفع الوحي . وذهب النبي صلى الله عليه وسلم ، فانما أعرفكم بما أقول لكم . الا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا عليه . ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه » بل كان له في الأخلاق الاجتماعية مذهب ثالث يشبه مذهبه في القضاء ، فكان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره عنه وينهي أن تظن بكلمة شرا وأنت تجد لها في الخير محملا وهذه في الظاهر قائض ، وفي الحقيقة واجبات متعددة كل منها في موضه لازم فالعلم بخبايا الحكومة واجب على كل ولی مسئول ، لا تنص الأحوال بغيره ، وفي الغفلة عنه مضرة محققة الجميع الناس . .. تصلح ۸ - عبقرية عمر [120]عنه و الأخذ بالبينة دون الظاهر في شئون القضاء واجب الا مخيص الضمان السلامة ومنع الجور ، وهو في أحد طرفيه لا يخلو من الحذر الشديد من الطبيعة البشرية ، اذ فيه خشية من غواية الهوى أن تنطلق بالقضاة في الحكم بغير برهان وفي الاخلاق الاجتماعية لا يؤمن التقاطع بين الأصدقاء اذا جرت العلاقة بينهم على التجسس والخدعة ، ولا رعاية للمودة ما لم تكن رعاية للحرمات ومنها الأسرار والتفرقة بين الواجبات المختلفة دليل البصيرة في عرفان كل واجب منها ، وانها تصدر عن رأي أصيل ولا تصدر عن تسخير العرف واملاء التقليد والمحاكاة . هی وو
السكة الضرب هو أولى وأنشئت في عهد عمر دواوين أخرى غير ديوان القضاء ودواوين الإحصاء والخراج والمحاسبة التي لم تكن من المؤسسات القائمة فبل عهده . فأنشأ البريد وبيت المال ومرابط الثغور ومصنع النقود في دار الحبس للعقاب . ووكل معظم الدواوين الى أبناء البلاد يزاولونها بلغاتهم لأنها ليست من أسرار الدولة وليس من الميسور أن ينصرف، اليها فتيان العرب عما بهم وهو فرائض الدفاع والجهاد .. فلو وجد منهم من يفي لتلك الأعمال لكانت خسارة الدولة في قيامهم. بها أعظم من ربحها ، ولكنهم غير موجودين ، ولا عملهم فيها باللازم للمصلحة الكبرى ، وقد يكون عمل الفارسي في مصلحة فارس والسوري في مصلحة سورية والمصري في مصلحة مصر أحرى أن بعضهم ان کان بهم عاصم ، والا فلا تثري ووضع عمر نظاما لتحصيل الجزية ، وتصرف في وضعها على حسب الأمم والبلاد . فأعفى التغلبين بالشام من الجزية وفرض عليهم بديلا عنها المسلم ، لأنهم أتوا أن يؤدوها وأزمعوا اللحاق بأرض الروم 6 (1) اللازب ضعف صدقة . (۱) الثابت . (۲) : الاستقصاء : اللوم، (۳) استكبروا واستعظموا (4) از مع على الامر : ثبت عليه عزمه [121]وكان له نظام اقتصادی يوافق مصلحة الدولة في عهده . فكان يحض على السجارة ويوصي القرشيين ألا يغلبهم أحد عليها لأنها ثلث الملك ولكنه أبقى الارض لأبنائها في البلاد المفتوحة ، ونهى المسلمين أن يملكوها على أن يكون لكل منهم عطاؤه من بيت المال کعطاء الجند في الجيش النائم .. واذا أسلم أحد الذميين أخذت منه أرضه ووزعته بين أهل بلده و فرنس له ألعضاء . وكان غرضه من ذلك أن تبقى أهل البلاد موارد ثر انهم وأن يعتصم الجند الاسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار ودي فن الدعة والاشتغال بالثراء والحطام . وربما أغضى عن كثير في سهل الاهانة على تعمير البلاد بأهلها ، فسفح عن أهل السواد «العراق» الأمنوا البقاء حنوا "بالعهد وتعاونوا الفرس على المسلمين في أثناء القتال فيه و أنهم
من ويلوح من كلامه في أخريات أيامه أنه كان على نية النظر في تصحيح النظام الأنصادی ، ، وعلاج مشكلة الفقر والغني ، على نحو غير الذي وجدها عليه . فقال : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الاغنياء فقسمتها على الفقراء ) ولم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية ، ولكن الذي تعلمه آرائه في هذا الصدد كاف لاستخلاص ما كان ينويه ، فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبدا بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية، فكتب إلى أبي موسى الأشعري : « بلغني انك تأذن للناس جما غفيرا ، فاذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدین ، فاذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ، ولكنه لما رأى الخدم وقوفا لا يأكلون مع سادتهم في مكة غضب وقال لمادتهم مؤنيا : ما لقوم يستأثرون على خدامهم .. ثم دعا بالخدام فأكلوا مع السادة في جفان واحدة فالمساواة في أدب النفس لم تكن عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات (1) : الخلل في اليمين : (۲): المال وغيره اذا کثر ۰ (۳) أي الجمع جفنة : {۴} الكنير • (4) جمع وهي القصيعة • [122](۱) يوشك أن فيسوغ لنا أن من الأغنياء » أخذ فصول من ولم يكن مرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة ، فكان يقول لهم في خطبة : «يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالا على المسلمين » وكان يوصى الفقراء والأغنياء معا « أن يتعلموا المهنة فانه يحتاج أحدهم الى مهنة وان كان نفهم هذا جميعه معنی ما انتواه من الغني وتقسيمه بين ذوي الحاجة ، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة وتقسيمها في وجوه البر والاصلاح أن مؤسسيا لديوان الوقف الخيري على الوجه الذي نعهده الآن . فقد أنشأ بيت الدقيق لاغاثة الجياع الذين لا يجدون الطعام ، وأصاب قبل خلافته أرضا بخيبر فاستشار النبي عليه السلام فيها فاستحسن له أن أصلها ويتصدق بريعها". فجعلها عمر صدقة تباع ولا توهب ولا تورث ، وينفق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ويطعم صديقا فقيرا منها على أن عمر يصح يحبس لا
وعرضت لعمر مسائل التعمير على حسب الحاجة اليها في وقته فلم تجده مسألة منها دون ما تحتاج اليه من اصابة الرأي وحسن الروية . فكانت نصائحه في تخطيط المدن واختيار مواقعها من أنفع النصائح ، وكانت دواعيه الى بنائها من أشرف الدواعي وأليقها بالأمير شاهد في الجند هزالا وتغير ألوان ، فسأل قائدهم سعدا : ما الذي غير الوان العرب ولحومهم .. فأجابه : انها وخدمة المدائن ودجلة ، فكتب اليه أن العرب لإيوافقها الا ما وافق ابلها من البلدان ، فابعث سلیمان وحذيفة فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم نیه بحر ولا جسر ، وأمر أن تبلغ مناهج المدينة أربعين ذراعا ، وما يليها ثلاثين ذراعا ، وما بين ذلك عشرين ، وألا تنقص الأزقة عن سبعة أذرع ليس دونها شيء ، وألا يرتفع بناء الدور (۱) العالة : الفاقة (۲) أي ما يحصل عليه منها . (۳) بلدية وخمسة روخيمة : اذا لم توافق ساکنها . (4) أي فليطلبا . (5) : أي طرق و [123]-ه ۱۲سیم
فبنيت الكوفة على هذا التخطيط وعلم أن الجند بشکون الشتاء ويعوزهم الملجا الذي يسكنون إليه بعد الغزو في حدود فارس . فكتب إلى عتبة بن غزوان أن « ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء ، ووصفه له ما يلزم من مواته وخططه فست البصرة عند ملتقى النهرين وهو الذي أشار على عمرو بن العاص أن يحفر خليجا بين النيل وبحر الاتصال المرافق بين مصر وعاصمة الدولة ، وضرب له الموعد حولا) يفرغ فيه من حفره واعداده لمسير السفن فيه ، فساقه م، ولم يأت الحول حتى جرت فيه السفن ويسمى خليج أمير المؤمنين ، ولم يزل مفتوحا حتى ضيعه الولاة وغفل عنه الخلفاء القلزم من جانب الفسطاملی
من 6 (1). والفتور . ومن فلاسفة العصر (1) فسياسته النعميرية وافية بالغرض منها لعصره ، وقد يلاحظ عليها أبناء العصر الحاضر شيئا لا يوافقهم کالجد ارتفاع الدور والزهد في تشييد القصور . أما هو فالوجه الذي توخاه في سياسة التعمير أن خمی الدولة في نشأتها من الترف والبذخ، وأن يحول بين الجند و بين الاستنامة الى متاع القصور المشيدة والصروح المردة" وما فيها من بواعث الوهن الحاضر من يحسب ضخامة البناء دليلا على ابتداء الضعفه وعفاء العقيدة ، ويقول « شبنجلر » أحد هؤلاء الفلاسفة : أن الأمم في نهوضها تعبر طريقين مختلفين : طريق العقيدة وقوة النفس وتلازمه بسالة الظواهر وعظمة الضمائر ، وطريق الفخامة المادية والوفرة العددية وفيه تنحل الضمائر وتخلفها العظمة التي تقاس بالباع والذراع وتقدر بالقنطار والدينار ، وكانت قبل ذلك نتقاس بما يحس من العزائم والأخلاق وعمر على كلتا الحالتين لم يتعد طبائع الأشياء ، ولم يأخذ في زمانه بغير الصالح من الآراء وقصارى القول ان هذا الرجل لم تواجهه في ولاياته الواسعة صعوبة (1) أي يحتاجون ويفتقرون اليه . (۲) : أطلب ۰ (۳) أي سنة (4) تمريد البناء : تمليسه . (5) الضعف • (6) من قولهم : عفا المنزل : أي 4 4 درسي [124]اله أكبر منه وأحوج إلى قدرة أعلى من قدرته أو هيبة ودر. أبل مما بار هيبة ودراية ، فاذا عرضت الصعوبة الطارئة فهناك الحزم اللازم لمواجهتها والحبلة الصالحة لتدبيرها ، كأنما كان لها على استعداد ، وكأنما عاش حياته كلها يتمرس بهذه الأمور من (۱) يذبح وكان أضطلاعه بتفريج الأزمات والكوارث ، كاضطلاعه بتدبير الحاجات الى التعمير والتنظيم .. ففي السنة الثامنة عشرة للهجرة فاجأه قحط الرمادة المشهور ، وهو القحط الذي لا يقال في وصفه أوجز من قولهم يومئذ أن الوحش كانت تأوي فيه الى الانس ، وان الرجل المنضور من الجوع کان الشاة فيعافها اقبحها فنهض لهذه الكارثة نهوضه لكل خطب"، واستجلب القوت من كل مكان فيه مزيد من قوت ، وجعل يحمله على ظهره الحاملين الى حيث بشر بالجياع والمهزولين العاجزين عن حمل أقواتهم ، و آلی" على نفسه لا يأكل طعاما أتقي من الطعام الذي يصيبه الفقير المحروم من رعاياه ، فرضت عليه شهور لا يذوق غير الخبز والزيت . ونظر في كل شيء حتى في تعليم كل بيت کیف يرسله اليهم مع عماله .. فقال للزبير زبير بن العوام : « اخرج في أول هذه العير فاستقبل بها نجدا ، فاحمل الى أهل كل بيت قدرت أن تحملهم الى ، ومن لم تستطع حمله فمر لكل اهل بیت پیعبر بما عليه ، هو مرهم فليلبسوا کساءين ولينحروا البعير فليحملوا شحمه ، وليقددوا لحمه ، وليحتزوا جلده ، ثم ليأخذواكبة من قديد وكبة من شحم وحفنة من دقیق فليطبخوا و يأكلوا حتى برزق » ينتفع بالرزق الذي ...
يأتيهم
* *
(۲) وهذه السهولة في مواجهة كل حالة بما يوائمها هي التي تبرز لنا و مؤسس الدولة الملهم » في هذا الرجل العظيم فكل عمل هذه الأعمال سهل على القرطاس ، صعب عند تصورنا (1) من المراس والممارسة . (۲) عاف الرجل الطعام أو النسراب : كرهه. (۳) الأمر (4) : أقسم : (5) أي يجففوه (۹) : أي يلائمها ويناسبها الصحيفه . (V) [125]س-۲۷ { حسب اياه وأحاطتنا يستدعيه من تدمير وانجاز وخلق وهيبة . فكم بين المدينة وتلك الأطراف في زمن أسرع وسائله بعير سريع .. وكم عمل الملاحقة كل جيش يسير وكل بلد يفتح ، وكل أمة تحكم ، وكل عارض يطرأ على غير رقبة ولا سابقة خبرة ? تجنيد الجيوش لشتى الميادين وليس بسهل ، واختيار القواد على ما يندبون له وليس بسهل ، والأمر بكل حركة على حسب كل میدان وليس بسهل ، والسؤال عن قادة الاعداء ومداور اتهم ليسقصی خبرهم ويعرف ما يقابلهم به من الكيد والعدة وليس بسهل ، واننساء المدن والعمائر في مواضعها ، واقامة الدواوين عند الحاجة اليها ، وارضاء الأمم والجيوش بالاصغاء إلى شكايانهم ولو جاءت في غير أوانها ،، والنهوض للكوارث والأزمات بما ينبغي لها ، والمشاورة لمن تسمع منه المشورة والاجتهاد بالرأي عندما تختلف الآراء ، والاشتغال بکل شاك كأنه لا يشتغل بغير ما شکاه ، وخدمة الناس في دينهم وخلقهم كخدمته اباهم في دنياهم ودولتهم ، وتجدد هذه المتاعب يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر ، وعاما بعد عام . وهي شاقة لا سهولة فيها على غير صاحبها القدير عليها ولو زاولها عرضا إلى أيام 6 .
وجليل بعض هذا غاية الجلال لو أن صاحبه قنع منه بالاشراف والمراجعة ولم يعمل بيده فيه كأنه خادم البيت المرهق وأجير الديوان الصغير ، لكنه كما تعلم كان يكدح بيده ويحمل على ظهره وتعقب بعينه ، ولا بدع أحد من خدام الدولة الواسعة الا وهو شريك له في مثل ما يتولاه وأكبر ما يستحق الاكبار في هذا الرجل الكبير انه كان قادرا على الدول وعلى فنح الأمصار ، ولكنه راض القدرتين فلم يقدم على الامصار إلا بمقدار فليس الفتح شهوة عنده ولا المجد الحربي لبانة من لاناته ، وهو على .. تأسیس (1) أي ترقب وتوقع وانتظار (۲) أي عظيم • [126]سمس۱۲۸ - والأناة ، حتی لا (1) علمه بأن الله وعد المؤمنين أن يورثهم الأرض لم يكن يرى في ذلك داعيا الى العجلة بالفتح كما كان يرى فيه دواعي للت يسفك دم في غير موجب ولا تعتسف خطة بغير وهية فكان همه الاكبر تأمين الجزيرة العربية من أطرافها وحماية الاسلام في عقر داره. ولولا أن الدول العظمى التي كانت تحدی" بجزيرة العرب تحفزت للبطش بها ، وقمع دعوتها في مهدها ، لكانت للدولة الاسلامية سياسة أخرى في مصاولة أولئك الأعداء فدولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم الجزيرة وتهيج القبائل الحرب المسلمين من عهد النبي عليه السلام ، وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها . يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث أزواج النبي حيث يقول : « ... وكنا تحدثنا أن غسان تنتعل النعال الغزونا ، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا .. ففزعت فخرجت اليه وقال : حدث أمر عظيم ? .. أجاءت غسان ؟.. قال : لا ، بل أعظم منه وأطول . طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه !» عن (1) وقال : أثم ? تلين : ما هو
ومن هذا الحديث يتبين لنا مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار أما فارس فقد بلغ بطغيانها أن عاهلها غضب من دعوته الى الاسلام فأوفد إلى الحجاز رسولا مع نفر من الجند ليأتيه بالنبي العربي حيا أو میتا ! .. ولولا أنه مات قبل انجاز وعده واشتعلت نيران الفتن في بلاده لو طئت الجيوش الفارسية أرض الجزيرة قبل أن ينهض العرب لدفاع وما هو الا أن حفظ العرب حدودهم من قبل العراق الفارسی حنی سكنوا إلى ذلك ، وودة عمر بن الخطاب « لو أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون الينا ولا نصل اليهم » ولم تتغير خطته هذه الا حين استوى يزدجرد على عرش فارس و تأهب للغارة على المسلمين واخراجهم (۱) : وسطها - (۲) أي تحيط ۰ (۳) : حدود ۰ (4) أثم ؟ : أهناك ؟ [127]۱۲۱ ا و من حيث نزلوا .. فتجدد القتال وقد طال تردد عمر في فتح مصر ، ولم ينبعث الى غزوها حبا للغزو ولهجا" بالفتوح ، ولولا أن علم أن أربطون قائد الروم في بيت المقدس فد فر منها إلى مصر ليتشد فيها الحشود ويتأهب تلكر على الشام لطال تردده في الزحف عليها . ومع هذا أوشك أن يسترجع عمرو بن العاص بعد اشخاصة اليها ، ونهاه عن الايفال في المغرب بعد فتحها ، لأن السطوة - وهو مقتدر عليها - لم تكن تزدهيه ولا تنويه ، ولأن الفن بالأرواح أغلب في طبعه من الشغف بالفتوح و « أن رجلا من المسلمين أحب الى مائة ألف دينار 1
* *
الأكبار من 4 فلا يخطىء القائل الذي يقول ان الاناة في السطوة أكبر ما يستحق هذا الخلق الرفيع ، وان دلالته الانسانية أكبر دلالة يشتمل عليها هذا السجل الحافل بالمآثر . لأنه يرنا القوة كيف تكون نعمة انسانية عالية ولا تكون لزاما نقمة من نقم الأثرية والأنانية ، ويرينا الرجل كيف يقوى فلا يخافه الضعيف بل يخافه من يخيف الضعفاء وبحق يتزود بهذه القوة مؤسس دولة تقوم على دين ، لأن الدولة قد تقيمها القوة الطاغية ، أما الدين فلا يهدمه شيء كما تهدمه قوة الطغيان ان البأس الذي رزقته نفس عمر الحظ عظيم . ولكنه لو كان في يدي غيرها لقد يكون نصيبها منه أوفي من نصيبها وهو في يديها ، فلم يشحذه قط لغرض يخصه دون غيره ، ولم يضرب به قطر بمعزل عن الايمان حتى في أيام الجاهلية . فلو لم يقع في روع أن محمدا أهان قريشا وانقص دينها لما تصدى له بأذى ، ولولا حرمة الايمان الجاهلي عنده لما ثار علی ایمان محمد وصحبه وغاية ما هنالك انه فرقی بین ایمان و ایمان ، قفي الجاهلية كان ايمانه (۱) : المولوع به . عمر عمر 6 [128]4 مضللا فعقم ولم يأت بطائل ، وفي الاسلام كان ايمانه رشیدا فأتي بأطيب الثمرات
قبل أن يقال : ان عمر كان أكبر فاتح في صدر الإسلام ينبغي أن يقال : انه كان يومئذ أكبر مؤسس الدولة الإسلام ، وانه أسسها على الايمان ولم يؤسسها على الصولجان"، فكان مؤسسا لها قبل أن يلى الخلافة وينفرد بالكلية العليا ، وكان من يوم اسلامه آخذا في تشييد هذا البناء الذي تركه وهو بين دول العالم أرسخ بناء . ان تاریخ عمر و تاريخ الدولة الاسلامية لا يفترقان ، فاذا بدأت بهذا فقد بدأت بفصل من تاريخ ذاك ، ولن يطول بك الاستطراد حتى تثوب) اليه مرة أخرى (1) : كلمة فارسية معربة ، ومعناها : الممجن . (۲) تثوب : ترجع •
تصنيف:
عبقرية عمر
===============
عمرُ والحكومةُ العَصريَّة
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عمر والحكومة العصرية
[129]عمروالحكومة العصرية 6 الحقائق التي لا يحسن أن تغيب عنا ونحن نقدر الأبطال من ولاة العصور الغابرة أنهم أبناء عصورهم وليسوا أبناء عمورنا ، وانا مطالبون بأن نفهمهم في زمانهم وليسوا هم مطالبين بأن يشبهونا في زماننا ، وان الرجل الذي يصنع في عصره خير ما يصنع فيه هو القدوة التي يقتدى بها أبناء كل جيل ، ولا حاجة به الى اقتداء بنا. ولا أن بشق حجاب الغيب لينظر الينا ويعمل ما يوافقنا ويرضينا ويحسن بنا أن نذكر ، هذا ان أشكال الحكومات بمرتبة دون مرتبة المبادىء التي تقوم عليها ، وان المبادىء التي تقوم عليها بمرتبة دون مرتبة الروح الانساني الذي ينبغي أن يعمها ويتخللها ، لأن المبدا أن يخلو من الروح الانساني ولا يعيب الروح الانساني أن يخالف المبدا في بعض الأحايين .. فالملكية والجمهورية شكلان أشكال الحكومة قد يقومان على مبدأ واحد ، هو مبدأ، الحكومة الشعبية أو الديمقراطية ، ولكن العدل والحرية هما الروح الانساني المقدم على المبدأ وعلى الشكل معا، لأن فقد المبدة والشكل لا يضيرنا اذا وجدنا العدل والحرية . فقدان العدل والحرية فهو الذي يضير ولو توافرت المبادىء والأشكال فاذا عرفنا العدل بروحه ولبابه ، فلا ضير عليه أن تكره مبادىء النورة الفرنسية أو مبادىء الوثيقة الكبرى في البلاد الانجليزية ، أو مبادی، الدستور الأمريكي في أيام آباء الدستور هناك ، أو مبدا من المباديء التي لا تتي تتجدد وتتغير كائنا ما كان ويحسن بنا أن نسأل أنفسنا كلما أعجبنا بعظيم من الحديثة : ماذا كان هذا العظيم صانعا لو تشا في القرن الأول للهجرة مثلا أو القرن الأول للميلاد ؟ .. اكان يصنع فيه ما هو د عصری ، في زمانتا (1) يقال : فلان لا يني يفعل كذا : أي لا يزال يفعله أما .. y 6 عظماء العصور . [130]۱۳۲- .. أو فيه ما هو عصری في ذلك الزمان .. فمما لا مراء فيه أنه يخالف عمله في زماننا ، ولا يخالف عمله في زمانه الذي نشأ فيه ، ولا ملامة عليه فيما خالف وفيما وافق . بل اللوم علينا نحن اذ ننتظر ما لا ينتظر ونقيس على غير قياس . والى جانب هذا كله ينبغي أن نذكر ولا تنسى ان عصرنا ليس بخير العصور ! .. وانا لو ملكنا تبديله في كثير من الامور لبدلناه ، واننا لا تنفق على استحسان الحسن ولا استقباح القبيح فيه ، وان الفارق الأكبر بينه وبين العصور الأخرى انما هو فرق الألفة والاستغراب ، فصرنا مألوف لنا وسائر العصور مستغربة في أنظارنا ، وكثيرا مایکون الاستغراب عرضيا سخيفا متعلقا بالمظاهر والأزياء دون الجواهر وحقائق الأشياء أذكر من الصور التي رأيتها في الصحف الأوربية - ولا أنساها - صورة جامعة لبعض المشهورين والمشهورات في ازياء عصرنا وأزياء العصور السابقة على اختلافها ، عرضتها الصحيفة وأحسبها كتبت تحتها : هل تعرف هؤلاء لو مروا بك في الطريق .. فاذا تأملت الصورة رأيت فيها يوليوس قيصر في القبعة الطويلة وكسوة السهرة السوداء ، ورأيت كليوباترة في زي الباريسية العصرية ، ثم رأيت أميرا من أمراء هذا الزمن وحكيما من حکمائه على نمط التماثيل التي حفظت لقياصرة الرومان وحكماء اليونان . فاذا بك تستغرب ما تألف وتألف ما تستغرب وكأنك على استعداد أن تحادث يوليوس قيصر حديثك للرجل الذي يفهمك وتفهمه من وعلى حذر أن تقارب الرجل الذي مثلته لك الصورة في زى الأقدمين المخالفين لك في العقيدة والشارة والذوق ونمط التفكير والنظر الى الأشياء هذه صورة نشرت يومئذ للتسلية والفكاهة ، ولكنها خليقة أن تعلمنا (۱) لا مراء فيه : أي لا ريب فيه (۲) أي نظام وطريقة . الكلمة الأولى ،
[131]الكثير وأن تصحح لنا مقاييس المقابلة والتقدير من كل عصر سابق
و عصر أخير
. 6 (۲) الخافة وهو . ونحن - اذ تنظر الى أعمال عمر بن الخطاب تقيسها إلى نظام الحكم في زمانشا واجدون فيها كثيرا من المستغربات التي تحول بيننا وبين تقديرها الصحيح للوهلة الأولى ، ولكننا لا تلبث أن ترفع القشرة وتنفذ الى اللباب حتى تزول الغرابة ونرى في مكانها الحق الخالد الذي تتغير العصور ولا يتغير ، بل نرى في مكانها أحيانا ما يصلح كل الصلاحية للتفسير حتى بمباديء هذا العصر الأخير خذ مثلا انه وهو أقدر المالكين في عصره س كان يقنع بالكفاف ويلبس الكساء الغليظ، ويهنأ ابل الصدقة ، أي. يداويها بالقطران ، ويراه رسل الملوك وهو نائم على الأرض لومة الفقير المدقع، وتعرض له داخل الى الشام فينزل عن بعيره ويخلع خفيه ريخوض الماء ومعه بعيره ، ويسافر مع خادمه فيساوي بينهما في المأكل والمركب والكساء حاكم من حكام العصر الحديث لا يصنع هذا ولا يطالب بأن يصنعه ، وهو وأبناء العصر الحديث على حق فيما ارتسموه ، لأنفسهم من والشارة لأن حاكم الأمة يحتاج الى الهابة بين قومه وغيرهم الأقوام ، وهذا مشكور ولكن هذه وجهتنا نحن في هذا ، فما وهذه حجتنا نحن فيما ارتسمنا .. فيما أرتسم .. انا اذا عقدنا المقارنة بين الوجهتين والحجتين الفيناه في غني عن وجهتنا وحجتنا ، وأنه كان يصل الى الغاية التي نرومها نحن من طريق أقوم وأنفذ من الطريق الذى توخيناه فكان يعيش عيشة الفقراء ، وأمته وأمم أعدائه أهيب له مما تهاب التيجان في القصور (۱): طلاها بالقطران . (۲) : الشديد الفقراء الملصق بالتراب . (۳) : ما جاز الناس فيه مشاة وركبانا • (4) أي الشكل والهيئة والمظهر . (0) أي العلامة . حسن هی وجهة عمر فيه { .. فيا هي حجة . عمر . [132]وكان يدين وطعام مكفولا له مع عمر وكان عمل الرجل تثبيت سلطان وتثبيت عفيدة هي أساس الحكم قبل كل أساسي ، فكانت عيشته الفقيرة أعون له على تثبيت العقيدة ، ثم لا غضاضة فيها على السلطان نفسه بهذه العيشة ولا أبي على غيره أن يخالفها ، ويقنع باليسير ونعطي الحق الكثير لمن يستحقه على تفاوت في المآثر والأعمال فلما ندب أبا عبيدة لتوزيع الطعام في عام المجاعة أعطاه ألف دينار وألح عليه في قبولها ولما قسم الولايات جعل لكل وال كفاء"عمله أجر عطائه الذي يعطاه كسائر المسلمين ، وهو الذي خالف أبا بكر في التسوية بين الأعطية لعلمه بتفاوت الحقوق ، فقال له : أتسوى بين من هاجر الهجرتين وصلى الى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف ? .. أتجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه ? .. ولقد ظلل كلاهما على رأيه حتى قام بالخلافة فأخذ بمذهب التفضيل وتوفية العطاء حسب الحقوق أما المهابة فمن افتقر من الولاة إلى المظهر فيها لم يمنعه عمر ولم يوجب عليه أن يقتدي به في خصاصته وشظفة" ذاك ما تقضي به مصلحة الدولة حيث كان وبهذا يكون الحاكم عمر بن الخطاب قد أدي « الواجب الحكومي » على الوجه الأقوم فلا سبيل لأحد إلى أن يؤاخذه فيه بقياس حدیث أو بقياس قدیم فاذا بقي أن نستدل بتشديده في المعيشة على تفكيره أو خلقه فما هي الدلالة التي يدل عليها .. هل يدل هذا التشديد في محاسبة النفس على شيء يعاب ? .. هل هو أدنى الى النقص أو هو أدنى إلى الرجحان 7 .. ان أناسا يشددون على أنفسهم کزازة في الطبع وضيق في الحظيرة وعجز عن ملابسة الدنيا . وهذه نقائص تعاب في مقياس الفكر والاخلاق ولكن هل كانت خليقة عمر بن الخطاب خليقة المرعب المتوجس العاجز الذي الشظف عنده إلى العجز عن ملابسة الدنيا } فله عن (۱): الذلة والنقصة . (۲) : العادة والشان : (۳) أي جزاء او فار • (4) أي مضمونا ۰ (۰) :يبس العيش وخشونته • (6) : الانقباص واليبس [133]به ۱۲ + عمر من أعجل الناس بالاتهام ، لا تهم . بهذا ولا بما يشبهه و يدانيه وانما تدل جملة أخلاته على ان الخلق الذي ألزمه حياة الشظف انما هو خلق توی پروض صاحبه على ما يريد، وليس بخلق ضعيف ، يجفل من التصرف والتكليف ، اجفال العجز والرهبة والوسواس وفي « طبيعة الجندي » التي قدمنا الكلام فيها بعض التفسير لنظرته في حساب نفسه وفي الموقف الذي اختار أن يقفه بين يدي الله . فهو يعلم ان الله شديد الحساب وان الله رحيم ، ولكن الجندي القوى اذا وقف بين بدي مولاه جعل تعويله على الوفاء بالأمر وقضاء الواجب في أدق تفاصيله ، ولم يجعل معوله الوحيد على طلب الرحمة والصفح عن الخطيئة ، فان جاءه الصفح من مولاه فليس هذا بمعفية أمام نفسه من استقصاء الحساب ولو جار عليها . فأكرم لطبيعته الجادة القوية أن يجور على أن يترخص في اعطائها ثم يتعرض للصفح والغفران وكان وفاؤه لحق الصداقة ، كوفائه لحق الله ، سببا من أسباب هذا الشظف الذي عاش عليه بعد النبي وخليفته الأول . فقد أبي له وفاؤه أن يعيش خيرا مما عاشا ، وأن يستبيح - وقد صار الأمر اليه - حظا لم . يستبيحاه ، وكثيرا ما توسل اليه خاصته أن يشفق على نفسه وأقنعوه بما علموا أنه أدنى الى اقناعه ، وهو أن يتوسع في العيش ليكون ذلك أقوى له على الحق ، فكان يقول لهم : « قد علمت نصحكم . ولكني تركت صاحبي على جادة ، فان ترکت جادتهما لم أدركهما في المنزل ، ، وكلما نصح له ذووه ومنهم بنته حفصة أن يستكثر من الطعام الطيب والنعمة السائغة سألها : كم كان نصيب النبي من ذاك وأنت تعرفين نصية ? فيكون السؤال هو الجواب ثم كانت رغبته في اقامة الحجة على ولاته وعماله سببا آخر من أسباب شظفه وقناعته بالقليل ، فقد يستحي أحدهم أن يكون ليغني وخليعته قانع لا يطمع في اكثر من وما كان عمر بالذي يجهل ما عرفه الناس من مروءة « الأبهة والوجاهة (۱) : المنزعج . (۲) ساغ الشراب : سهل مدخله في الخلق ، وساغ له ما فعل : جاز ۰ (۳) أي القوة الضروري = هذا أو من الكفاف") [134]۱۳ 6 بخس" ولا 4 (۴). هو الذي يعلم ما جهلوه ، ولكنه كان غنيا عنها اینارا لغيرها مما هو أرفع منها وأدل على المروءة في حقيقتها. فكان يقول : « المروءة مروءتان : مروءة ظاهرة ومروءة باطنة. فالمروعة الظاهرة الرياش، والمروءة الباطنة العفاف » فهو في جملة أحواله يفرض الشظف على نفسه لأن قوته الخلقية تستطيع أن تريد فتفعل ، وتستهل الجد الذي يصعب على غيرها . ففيها رجحان يكبره العقل والخلق ، وليس فيها نقص يعاب بمقياس التفكير أو مقياس الأخلاق انما كان الرجل يحاسب غيره فيعطيه حقه في غير خرج ويحاسب نفسه فيؤثر الشدة ليقطع الشك ويدرا الشبهة ويقتدی بصاحبيه ، ويترك القدوة المثلى لمن يليه فلا سبيل عليه الباحث في نظم الحكم ولا الباحث في معاني الأخلاق على ان عصورنا الحديثة تستغرب الشظف من عمر ، وهي تهلل لملوكها وتكبر لهم حين يستنون لأنفسهم سنته في بعض أوقات الضيق والمحنة ، الأوقات التي يتنبه فيها شعور الرعية للفارق بينها وبين راعيها في المعيشة والتكليف ، وأكثر ما يكون ذلك في أوقات المجاعات والحروب وشح المؤونة على الاجمال ففي الحروب الأخيرة تجاوبت الصحف بالثناء على الملوك الذين راضوا أنفسهم وراضوا أسرهم وحاشيتهم معهم على جراية الحرب التي توجبها ضرورات التموين ، وعدوا من مفاخر الملوك أنهم لا يأكلون الا ما تأكله شعوبهم وأنهم لا يرون لهم عزة في الترف الذي يعز على رعيتهم ، فيما أوجبه على نفسه عام القحط ، وعلمتهم الشدة كيف ينفذون الى الواجب الإنساني من وراء زخارف الحضارة الحديثة وشيء آخر يستغربه المصريون في نظام حكومة عمر وان كانوا ليتمنون مثله لو استطاعوه ، ونعني به طريقته في محاسبة الولاة والعمال سواء لتحقيق العدل أو لتحقق الأمانة (1) : اللباس الفاخر ، وقيل : المال ، والخصب ، والمعاش (۲) : النقصان ۰ (۳) : يدفع • (4) أي طريقته وهي فاقتدوا بعمر [135]ب-۱۳۷- فكان يجزي الوالى جزاء المثل عن كل مظلمة وقعت على أحد رعاياه ، ويأخذ الوالي بسيئات أبنائه وذويه ان أساءوا و مستطيلون بما للولاية من حول" وجاه .. (۲).. وكان يحمى أموال الولاة ، ثم يستصفي ما زاد عليها كلما فشت ت لهم فاشية من النعمة لا يخبرونه بمصدرها وفي هذا وذاك ضمان للعدل والأمانة ، يستغربه المصريون لأنهم لا يألفونه في طرائق الحكومات العمرية ولكن أتراهم يستغربونه لأنه غير حسن أو لأنه غير مستطاع ؟ .. بل لأنه غير مستطاع ولا ريب ، أو لأن الحكومات العصرية لا تملك ان تتحراه وتنصف في تنفيذه اما انه حسن فلا شك في حسينه ولا في انه أحسن من نظائره بین النظم العصرية ، لأن حكومات العصر الحديث قد تحمي الوالي وان للم واعتدى فلا بمقاضاته الا باذن منها !.. وقد تحميه مرة أخرى بالاحالة الى الثقة بالوزارة ومنع المناقشة في عمله ، لأنها هي بمناقشته فيه . وتعتذر في الحالتين بعذر المحافظة على نظام الدولة أن يهدده يهدد مراكز الحكام ولم يكن عمر يخشى هذا الخطر لأنه أقوى منه ، فله هو الحق وعلى النظم العصرية الملام أما الطريقة العصرية في ضمان أمانة الحكام فهي أن تحرم عليهم الدساتير مباشرة الأعمال في الشركات وما اليها ، درهما ولو دخلوا الخدمة صفر اليدين وخرجوا منها بالضياع والقصور والأموال فمن استغرب الطرائق العمرية في هذا الباب فلیستغربها ما شاء وهو يعلم أن الغرابة ليست بعيب ، وان المألوف هو المعيب ان قصر عن الغرض المطلوب (۱) : الحيلة ، والقوة ، والمراد : القوة • (۲) جمعها ، فراشي ، وهي : كل شيء منتشر من المال كالغنم السائية والابل وغيرهما ما . ثم هي لا أخذ منهم و و [136]اسه و 4 د عمر وما عدا هذا اختلاف بين العهدين فقلما يعلو اختلاف الاسماء وتغيير العناوين ، وقل أن ينفذ الى ما وراء القشور . وهذه بعض الشواهد التي تقرب أسباب النظر إلى حقيقة هذا الاختلاف في سوق المدينة ، فرأی ایاسا سلمة معترضا في طريق ضيق فخفقه بالدرة وقال له : « امط" عن الطريق يا ابن مسلمة !.. ) ثم دار الحول ولقيه في السوق فسأله : أردت الحج هذا العام } قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فأخذ بيده حتى دخل البيت وأعطاه ستمائة درهم وقال له : يا ابن سلمة ! .. استعن بهذه ، واعلم انها من الخفية التي خلقتك بها عام أول؟! .. قال اياس : يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتينيها ... فأجابه عمر : أنا والله ما نسيتها فالنظم العصرية تحار في وضع هذه الحادثة في باب من أبوابها المرتبة حسب الوظائف والأوامر والمراجعات ولكن ماذا يصنع جندي المرور في عصرنا اذا شاء أن يميط عن الطريق ويفض الزحام ? وماذا تصنع المحاكم في تعويض من أصابه الضرب غير ضرورة ? ان جندى المرور ليضرب بالدرة وبما هو أقسى منها ، وان المحاكم التعرض المضروب بشیء من خطأ الجند والموظفين ، وعمر قد عوض الرجل من ماله كما يؤخذ من قول ابن سلمة : أنه ذهب به الى بيته ، فان لم يكن هذا المبلغ من مال وكان خزانة الدولة فقد فرم عمر كل دين عليه قبل موته ، ولم يفارق الدنيا الا على ضمان وثیق أن يعاد کلی دينه إلى ذويه . وقد يكون الخطأ يومئذ في الحساب لافي تصرف عمر بن الخطاب ورأى عمر امرأة في زي استغربه فسأل عنها فقيل له بأنها الأمة فلانة ! فضربها بالدرة ضربات وهو يقول لها : يا لكعاء .. أتشبهين بالحرائر : وهنا مجال واسع للحذلقة العصرية في الكلام على «الحرية الشخصية (1) اي ضربه . (۲) أي تنح وابعد • (۳) يعني : العام الماضي • (4) : أي لئيمة ، (5) : أظهر الحذق .. مال الدولة عن شم درهم من (0) . . [137]۱۳۹ وعلى حق من يشاء أن يلبس ما يشاء ويسير حيث يشاء ولكن ماذا تصنع الحضارة العصرية بالنساء المريات اللاتي يتنكرن ازياء الحرائر وأوين إلى البيوت في أحيائهن ويخرجن معهن الى الطريقة وبماذا يختلف شأن النساء المريبات من شان الاماء في كن فيه متهمات الاعراض ? .. زمن 6 . - - عمر و رأی عمر رجلا يتبختر ويمشي مشية قبيحة لا تليق بالرجال فأمره أن يتركها فأبى ، وزعم أنه لا يطيق ترکها .. فجلده ، وعاد بعد جلده إلى التبختر فجلده مرة أخرى . ثم مضت أيام وجاءه الرجل وقد ترك تلك المشية القبيحة ودعا له : جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين . ان كان الا شیطانا أذهبه الله بك . الحرية الشخصية مرة أخرى ! .. غير أن في عقوبته هذه انما كان يعاقب على أمر نهی عنه القرآن وليس له أن يبيحه بحال ، فهو قانون يعرفه من أوقع العقاب ومن وقع عليه ، ومن شهدوه وأقرأوه .. وكلهم يأبى أن يمشي في الأرض مرحا) وبعدها من قبائح الآداب ولكننا في العصر الحديث تقسم النواهي والأوامر الى قسم يحاسب عليه القانون وقسم يحاسب عليه العرف المأثور . وعقاب العرف حق الامة وليس بحق الحكومة والقضاء وحجة العصر الحديث أن العقاب القانوني هنا غیر منصوص عليه وليس النص عليه بمستطاع ، وربما فتح الباب للاغراض والأهواء واستبداد الحاكمين اذا استطيع وعندنا ان حجة العصر الحديث في هذا ناهضة لا شك في صدقها ، ولكنها ان نهضت فانما تنهض على العصر الحديث ولا تنهض على عمر ولا على من وثقوا بعدله واسلموه زمام العرف والقضاء على السواء (۱) أي يتصنع الحس أو التكسر في مشيته: (۲) : شدة الفرح (3) المراد بالزمام هنا : المقود . ... . [138]ب- ا فماذا لو استطاع العرف في عصرنا أن يحاسب الناس بالحبس والجلد والغرامة على رذائل الذوق وقبائح الآداب دون أن يخطيء أو يجوز ?.. أبي الاصلاح وهو آمن عقباه .. أن أباه فليس صوابه في آبائه بأكبر من صواب عمر في تقريره ، وليس على ولا على رعيته جناح أن يطمئنوا إلى عدل يعبينا أن نطمئن الى مثله مي
* *
أحدا فضرع 4 . وقد تقدم أن عمر غضب على الحطيئة لهجائه الناس ، ونهاه أن هجو عاليه الرجل وقال : اذن أموت ويموت عيالي من الجوع ، فأنذره ليقطعن لسانه ! ثم عطف عليه فساومه على ترك الهجاء بثلاثة آلاف درهم ، فسلم الناس من لسانه واستغني عن هذه الصناعة ما عاش عمر .. ثم عاد اليها بعد موته ان أمين الحساب في خزائن الدول الحديثة يحار في أي باب من أبواب المصروفات يضع هذه الدراهم التي اشترى بها هجاء الحطيئة ، ولكنه لا يحار طويلا حتى يذكر باب الدعوة وما تنفقة الدول من الملايين ثمنا الثناء والهجاء. فيضعها هنالك وهو أهدأ ضميرا مما وضع في الباب کله ، لأنه مال تنتفع به الرعية وتنتفع به الأخلاق ، ولا نفع فيه لذوات الحاكمين ولنضربه أمثلة من طراز آخر على الطريقة العمرية التي يستغربها المصريون وهم مخطئون في استغرابها أو قادرون على النظر اليها كما ينظرون الى المألوفات ، لو أطلقوا عقولهم من عقال الصيغ والاشكال ونفذوا من ورائها الى الجواهر والأصول كان عمر يعمل في المدينة فسمع صوت رجل وامرأة في بيت ، فتسو الحائط فاذا رجل وامرأة عندهما زق خمر ، فقال : يا عدو الله !.. أكتت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية ?.. فقال الرجل : يا أمير المؤمنين أنا عصیت الله في واحدة وأنت في ثلاث ، فالله يقول : « ولا تجسسوا % وأنت تجسست علينا . والله يقول : « وأتوا البيوت من أبوابها وأنت (1) أي خضع وقال في مذلة ومسكنة : (؟) : القيد . (۳) : تسلقه . (4) وعاء من الجلد غير المنتوف . (5) من الآية : ۱۲ من سورة الحجرات (1) من الآية : ۱۸۹ من سورة البقرة !
(1) 6 [139]۱۱- معدت { عمر : هل 6 او . الجدار ونزلت منه . والله يقول : « لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وأنت لم تفعل ذلك .. فقال عندك ان عفوت عنك ؟ قال : نعم ، والله لا أعود . فقال : اذهب فقد عفوت عنك ما أسرع ما تقول الحذلقة العصرية وهي مستريحة البال : هذه بدوان البادية في حكمها تجسس ثم محاجة جدلية ثم تزول عن عقاب . وهي د طريقة تعوزها الاجراءات الرسمية » التي تحن عليها حريصون وبها جد فخورين ! .. لكن ما القول في مطابقة هذه الطريقة كل المطابقة لما يجري عليه النظام الحديث في اجراءاته الرسمية بغير استثناء ? .. فالدساتير الحرة ، تمنع الرقابة وفض الرسائل واستباحة الأسرار والحكومات ۔ مع هذا المنع الدستوری - تضطر الى استطلاع الأحوال و اتقاء الجرائم بمراقبة المتهمين وذوى الشبهات . فاذا اتفق في حادث من الحوادث انها استباحت سرا يدل على جريمة محظورة فماذا يكون من مير الاجراءات الرسمية .. يكون ما كان من عمر في الحادث الذي وويناه بغير اختلاف .. فالقضاء لا يأخذ بدليل يمنعه الدستور ولا تثبت عنده الجريمة الا بدليل مشروع ، والحكومة تضطر هنا إلى السكوت ومتابعة الحالة حتى تسفر عن بينة يجوز لها أن تعتمد عليها أمام القضاء فيما تصنع من هذا القبيل أعجز من عمر فيما صنع ، لأنه جعل الاستطلاع سبيلا إلى العظة والتوبة . واستغني عن الإجراءات الرسمية التي نحن عليها حريصون وبها جد فخورين ! .. .. وهي 1 ونقترب من حادث تطول فيه الالسنة العصرية أبعد مما طالت في شتى الحوادث التي قدمناها ، ونعني به كتابه الذي خاطب به النيل يوم قيل له انه أمسك الفيضان وقد زعم المؤرخون أن أهل مصر ذهبوا إلى عمرو بن العاص في شهر (۱) من الآية : ۲۷ من سورة النور عن [140]-۱۲
في الاسلام بؤونة فأخبروه أن للنيل عندهم سنة قديمة لا يجرى الا بها ، وهي : د انهم اذا كانت ليلة ثلاث عشرة من هذا الشهر عمدوا إلى جارية بكر بين أبويها فحملوا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون ثم ألقوا بها في النيل ، .. فلم يجبهم عمرو إلى ما سألوه وقال لهم : هذا لا يكون ، وان الاسلام يهدم ما كان قبله . فأقاموا بؤونة ، وأبيب ، ومسرى ، لا يجري فيها النيل قليلا ولا كثيرا ، ثم رفع عمرو الخبر الى عمر فاستصوب ما صنع وكتب له : اني بعثت اليك بورقة مع كتابي هذا وألقها في النيل . وفي الورقة كتاب يخاطب به التي يقول فيه : « من الى نيل مصر . . أما بعد: فان كنت تجري من قبلك فلا تجر وان كنت تجري من قبل الله فنسأل الله أن يجريك » قال رواة هذه القصة : ان عمر القي بالورقة في النيل قبل يوم بشهر وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج الصليب وقد راه الله ستة عشر ذراعا واستراحوا من ضحاياه في ذلك العام وفيما من الأعوام . والرواية على علاتها قابلة للشك في غير موضع عند مضاهاتها على التاريخ .. وقد يكون الواقع منها ان وقعت - دون ما رواه الرواة عبد الله عمر الصليب فأصبحوا أجراه بعده - بكثير هی ان عمر ولتكن على هذا صحيحة بحذافيرها فما الغضاضة فيها على العلم الحديث ولا تقول على العقل « البدوى » قبل نيف وألف سنة ? .. لم يجد أهل مصر معولين في فيضانهم على القناطر والسدود و فنون الهندسة و فأبى عليهم أن يعولوا عليها ، ولكنه وجدهم معولين على خرافة يعافها العقل والشعور فأنكرها وحق له أن ينكرها ، ولم يقل لهم ان ورقته الملقاة في النيل هي التي تجريه ، بل قال لهم : أن النيل البجری بغير تلك السنة التي استنوها له .. بغير القربان الذي يتقربون به اليه ، وليس في هذه القصة كلها ما يستغرب من حاكم عصري مؤمن بالله منکر للخرافات ، فورقة عمر أقرب الى العقل في زماننا هذا (1) أي طريقة • (۲) يقال : عول علي بما شئت : أي استعن بي (3) يكرها .. الكورس . [141]والقوارير التي تكسو في الأنهار عند فتح قناطرها وجسورها ، وأقرب الى العقل من البخور الذي يحترق في البيع والهياكل جلبا للفيضان واستغاثة بالسماء
عمر هی ونحن لا نعرض لهذه الأشتات طريقة . في حكومته لأنها هنات تلجىء المعجب به إلى دفاع وتسوي"، وليس في كل هذه الأشتات وأشباهها ما يلجىء عمر ولا المعجبين به الى دفاع أو تسويغ وانما عرضنا لها توسعة الأفق النظر العظمة الانسانية في مختلف از مائها ، واستخفافا بالغرائب التي تخلقها العادة العارضة لعبادها ، ثم لا تستحق من هوانها أن نخسر من أجلها شعورنا بعظمة الانسان وانها لأنفس ما نعتز به في الأزمان عدل عمر نخسره لأنه كان يقضي فيه بغير « استمارة » مدموغة بنص عليها قانون المرافعات ! .. أو لأنه كان يقضي فيه على غير ذ الاجراءات العصرية » في مواجهة الحقوق الشخصية ! .. أو لأنه كان يقضي فيه قضاء يختلف الفقهاء في عنوانه وفي الرف الذي يضعونه عليه بين رفوف الأضابير ، يا لها من حماقة تخجل العصر الحديث ، خجله وهو واقف بين العصور يتطاول عليها بتخيف الحماقات وادحاض الخرافات ق (1) . (۱) : الكنائس • (۲) : تجویز ۰ (۳) أي : استمارة ، ۰ (4) : الحزم من الصحف . (5): قلة العقل " (1) : ابطال
تصنيف:
عبقرية عمر
==============
عُمر والنَّبي
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عمر والنبي
[142]
عمر والنبي
6 و بندر أن يظفر الباحثون في طبائع الانسان بمغنم نفسي هو أوفر" ثمرة وأنفس محصولا من دراسة عمر بن الخطاب ، لأن الظواهر المختلفة التي تتجلى في هذه النفس العظيمة ليست من ظواهر كل يوم ولا ظواهر كل دراسة ، ولأن اتفاقها البسيط مع تركيبها العجيب مما تعذر جدا في النفوس التي نعهدها ، ومما يتعذر جدا حتى في نفوس الأفذاذ العظماء بيد أن المغنم الأكبر في هذه الدراسة انما هو مغنم علم الأخلاق لأن علم الأخلاق أحوج الى الاستدلال بالظواهر الطبيعية ، وأفقر الى الاسناد والدعائم التي تقيمها أمثال هذه الدراسات فكل نفس . عظمت أو صغرت - فدراستها مغنم العلم النفس لاشك فيه ، کائنة ما كانت النتيجة التي تتأدى اليها من بحث خفاياها وتنظيم شواهدها لكن الوصول إلى نتائج علم الأخلاق هو الصعب الجديد الذي ان يزال اليوم وبعد اليوم صعبا وجديدا الى أمد بعيد فالمفروض أن تتائج علم الأخلاق « فكرية تكليفية » يستنبطها الفكر الذي يختلف في صوابه كما يختلف في خطئه ، ويمليها التكليف الذي يطاع ولا يطاع ، ويراض عليه الانسان رياضته على الأمر الغريب و الاجنبي » عن نوازع الطباع . تلك فاذا أهتدينا الى نفس مزز ، النتائج الفكرية التكليفية التي هي أقرب الى الآمال المنشودة منها الى الوقائع الموجودة فقد ظفرنا بمغنم
[143]الصرح تقریب ، از هو € واذا ظفرنا بحقيقة نفسية، هي في الوقت نفسه حقيقة فكرية وحقيقة خلقية فذلك هو المغنم المضاعف الذي قلما ينال ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس التي تدعم علم الأخلاق من الأساس ، ومی ذلك الشامخ الذي تنظر الى اساسه فاننا تسلفنا النظر الى ذروته العليا ، لأنه قرب بين الآمال والقواعد أوجز التقريب الملموس آمال كثيرة من آمال محبي الخير ودعاة الاصلاح هي في نفس عمر بن الخطاب وقائع مفروغ منها ، كأنها وقائع المرئيات والمسموعات فمنها فيما أسلفناه : أن القوة لا تناقض العدل في طبيعة الإنسان بل يكون العدل هو القوة التي تخيف فيخافها الظالمون ومنها فيما نحن بصدده الآن ، أن القوة لا تناقض الاعجاب ، على خلاف ما يتبادر إلى الأكثرين فان الاكثرين يحسبون أن الرجل الذي يعجب به الناس لا يعجب هو بأحد ، وأن البطل الذي يقدسه عشاق البطولة لا يعشق البطولة في غيره ، وأن التطلع إلى الأعلى صفة ينطبع عليها الصغار ليرتفعوا بعض الارتفاع ويحسنوا الخدمة والعون للكبار ، ولكنها صفة ينفر منها الكبير ويحس فيها الغضاضة أن يصغر الى جانب المتفوقين عليه ، ممن هم أكبر قدرا وأحق بالاعجاب . لكن البطل الذي ندرسه هذه الدراسة ينقض ذلك الحسبان أقوى نقض مستطاع ، لأنه بطل يروع ويعرف روعة البطولة . ويستحق الاعجاب غاية استحقاقه ، ثم ينخيل اليك من فرط ولائه لمن يفوقونه انه خلق للاعجاب بغيره ، ولم يخلق ليكون هو موضع اعجاب . حب اعجاب ، ويؤمن به ایمان اعجاب ، ويستصغر نفسه اذا نظر إلى عظمة محمد ، وما هو فيما خلا ذلك بصغير في نظر نفسه ولا في نظر الناس كان محمد عليه السلام كما نعلم قدوة في الدعة وحسن المعاملة 6 ب - { .و . فمر كان بها محمدا (1) : القصر ، وكل بناء عال . [144]م۱۱ وحسن عمر محبه وتابعيه ، وكان يعاملهم جميعا معاملة الاخوان والزملاء فلا يغمرهم برهبة التفاوت الشاسع والتفوق البعيد ، فلو جاز أن ينسى أحد فارقا بينه وبين عظيم ننسى أصحاب النبي هذا الفارق بما يلقونه من مساواته معاملته ، ولو نسيانا إلى حين الا أن العظيم » سمع مرة من صديقه محمد عليه السلام كلمة د يا أخي » فظل يذكرها مدى الحياة - استأذنه في العمرة فأذن له وقال : يا أخي لا تنسنا فما زال عمر يقول بعدها كلما ذكرها : « ما أحب أن لى بها ما طلعت عليه الشمس لقوله يا أخي ! .. ) شهادة لعظمة محمد أنه يؤاخي الناس كبارا وصغارا وان الناس كبارا وصغارا لا ينسون ما في مؤاخاته من فخر وغبطة وما بينهم وبينه من من دعاك »
فارق بعید .. عمر عمر عمر وشهادة لعظمة إنه أهل لذلك الاخاء ، لأنه يدرك ما فيه من عظمة ، ويشعر بما فيه من رضوان وما يدريك ما الذي يشيع في قلبه الفرح بهذا الاخاء ؟ .. ليس بالرجل الذي يحب تواضع المرائين ، وليس بالرجل الذي يجهل مقداره أو يهاب مخلوقا بغير الحق ، وبغير الاعجاب هذا هو الذي تولى الخلافة ، وحجته الأولى في ولايتها أنه أكفأ المسلمين لها غير مدافع ، وانه كما قال : « لو علمت ان أحدا أقوى مني على هذا الأمر لكان أن أقدم فتضرب عنقي أحب الى من نعم ، هو عمر أقدر المسلمين كما يعلم ، وهو عمر الذي يستصغر نفسه اذا نظر إلى المثل الأعلى والقدوة الفضلى ، وهو اذن أكبر ما يكون بهذا الاستصغار لقد كان ، وهو خليفة ، يقول كالساخر وما هو بساخر : د بح بخ يا ابن الخطاب . أصبحت أمير المؤمنين ! .. أكان يقولها لأنه كان يجهل أنه أكفها العرب للخلافة بعد صاحبيه ? .. (۱) من معاني الغبطة : المسرة • (۲) : كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء ، وتكرر للمبالغة ، واذا وصت مكررة كسرت الخاء : بخ بخ 0 أن اليه » ) [145]. (1) (1) وانما كان عمر . کلا .. بل كان يقولها لأنه يعرف النظر إلى المثل الأعلى .. يعرف الاعجاب بما فوقه ، يعرف محمدا ويعرف أن اللحاق به أمل لا يعلال . بعرف الاعجاب بطلا معجبا يطل ، ويشاء فضله ان تحصى له هذه بين أصدق شواهد البطولة فيه . ون الخطأ أن يتوهم المتوهم أن عمر كان يتصاغر لأنه يشعر بصغره ، ويتواضع لأنه يشعر بضعة فيه ان الصغير لا حاجة به الى تصاغر لأنه صغير ، وربما كانت حاجته الكبرى الى مداراة شعوره الدخيل بتفخيم الرواء" وتزويق الطلاء ، والتخايل بالمسكن والكساء . تصاغر لأنه يشعر بعظمته ويكبح "ما يخامره من اعتداد بنفسه ، ومحال أن تمتلىء نفس بمثل هذه القوة ثم تخلو من شعور بقوتها واعتداد بقيمتها ، فليس ذلك من معهود الطباع في حي من الأحياء ، ولا قصر القول على الانسان ولهذا كان عمر . يتصاغر على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء ، لا على قدر ما يراه من بواعث الصغر ، فأبى أن يركب البرذون وهو يغالب عزة الفتح داخلا الى الشام دخول المنتصر ، وقيل له في ذلك فصاح بهم : خلوا سبیل جملي ... انما الأمر من ها هنا ، وأشار الى السماء وكلما اعتز متن حوله ، من خاصة أهله وخلصاء رعاياه ، بما يرونه فيه من بسطة السلطان وعلو الكلمة غض من اعتزاز هم وأحضر في أذهانهم ما بنسيم السلطان المبسوط والكلمة العالية ، فقال لأصحابه يوما وقد مر ببعض الشعاب على مقربة من مكة : « لقد رأيتني في هذه الشعاب أرعی ابل الخطاب ، وكان غليظا يتعبني ، ثم أصبحت وليس فوقي أحد ! » وضايقت هذه الكلمة ابنه فقال له : « ما حملك على ما قلت يا أمير المؤمنين » قال : { أباك أعجبته نفسه فأصبه أن يضعها » وانظر هنا الى كلمة د أمير المؤمنين ، يقولها الابن ، ثم انظر الى كلمة د اباك » يموله امير المؤمنين (۱) وضع الرجل ضيعة : أي صار وضيعا ، والوضيع : الدني. سن الناس ۱ (۲) : المنظر ۰(۲) أي تحسين : (4) : جذبها باللجام لتنن . ( أي يخالطه 6 و و [146]من ومن قبيل هذا رکوعه له ذليلا خاشعا يوم أمر أبا سفيان أن ينقل الحجر . مكانه فنقله ، فخشع لله الذي جعله يأمر أبا سفيان في شعاب مكة فيستمع لما أمر وليس هذا وأشباهه تصاغرا يكشفه الصغر ، انما هو تصاغر يكشف القوة والاعتداد بها ويكبحها بعنان متين هو نفسه دليل القوة والاعتداد بل يشاء بأس هذا البطل أن تتمادى فيه الصفات الى غايتها وهي متناقضة في النظرة الأولى ، فاذا بهذا التمادي يردها إلى الوفاق والتكاف ما بينها من ظواهر الاختلاف. فمما رأيناه أنه عادل يفوق العدول ، وقوى يفوق الأقوياء .. فاذا . العدل والقوة فيه وفقان متساندان لا يختصمان ولا يتناقضان ومما رأيناه انه بطل تعجب بطولته الأصدقاء والخصوم ، ثم هو في اعجابه بالبطولة كأنه خلو من دواشي الاعجاب وبقى من موافقاته النادرة أن الاعجاب عنده لا ينقض الاستقلال ، ولا يهدد « الشخصية » بالفناء والزوال ، فيعجب بمن يفوقه غاية الاعجاب ويحتفظ معه باستقلال رأيه غاية الاحتفاظ ، ولا يتناقض الأمران . فلم يكن أحد يعجب بمحمد أكبر من اعجاب عم ولم يكن أحد مستقلا برايه في مشورة محمد أكبر من استقلال فهو آية الآيات على أن فضيلة الاعجاب لا تغض من صراحة الرأي عند ذي الرأي الصريح مصارحة النبي عليه السلام برای يراه ، ولو كان ذلك الرأي من أخص الخصائص التي يقف عندها الاستقلال فيحمد في بيته وهو صاحبه ، ومحمد في شريعته وهو صاحبها ، كان يستمع إلى عمر حين يقترح ، وحين يستنزل الأحكام ، وحين يستدعي الوحي في أمر من الأمور فكان يشير على النبي عليه السلام أن نساءه ، ويبلغ ذلك عمر . فما أحجم عمر قط عن 6 لحجب [147]أ- احدى امهات المسلمين زينب فتقول له : انك علينا ! ابن الخطاب والوحی ينزل علينا في بيوتنا ... وتخرج احداهن سودة وهي تحسب أن أحدا لا يعرفها لاستتارها بالظلام فيعرفها بطول قامتها ويناديها : ( عرفتك با سودة ! .. و ليؤكد ضرورة الحجاب . فيؤمر المسلمون بعد ذلك إلا يسالوهن الا من وراء حجاب !!!
(۱) دننه ولما النبي عليه السلام بالصلاة علي عبد الله بن أبي كبير المنافقين وفاته ، تحول عمر حتى قام في صدره ، وأخذ يذكره مساوی عبد الله وأقاويله في النكاية بالاسلام وحكم القرآن فيه وفي أمثاله أن و استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " وألح في التذكير حتى أكثر على النبي عليه السلام وهو يبتسم ويقول له : « أخر عنى يا عمر ، لو أعلم أني ان زدت على السبعين غفر له زدت » . ثم صلى عليه ومشى معه حتى فرغ من . ثم . ما كان الا يسيرا كما قال عمر حتى نزلت هاتان الآيتان : د ولا تمل على أحد . منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه أنفذه إلى رهط من المسلمين فقال له : « اذهب اليهم فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا اله الا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة ، فكان أول من نقي عمر ، فصده وعاد به إلى النبي يسأله : « يارسول الله بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة من لقي يشهد أن لا اله الا الله مستیقنا بها قلبه بشره بالجنة ؟ .. قال النبي : نعم .. فلم يتريث عمر أن قال : فلا تفعل يا رسول فاني أخشى أن يتكل الناس عليها . فخلهم يعملون » فوافقه عليه السلام وقال : « فخلهم !» أو التحليل والتحريم كان عمر لا يقنع حتى يصل الى القول الفصل فيما يستفسر عنه ويتردد في حكمه ، فما زال يسال عن الخمر حتى حرمت وبطل فيها الخلاف . وهو هو الذي كانت الخمر شهوة له في الجاهلية يحبها ويكثر منها ، ولو شاء لالتمس الرخصة فيها ولم (۱) الآية : ۸۰ من سورة التوبة ۰ (۲) الآية : 84 من سورة التوبة . وفي التشريع [148]15 .
شخصي
.. الله بيننا وبينهم .. وق يكثر من السؤال عن تحریمها ، ففي سؤاله عنها وحذره منها فضل اكبر من فضل الاستقلال بالرأي والإخلاص في المراجعة ، وهو فصل الغلبة على النفس والتحصن من الغواية بالأمر الذي لا هوادة فيه وجرى صلح الحديبية الذي كان ظاهر الغبن فيه على المسلمين وظاهر الفوز فيه للمشركين . فيستطيع قارىء التاريخ قبل أن أسماء المعارضين للصلح والصابرين عليه أن يعلم أين كان عمر بين الفريقين فقد غمته هذا الصلح غما شديدا وذهب الى أبي بكر يراجعه ويناجيه : علام نعطى الدنية في ديننا .. فأجابه أبو بكر : يا عمر الزم غرزك ( أي رحلك ) فاني أشهد أنه رسول الله . وردد عمر انه ليشهد أنه رسول الله ثم ذهب في بعضن الروايات اليه عليه السلام فسأله : السنا یا رسول الله على الحق وهم على الباطل ? .. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ ورسول الله يجيبه : بلى !.. فيعود فيسأل : علام نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم فلما ناداه : ابن الخطاب ! .. اني رسول الله ! ولن يضيعني الله أبدا ، ثم علم أنه الفتح المنتظر ، ثاب الى الرضى وكئ عن السؤال والمحنة على ما صبر عمر وتسكن إليه سورة طبعه ، فمن شروط الصلح أن يرجع المسلمون عامهم ذاك فيردوا من جاءهم من قريش ولا ترد اليهم قريش أحدا ممن يجيئون اليها ، وان يكتب النبي اسمه في عقد الصلح فلا يكتبه فيه أنه رسول الله ، وهذه محنة وردت على حمية عمر بالوارد الجلل الذي ليس . أقسى منه ولا أمر على هذه الحمية العزوف . ولكن الصلح لم ينته حتى تفاقمت المحنة وادلهمت الغاشية كأن ما ابتلاه منها لا يكفيه . فبينما هم يكتبون اذ جاء أبو جندل بن سهیل پرسف في الحديد قد انتقلت إلى رسول الله . فقام اليه سهیل - وكان وكيل المشركين في عقد الصلح - فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه ليدفع به الى قريش ، وأبوجندل يصيح : يا معشر المسلمين ، أرد الى المشركين يفتنونتي في ديني ?.. فواساه النبي ودعاه الى الصبر (۱) غبنه في البيع : حدعه . (۲) انسورة : الحدة . (۳) ادلهم الظلام : كثف واسود (4) من معاني الغاشية : القيامة والنار . (۲) هی عليه أعظم مما يطيقه . [149]ماها به أباه U. 1 و 11) والاحتساب ، ووثب عمر اليه يمشي الي جنبه ويدنى منه قائم السيف ويقول له : اصبر يا أبا جندل فانما المشركون . وانما دم أحدهم دم کلب ، ورجا - كما قال بعد ذلك - أن يأخذ أبو جندل سيفه فيضرب قال : ولكن الرجل ضن بابيه ونفذت القضية فالمحنة أعظم مما تطبقه الحمية العمرية بغير وازع من هداية نبوية . ولا ياما سكنت نفسه واطمأنت إلى حكمة سيده ومعلمه وهاديه . ولا سيما حين ناداه : ابن الخطاب ؛ .. ان رسول الله ولن يضيعني الله أبدا . هذه المراجعة كانت من خلائق عمر التي لا يحيد عنها ولا يأباها النبي عليه السلام ، وكثيرا ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه . فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه و مرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب الى قرار اللهم الا أن تستعصى المراجعة ويعظم الخطر ، فهناك تأتي الخليفة العمرية باية الآيات من الاستقلال والحب والحزم الذي يضطلع بجلائل المهمات . فلما دخل النبي عليه السلام في غمرة الموت ، ودعا بطرس يملي على المسلمين كتابا يسترشدون به بعده أشفق عمر من مرا راجعته فيما سيكتب وهو جد خطير ، وقال : أن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا . ومال النبي إلى رأيه فلم يعد إلى طلب الطرس واملاء الكتاب ، ولو قد علم النبي أن الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذ أول انجيين وكانت هذه سنته في حياة النبي وبعد موته في كل عمل لا يستريح اليه ، فلم يحجم عن مراجعة أمره حيا وميتا في مسألة ليست من مسائل الذي فيه فصل الخطاب ، وما كانت المسألة مسألة رأي فهو ناهض بها برأيه حتى يؤمن بخطئه أو يرده عن المعارضة أمر مطاع ، كذلك صنع بن زيد قائد الجيش إلى البلقاء وفيه جلة الصحابة من كبار السن والمقام . فقد ولام النبي القيادة ومات عليه السلام وهو في أول الطريق . فقال أسامة لعمر : ارجع الى خليفة رسول (۱) أي استقرار ۰ (۲) : الشدة (3) : الصحيفة . الوحي في قيادة أسامة [150]۱۰۲ أسامة ) الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه بأذن لي أن أرجع بالناس ، فان معی وجوه الناس ، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل ) رسول الله وثقل المسلمين أن يتخطفهم المشركون ، وقالت الأنصار : فان أبي الا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب اليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا وغضب أبو بكر وكان جالسا فوتب وأخذ بلحية خمر وهو يهتف به : ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه . فوجبت الطاعة ، لأنه أبرأ ذمته بالمراجعة وسمع أمر الرئيس الذي لا رجعة فيه ، وعمر جندي متي صرح له الأمر من صاحب الأمر لم يبق وه له الا أن يطيع. اذا البحث عن وختمت سنة النبي بوفاته فلم يكن بين الصحابة أحد أحرص على هذه السنة وألزم لها وأكثر رجوعا اليها من عمر ، ولم تكن له وصية مفدمة على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله ، الا أنه هذا مع لم يكن يغفل عن العلل | العلة التي وراء السنة النبوية ، فخالف أبا بكر وجا رضي الله عنه في اقطاعه الأرض لعيينة بن حصن والاقرع بن حابس وقال لهما : أن رسول الله كان يتألفكما على الإسلام وهو يومئذ ذليل ، وان الله قد أعز الإسلام .. فاذهبا فاجهدا جهدكما فقد علم سنة النبي مع « المؤلفة قلوبهم » ولم يغفل عن سببها وموقنها فهي سنة تطاع الحكمتها ولا توضع في غير موضعها ، وليس على المسلمين حرج أن يختاروا للمؤلفة قلوبهم معاملة غير التي ألفوها من صاحب الرسالة ، اذا تغيرت الحكمة واختلفت العلة ، واستغنى الاسلام عن ناصرين تتألفهم العطايا والأنفال) ولمثل هذا السبب و نهی عن التحلل من بعض مناسك الحج ولم يكن منهيا عنهما كل النهي في حياة النبي عليه السلام . فكان الرجل يتزوج بالمرأة الأجل معلوم ثم يتركها ، وكان منهم ولا شك . . نهی عن زواج المتعة ة (1) من معاني المقل : كل شيء نفیس مصون ۰ (۲) الا بفال : الغنائم . [151]لا
من ينوى الحج ثم يتحلل من بعض مناسکه، فنهى عنها عمر في أيام خلافته وقال : « متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما . وموافقات عمر للقرآن والسنة كثيرة لايدعونا المقام هنا الى احصائها واستيفائها ، وكذلك مراجعاته ومناقشاته فيما يرد عليه أحكام تتجلى له ما تيها ومراميها " فحسبنا منها دلائل استقلاله وصراحة عقله فيما سردناه ، وحسب الاسلام فخرا أن يؤمن به الانسان ایمان عمر .ثم يستقل برأيه وطبعة استقلال عمر . فالايمان في أقصاه لا يعطل الرأي المستقل في أقصاه ، وكل صفة في عمر فهي صفة مستعصية لا وسط فيها . اذا آمن فذلك غاية الايمان ، واذا استقل فذاك غاية الاستقلال ، واذا أعجب فذلك غاية الاعجاب وان الظفر الذي يظفره علم الأخلاق من دراسته لمبعثه هذا الشاهد الصفات التي تتناقض في ظاهرها وهي على عهدنا بها في عشر ، متفقات متاندات لا تستغني واحدة منها عن سائرها 6 ... من ..
* *
فان لم يكن في دراسة عمر الا أن نرى رجلا عادلا بالغا في عدله ، قويا بالغا في قوته ، معجبا بالبطولة بالغا في اعجابه ، مستقلا بالرأي بالغا في استقلاله ، لكفى بذلك ظفرا لعلم الأخلاق ، وكفى بسيرة واحدة أن تقرر لنا هذه الحقائق التي تستكثر على عشرات السير ، وهي أن القوة لا تناقض العدل ، وان البطولة لا تناقض الاعجاب ، وان الاعجاب لايناقض الاستقلال ، وتلك الحقائق أثبت في عمر من معارف بدنه وملامح سیماه وكانت مودة النبي لعمر کودة عمر للنبي شرفا له من جانبيه ، وشهادة لعظمته وعظمة معلمه ومؤدبه وهاديه كانت نظرة محمد اليه نظرة عالية لا تعلوها نظرة أحد من أصحابه فلم يكن أحد يكبر كما كان يكبره عارفيه ، ولم يكن رضاه عن (1) أي تظهر : (۲) أي مصادرها أو أسبابها والغاية منها عمر . [152]- هاست ويروضه مخالفاته ومراجعاته بأقل من رضاه عن موافقاته وتسليماته .. لأنه كان ينظر الى بواعث هذه وتلك فيحمدها و يرجو للاسلام خيرا منها ، بل یادخر للاسلام سورته كما يدخر له تسليمه وطاعته ، ويسوسه في رفق وكرامة سياسة المعلم لتلميذه الذي يعينه ويستعين بغيرته رياضة الامام لمريده الذي يهيئه للامامة بعد حين ، وشجعه بقبول الحسن من رأيه تشجيع سمح شيت فيه حسن الرأي وسنزيده منه . ولا يتأتی أن ينظر النبي الملهم الى عمر دون أن يرى فيه أولى مشابهاته للطبائع النبوية وهي الالهام الديني والبصيرة الروحية . فكان عليه السلام يقول فيه : « قد كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء. فأن يكن في أمتي أحد فعمر » و من قوله في بعض ما نقل عنه عليه السلام : « لو كان بعدی نبی لكان عمر بن الخطاب » وقوله : « ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه » ... وقوله : « عمر بن الخطاب معي حيث أحب ، وأنا معه حيث يحب ، والحق بعدی الخطاب حيث كان ) . وتلك لمحات نبي ملهم الى بصيرة ملهمة تقارب بصيره الأنبياء وان في هذه اللمحات لمعرفة بالنفس ونفاذا الى الضمير ، من أجلها كان محمد مصلح نفوس وهادي ضمائر ، وفاتح عهد في تاريخ الإنسان ومن تحصيل الحاصل أن نقول ان محمدا أحاط بكل فضيلة من فضائل عمر وكل خليفة من خلائق طباعه . وراقبه قبل اسلامه وبعد اسلامه فلم تفته كبيرة ولا صغيرة من مواطن العظمة فيه ، الا أنه لم يحمد منه شيئا كما حمد حبه للحق وكراهته للباطل ، فهي الخصلة التي تلاقيا فيها وتقاريا قبلها ، وان كان محمد الأرحبا صدرا وأعلم بالناس من أن يكلف صاحبه أن يشبهه كل الشبه في علاج الحق والباطل ، فلا بد من فارق بين الرجلين هو الفارق الذي لابد منه بين المعلم والمريد ، وبين الامام والمأموم . ولا نخالنا نلمس هذا الفارق كما نلمسه من قصة الأسود بن شريع عمر بن 6 روحی من [153]سوهام هذا الذي هذا رجل لا يحب عمر ... . . اپ ذلك الشاعر الذي كان ينشد النبي بعض الأماديح فاستنصته مرتين اذ دخل عليهما عمر والشاعر لايعرفه . فصاح : وا ثكلاه ! .. من أمسكت له عند النبي ?.. فقال النبي : « هذا . الباطل » وتلك قصة تكبر عمر مرة وتكبر النبي مرات ، فلا يسمعها السامع فيخطر له أن محمدا كان يقبل الباطل الذي يأباه عمر . أو كان يهوى اللغو الذي يعرض عمر عن سماعه وانما يسمعها فيعلم أي الرجلين يهدى صاحبه في مناهج الحق ويدربه على كراهة الباطل ويعلم أن الأمام بطيق ما لا يطيقه المريد ويتسع صدره لما تضيق به صدور تابعيه ، وان محمدا أراد أن يعود الناس مهابة عمر ، وأن يستبقى لعمر سورته في محاربة الضلال ، والأيام كفيلة بترويض تلك السورة فيما ينبغي أن تراض عليه وهنا يتجلى مذهبان في كراهة الباطل ، ويتجلى فارق واضح بين مذهب المعلم ومذهب المريد : فعمر كان ينكر الباطل انکار المحارب ويرفع له سلاحه حيثما رآه ، ومحمد كان ينكره ولا يرفع له سلاحه حيثما رآه لأنه يعلم ضروبا من الباطل وضروبا من الانکار ومن الانكار أحيانا أن يتجاوز عنه ، وأن يشفق عليه اشفاق الرجل علی سخف الطفل الصغير ، وأن يتربص" به الأيام حتى يزول وأن يعالجه بسلاح المحارب وبغير سلاح المحارب ، وهو بذلك قد أعد له ضروبا من الانكار ، وكان أكمل عدة له من الراصدين له في ميدان واحد أنقول:ان الفارق بين محمد وعمر في هذا هو الفارق بين نبي وخليفة ! ? ان قلنا ذلك فقد قلنا حقا جامعا لا شبهة فيه ، ولكنا لا نعدو به تحصيل الحاصل وتكرير الأسماء ... فمحمد نبي وعمر خليفة بما في ذلك خلاف ولا بد بينهما من فارق ما في ذلك خبر جدید . فما الفارق الذي لا يعدو تكرير الأسماء أو تكرير الصفات { .. (1) اي طلب منه أن ينصت ویسکت (۲) : الانتظار ۰ (۳) الضرب الصنف . (4) الراصد للشيء : الراتب له •
(1) . هو وو هنا بمعنی [154]۱۰۹ الأدوائها 1 6 الفارق فيما نرى هو الفارق بين انسان عظیم ورجل عظيم فالنبي لايكون رجلا عظيما وكفي ، بل لابد أن يكون انسانا عظيما فيه كل خصائص الانسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء ، وتهيئه للفهم عن كل جانب من جوانب بنی آدم . فيكون عارفا بها وان لم يكن متصفا بها ، قادرا على علاجها وان لم يكن معرضا " شاملا لها بعطفه وان كان ينكرها بفكره وروحه . لأنه أكبر أن يلقاها لقاء الأنداد ، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة ، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء ، لأنه يملك مثلها آفاقا كافاقها ، هي آفاق الروح ومن الصغائر الآدمية التي كثيرا ما يطيقها الانسان العظيم ، ويبرم بها الرجل العظيم كل غرور صبياني يحي بنفوس الناس ، وهو ضروب ليست لها نهاية . غرور الشاعر بأماديحه ، وغرور الفنان بصنعته ، وغرور المرأة بجمالها ، وغرور الشيخ بتراثه ، وغرور الأحمق بخيلائه ، وغرور الجاهل بعلمه وفي كل ضرب من هذه الضروب كان بين محمد وعمر فارق واضح و تفاوت محسوس، وكانت بينهما دروس تجري بها الحوادث تعليما وهدي كما تجرى عرضا غير ظاهر فيه قصد التعليم والتلقين وعمر رضي الله عنه قد استفاد من دروس معلمه وهاديه في هذه الضروب شتى الفوائد ، كما ظهر من سياسته في أيام خلافته ومن مراجعة نفسه والنبي عليه السلام بقيد الحياة فقد أشار على النبي بقتل عبد الله بن أبي بن سلول حين مشي بالفتنة بين المسلمين . فأبى النبي وترك عبد الله يمضي في شططه حتی أنكره قومه وعنفوه ، وتصدی صلبه من يريد له الموت ، فقال النبي لعمر من شأنهم : كيف ترى یا عمر .. أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ، قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة أمري وكان عمر يستكثر صلاة النبي على عبد الله بن أبي بعد موته (1) أي لامراضها (۲) جمع ند ، وهو : المثل والنظير (۳) حالك الشيء في صدري : رسخ (4) : مجاوزة القدر في كل شيء من حين بلغه ذلك 6 من . [155]ويستعظم أن له من بلسانه کما قميصه وأن يكفنه أهله في ذلك القميص ، وكان النبي يرعى في ذلك حق ابنه الذي أخلص في اسلامه وبلغ من اخلاصه أنه اقترح على النبي قتل أبيه ، وسئل النبي كما جاء في بعض الروايات : لم وجهت اليه بقميصك وهو كافر ? . فقال : إن قميصي لن يغني عنه الله شيئا ، وانني اؤمل من الله أن يدخل في الاسلام كثيرا بهذا السبب ! .. فقيل: أن ألفا من الخزرج أسلموا لما رأوا زعيمهم يطلب الاستشفاء بثوب الرسول ، وخرجت الصحابة وعمر في طليعتها بعبرة باقية هذا الدرس النبوي الحكيم . وشبية بدرس عبد الله بن أبي درس الخطيب المنوه : سهيل بن عمرو الذي أسر في بدر فأشار عمر على النبي بکسر ثنيتيه السفليين ليعجز عن الكلام ، اذ كان مشقوق الشفة السفلى ... فأبى النبي لا عسى أن يقوم مقاما لا تذمه ) فما زال وما زال عمر حتى رآه في حروب الردة يقطع يقطع السيف ، فحمد له ذلك المقام . وجاء الفتح بعد صلح الحديبية ، فرأي كما رأى المعارضون معه أن قريشا خسرت ولم تربح بالصلح الذي عارضوه ، وان المسلمين ربحوا ولم يخسروا بقبوله . وانهم زادوا عددا وزادوا حلفاء من غير المسلمين ، وان الذين رفضهم النبي من تابعيه عملا بالصلح لم ينفعوا قريشا بل كانوا بلاء القتال . وبدا ذلك مبدأ الأمر لعمر فاعتبر به وقال : « ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا » وتجتمع خلاصة هذه الدروس كلها في خبر واحد من أخبار عمر بعد ولايته الخلافة : وذلك حين بلغوه فتح « تستر » وذكروا له أن رجلا ارتد عن الإسلام فقتلوه ، فلامهم على قتله وقال لهم : « هلا أدخلتموه بیتا وأغلقتم عليه وأطعمتموه كل يوم رغيفا فاستتبتموه .. اللهم اني لم أشهد ولم آمر ولم أرض اذ بلغني » تلميذ محمد في الاسلام ، وهذا عمر شاهده دروس ابن سلول عمر بلاء عليها أشد . يومئذ من
4 فهذا عمر [156]۱۰۸ ومن على شاكلته المنافقين والمشركين ، وهذا عمر المستفيد بما وعی تلك الدروس ، ومعنید ذلك جميعه أن محمدا أعظم من عمر ، وليس لم يكن بعظيم معناه أن عمر
* *
ما ). ("). .. ومن تحصيل الحاصل أن نقول أن النبي عليه السلام کان يعلم يحتاج اليه صاحبه وما يستغني عنه من الدروس . فسر لم يعوزه قط درس قوي يعلمه حب الحق وكراهة الباطل لأنها خليقة متمكنة منه أصيلة فيه موشوجة بطبعه ، ولكنه قد يعوزه حينا بعد حين أن يتعلم الصبر على الباطل ولا سيما في فوعة الشباب ، وألا يأسي على الحق ان تفوته معركة زائلة في صراعه الدائم مع خصمه القديم ، فهي معركة لا تضيع بصدمة ولا تؤخذ بهجمة . ولا تزال سجالا منظورة العواقب في ساعة النصر وساعة الهزيمة على السواء ! .. وربما أعوزه ما يعوز الأقوياء في معظم الأحايين ، وهو أن يذكروا أن الناس جميعا ليسوا بأقوياء ، وأن الناس جميعا ليسوا بعمر بن الخطاب . فاذا استطاع عمر أن يمنع الخمر مرة واحدة ، فقد يشق ذلك على آخرين واذا استطاع أن يتصدى للموت في كل لحظة فليس ذلك في وسع كل مسلم ، وقلما يستحضر الأقوياء هذه الحقيقة الا بعد تذكير وروية . أما على البداهة فهم يقيسون الناس على أنفسهم ويحسبونهم أهلا لا هم أهل له وكفؤا لما هم قادرون عليه ، ولهم من الشرف في نسيان هذه الحقيقة فوق ما لهم من الشرف في تذكارها ودوام استحضارها . وقد كان تفكير كله على البداهة في عهد النبي عليه السلام ، فكان يفضي إليه بما يوحیه عفو خاطره وتمليه بادرة فكره ، مطمئنا الى مرجع الرأي ومقطع القول بين يديه ، شاعرا بواجبه الأول أحسن شعور في هذا المقام : ، لأنه شعور الرجل الكريم الذي لا يضن بشيء من عونه فهو يعرض أقصى ما عنده لصاحب الأمر أن يكتفي باليسير منه اذا شاء ، ولكن ليس عليه هو أن يعرض اليسير ويترك لصاحب الأمر (1) أي موصولة (۲) أي أول الشباب عمر 6 ۵ من البأس ويدع . [157]اهم .. (1) مثل عمر أن يطلب الكثير في هذه المواقف مثل صاحب المال : تنزل الضائقة الحازبة فيبسط ما عنده من المال جميعا ويدع للوالي القائم بالتدبير أن يختار ماله مقدار ما يريد ، وذلك أفضل الحسنيين وأكرم الواجبين ، وهو الواجب الذي يليق بثمر في صحبة الرسول .. ولا يحسبن قاریء اننا نعتسن التأويل والتخريج لننظر الى عمر في أجمل الصور ونوجه أعماله أحسن توجیه . فما نقوله هنا لا يعدو تفسير عمر نفسه لما اتصف به من الشدة في عهد رسول الله وتفسيره ، كما قال غير مرة أنه كان سينا للرسول ان شاء ضرب به وان شاء أغمده في قرابه ، وانه كان جلو از القائم بين يديه ، وليس من شأن الجلو از أن يمسك كثيرا أو قليلا من بأسه حتى يؤمر بامساکه ، ويرد الى الهوادة واللين بل هدا الذي نقوله هو الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه في شدة عمر ولينه ، فكلما تحدثوا اليه بغلظته قال : انما يشتد لأنه پرانی لینا ، ولا غلظة على الضعفاء فيه . فكان جميلا أن تلك الحقيقة ، وأن يحتاج فيها الى تذكير واستحضار ، و كان أفضل واجبيه لا مراء أن يعرض البأس حتى یوبی"، ثم يتوب إلى اللين ولا جناح عليه وهو اليقين الذي لا يخامرنا الشك فيه أن كان خليقا ان يفهم تلك الحقيقة بتفصيلاتها لو جعل باله اليها ولم يجعل باله الى تقديم ما عنده « والجود بأقصى جوده » في انتظار القول الفاصل من رأی النبي عليه السلام ، ولولا استعداده لفهم تلك الحقيقة وما شابهها لما انتفع بالقدرة ولا أغنت معه المثل والتجاريب ومهما يكن من حاجته الى دروس معلمه وهاديه فالذي نعتقده أن مكانه الخلافة لم تقرره الحاجة الى تلك الدروس ، لأن الصحابة كلهم على حكم واحد في هذا الاعتبار سواء منهم الخلفاء الراشدون وغير الخلفاء الراشدين . فما من رجل كان بين أصحاب محمد عليه السلام الا (۱) حزبه الامر : نا به واشتد عليه . (۲) المسف : الأخذ على غير الطريق • (۳) الجلواز : الشرطی • (4) يرفض بعمر لسهو عن . عمر [158]-۱۹۰ وواضح مع كان مفتقرا الى جانب من جوانب هدیه وتهذيبه وتقويمه ، وما كان عمر على التخصيص بأشد افتقارا إلى ذلك من رفاقه وتابعيه وان اختلف ما يعوزهم من مو مواضع الهدى ، والتهذيب ، والتقويم هذا أن دعوة النبي عليه السلام أبا بكر للصلاة بالناس في مرض وفاته لم تكن بالمصادفة ولا بالاختيار الذي يتساوى فيه أبو ، فقد دعاه ثم دعاه حتى وصل الأمر اليه رضي الله عنه فلباه ، وتفصيل ذلك كما جاء في رواية البخاري أن النبي اشتد عليه المرض فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة رضي الله عنها : أن أبا بكر رجل رقیق القلب اذا قام في مقامك لا يكاد يسمع الناس من البكاء .. فلو أمرت عمر ?.. فعاد النبي يقول : مروا أبا بكر فليصل ! .. فعاودته ، فقال مرة أخرى : مروه فليصل .. انكن صواحب يوسف ! ».. بكر وعمر في ذلك المقام : .. . شهری عمر عمر وحدث عبد الله زمعة أن بلالا دعا النبي إلى الصلاة فقال : مروا من يصلي بالناس , فخرجت فاذا في الناس ، وكان أبو بكر غائبا فقلت : قم يا عمر فصل بالناس ، فقام ، فلما كبر سمع رم رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتا وته ، وكان رجلا مجهرا. فقال : فأين أبو بكر ? يأبى الله ذلك والمسلمون . فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلی تلك الصلاة فصلي بالناس » قال عبد الله بن زمعة أن عمر لقيني فقال لي : ويحك ! .. ماذا صنعت بی یا ابن أبي زمعة ? .. والله ما ظننت حين أمرتني الا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك ، ولولا ذلك ما صليت بالناس ... قلت : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ! .. ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة كلتا الروايتين أن النبي عليه السلام قصد الى اختيار أبي بكر للقيام في مقامه امامة المسلمين وضمن ذلك ما ضمنه من معنی (۱) مجهرا : اي عالي الصوت والواضح من [159]أننا لا الاستخلاف والتقديم فعلى أي وجه تفهم هذا الاختيار الذي صدر عن قصد وروية ولم يصدر عن مصادفة وأتفاق ؟ .. وعلى أي وجه تساءل النبي عليه السلام حين سمع صوت عمر ولم يسمع صوت أبي بكر فقال : « يأبى الله ذلك و المسلمون » ? ذلك إلا على وجه واحد يجمل بمحمد ويجمل بأبي بكر ويجمل بعمر ويجمل بالمسلمين فمن البديه أن ينظر النبي في اختيار خليفته الى جميع الاعتبارات التي تدخل في الحسبان ، ولا يقنع بالنظر إلى اعتبار واحد فاذا نظر النبي الى جميع الاعتبارات فأي غضاضة على عمر أن يقع الاختيار على أبي بكر ولا يقع عليه ? .. أن اختيار أبي بكر يجمع للاسلام فضائل الرجلين ، ولا غضاضة فيه على أحدهما ولا على المسلمين . ولكن الغضاضة أن يتأخر أبو بكر وهو سن وأسبق الى الاسلام وثاني اثنين في الغار ، وأقمن أن تبطل حوله منافسة الأنداد ، وله الرأي الصائب والشجاعة المأثورة والايمان الثابت والمسالمة المرضية والحق الظاهر في الايثار كلما قوبل بغيره من الحقوق ومع هذا الرجحان الذي انفرد به أبو بكر ترجيح آخر لاستخلافه في الموقف الذي كان منظورا بعد موت النبي عليه السلام ، وهو موقف رضى ومسالمة بين المسلمين يغنيان اذا جرت الأمور في مجراها الطيب المأمون . فاذا تأزمت واضطريت وتقدت حيلة اللين حتی نبذه أبو بكر في رفقه وهوادته فذلك اذن موطن الإجماع ، واذا صلب غيره واجتمعت كلمتهم على الصلابة ولم يبق من يلين في الأمر سواه فصلابتهم أقمن اذن أن تنعطف بلينه الى الاجماع الذي لا شذوذ فيه فالنبي عليه السلام قد حسب للعواقب كل حساب ، وقد نظر في استخلافه الى كل اعتبار ، وقد وازن بين أمور كثيرة ولم يوازن بين صاحيين ليس بينهما محل للتنافس والملاحاة (1) أي أجدر ۰ (۲) : ألقاه . 4 6 (). . [160]۱۹۲ 6 4 عمر حسین ومما نظر إليه عليه السلام أن عمر أصغر من أبي بكر بعشر سنوات أو نحو ذلك ، فدور أبي بكر لا يحجب دور عمر ، واذا اتنفع الاسلام بمزايا أبي بكر في حينها الذي هو أحوج اليها فسينتفع الاسلام بمزايا في الحين الذي يتولاه فيه ، يوم تغني الصلابة في مدافعة الأعداء ما أغناه الرفق في تأليف الأوداء. ولا قارىء هنا أيضا أننا نستخلص النتائج من التاريخ وندرك ما كان أن كان ، فالواقع المنصوص عليه أن الذي رأيناه بعد وقوعه قد كان منظورا اليه قبل أن ينكشف عنه الغيبا . وقد نظر اليه النبي عليه السلام فقال : أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قلبي فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزءا ضعيفا ، والله يغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا يفرى فرية حتى روى الناس وضربوا بعطن ». ولم يخف معنى هذه الرؤيا على معبريها لأنها
لا تحتمل غير تعبير واحد ، وهو الذي أشار اليه الشافعي رحمه الله فمسر ضعف النزع بقصر المدة وعجلة الموت والاشتغال بحرب أهل الردة عن « الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته » (4) (1) ويجوز أن النبي عليه السلام قد أدخل في حسابه تقديرات أخرى من هذا القبيل لا يحيط بها أبناء عصره ولا نراها نحن في عصرنا . فلهذه المسائل في العصور نواحيها الموضعية ونواحيها الخاصة التي لا يدركها كل من عاش بينها ولا يتأتي نقلها بالكتابة والتدوين . ومتى كانت هذه التقديرات التي فصلت في مسألة الترشيح للخلافة ، فأي غضاضة فيها على عمر .. انها شيء لا يتناوله وحدد وليس لكفاءة أبي بكر ولا لكفاءته هو كل اليد فيه ، وان الذي حدث لا يعدو أن يكون موازنة بين أحوال ثم تقديما للصالح في تلك الأحوال ، أو هو موعد ومناسبة وليس، بتأخير حق وكفاءة ، فأبو بكر كفو للخلافة وعمر تأخير (۱): المحبين . (۲) أي بئر ۰ (۳) : الدلو المملوء . (4) انقلبت من حالها . (5) : الدلو العظيمة ، وعرق في العين يسقي لا ينقطع (6) : أتی بالعجب . (۷) ، المكان الذي تبرد فيه الابل حول الماء [161]کو للخلافة ، ولكن تقديم أبي بكر أصلح وأولى وأوفق لأحوال الزمن والكرامة الصحابة والمسلمين أجمعين وانك لتكونن على ثقة من حقيقة واحدة في رهط محمد تجزم بها وأنت آمن أن تخالف التاريخ فيما بطن وفيما ظهر وذلك أنه عليه السلام لم يبرم قط أمرا فيه غضاضة على أحد من أصحابه ، ولا سيما في مسألة الاستخلاف أو التقديم للامامة والصلاة بالناس ، فكل الذي حدث فيها فهو الذي يجمل بالنبي من تقدير وتدبير ، ويجمل بصاحبيه من ایثار وتوقير ، ويجمل بالاسلام من تمكين وتعمير ، وانتفاع بعمل كل عامل و اقتدار کل قدير
هذه العلاقة ويمثلون عمر بقی جانب من جوانب العلاقة بين النبي وعمر، لانسكت عنه لكثرة ما قيل فيه ، فضلا عن وجوب النظر فيه لأنه يتم العلم بتلك العلاقة ويزيدنا فهما لها واستقصاء المداها و اطلاعا على طريقة عمر في الموازنة بين الواجبات والشئون حيثما اشتجرت بين يديه ، ونريد به جانب العلاقة بين عمر وآل البيت وبين عمر وابني عم النبي الكبيرين على وابن عباس بعد انتقال النبي الى الرفيق الأعلى فالذين أولعوا في التاريخ بخلق القضايا والمخاصمات يقولون كثيرا في على صورة الرجل الذي كان يتحدى بني هاشم ويناجزهم مناجز لعصبية فيه عليهم . ولكنهم لايذكرون من الوقائع ما يعزز شبهة أو يرجح بظن في هذه الوجهة . وكل ما حفظته لنا أنباء العصر فانما تخلص بنا الى الخلاصة التي تجمل بعمر وتحمد منه . وهي الوفاء المحفل الذكرى النبي عليه السلام في آله وخاصة بيته ، والأمانة المحض لمصلحة العرب والاسلام مقدمة على كل مصلحة خاصة أو عامة ، وكل ما عدا ذلك لغو وباطل فعند تقسيم الأعطية كان لآل النبي النصيب الأوفي والمكان المقدم بين الصحابة . وكان لهم التفضيل في كل حق من حقوق المسلمين حسبما (۲) شجر بين القوم : اختلف الأمر بينهم ، واشتجر القوم : تنازعوا ۰ (۳) : المقاتلة • (4) أي يقری . (5) : الخالص (۱): أحكيه . [162]-۱۹سم بن عمر كان بينهم وبينه عليه السلام من رحم وقرابة ، وفضلهم عمر على أقرب الناس اليه في اللقاء والحفاوة ، فكان في بعض الأيام ينتظر الحسين بن علي رضي الله عنه فذهب اليه الحسين فلقى عبد الله في الطريق فسأله : من أين جئت ? .. قال : استأذنت على عمر فلم يأذن لي . فرجع الحسين ولم يذهب اليه ... ثم معاتبا وسأله : ما منعك تأتيني ؟ .. قال : قد أتيتك ولكن أخبرني عبد بره أنه لم يؤذن عليك فرجعت فعن ذلك على عمر وقال له : وأنت عندي مثله ? .. وأنت عندي مثله ? وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم ? .. لقيه عمر حسين أن عمر بن اله ?
عمر وکسا أصحاب النبي فلم يكن في الاكسية ما يصلح للحسن والحسين رضي الله عنهما . فبعث إلى اليمن فأنى لهما بكسوة تصلح لهما وقال حين رآها : الآن طابت نفسي ! .. وسافر إلى الشام فاستخلف عليا رضي الله عنه على المدينة وأخذ نفسه باستفتائه والرجوع اليه في قضائه متحرجا من دعوته اليه حين يحتاج الى سؤاله : استفتاه بعضهم في مجلسه فقال : اتبعونی ، وأخذهم الى على فذكر له المسألة فقال على : الا أرسلت الى ?.. قال عمر : أنا أحق باتیانك وكذلك كان يستفتى ابن عباس في الدين والأدب ولا يلقاه باحثا مسترسلا في الحديث الا قال له معجبا متبسطا : غص غواص ! .. وقلما سئل في أمر وابن عباس حاضر الا قال يشير اليه : شليكم بالخبير بها ولم يحجم عن توليتهم الولايات الا كما أحجم عن تولية الجلة من الصحابة ورؤوس قريش الذين أبقاهم عنده للمشورة وصانهم محاسبته وعتابه . وفي ذلك يقول لابن عباس . اني رأيت رسول الله صلی الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم والله ما أدري أصرفكم العمل أو رفعكم عنه وأنتم أهل ذلك ؟ .. أم خشي أن تعاونوا لمكانكم فيقع العتاب علیكم ، ولا بد عتاب ؟ (1) حفی ، حفاوة ، فهو حفي : أي بالغ من اكرامه ، والطافه ، والعناية بأمره • (۲) أي يكف ويمتنع • (۳) قوم جلة : أي سادة عظماء ذوو اخطار 0
عن عن منه من . [163]۱۹۰ 6 أما مسألة الخلافة فالذي يزعمه فيها الذين يخوضون في القضايا والمخاصمات أن عمر رضي الله عنه تعمد أن يحول بين على الخلافة بصرفه النبي عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يسط فيه وصاياه فلا يضل المسلمون بعده ، ويزعمون انه هو قد حال بين على والخلافة مرة أخرى يوم تركها للشورى ولم يستخلفه باسمه لولايتها واستكثروا من عمر صرامته في دعوة على الى مبايعة أبي بكر كما جاء في بعض الروايات التي ترجح صحتها ، وخلاصتها، أن عمر أتى منزل على وبه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن علیکم الدار أو لتخرجن إلى البيعة ، فخرج الزبير مصلتا بالسيف فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه ... » أو قال لهما في رواية أخرى : « والله التايعان وأتما طائمان أو لتبايعان وأنتما کارهان » فاستكثر المستكثرون هذه الصرامة ، وعدوها من اصرار عمر على الاجحاف بعلى واقصاء بنی هاشم عن الخلافة أما القول بأن . عمر هو الذي حال بين النبي عليه السلام والتوصية باختيار على الخلافة بعده ، فهو قول من السخف بحيث يسيء الى كل ذي شأن في هذه المسألة ، ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأى في المسألة مثل رأيه فالنبي عليه السلام لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصى بخلافة على أو خلافة غيره . لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من أو اشارة كالاشارة التي فهم المسلمون منها ایثار أبي بكر بالتقديم ، وهي اشارته اليه أن يصلي بالناس وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه ، ولم يكن بين على وبين لقائه حائل ، وكانت السيدة فاطمة زوج على عنده إلى أن فاضت تفسة الشريفة . فلو شاء لدعا به وعهد اليه ... هذا السكوت الذي لا اکراه فيه نرجع إلى كل سابقة من سنن النبي في تولية الولاة فنرى انه كان يجنب « (۱) فاضت نفسه : خرجت روحه .. كلمة تقال ، 6 وفضلا عن آله الولاية ويمنع [164]۱۹۹ (۲) من ہ وراثة الأنبياء » وهذه السنة هذا السكوت لايدلان على أن محمدا صلوات الله علبه أراد خلافة على فحيل بينه وبين الجهر بما أراد ولم يعتمد عمر على الشورى في اختيار الخليفة بعده وله مندوحة عنها . فقد رأی أصحابه كما قال ۔ حرصا سيئا وخلافا لايحسمه رأی واحد ، وكانت حيرته عظيمة ، بين الاستخلاف وترك الاستخلاف ، فلما قيل له وهو طعين يودع الحياة : ماذا تقول الله عز وجل اذا لقيته ولم تستخلف على عباده ، أصابته کابة .. ثم نكس رأسه طويلا ثم رفع رأسه وقال : « أن الله تعالی حافظ الدين . وأى ذلك أفعل فقد سن لی. ان لم أستخلف فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وان استخلفت فقد استخلف أبو بكر » . واختار للشورى في أمر الخلافة أناسا ليس بين المسلمين أولى منهم بالاختيار ، وكأنهم كانوا مسمين بأسمائهم لهذه المهمة لو لم يرشحهم هو، الرشحهم لها كل مختار ولم يكن الفكاك من التبعة هو الذي أوحى اليه أن ينفض يديه ويلقي بالعبء على عواتق غيره .. فعمر لاينجو بنفسه ليوقع أحدا فيما يحاول النجاة منه ، ولكنه قدر أن الرجل الذي تختاره كثرة المحكمين هو أولى أن ينعقد عليه الاجماع وينحسم بترجیحه النزاع . فمن خرج عليه فهو باغي فتنة يتبعها الإقلون ويردعها الأكثرون وكان هذا يود لو اجتمع الرأي على اختيار على بعد المشاورة ، فقال لابنه : لو ولوها الأجلح « أي المنحمر الشعر ا لسلك بهم فسأله ابنه : فما يمنعك يا أمير المؤمنين أن تقدم عليا ? .. قال أكره أن أحملها حيا وميتا وفيما عدا الاستخلاف بعد النبي ، والاستخلاف بعد عمر، فالسياسة التي جرى عليها عمر كانت كلها سياسة عامة قائمة على أساس عام لا تفرقة فيها بين بني هاشم وغيرهم ولا بين على وغيره (۱) أي سعة . (۲) أي بقطعه • (۳) أي التخلص الطريق .. [165]۱۹۷ ولم يكره ذلك . (۲) کان 6 6 6 فكان يكره أن تستأثر بالأمر عصبة دون غيرها بالغة ما بلغت منزلتها ، من بيت هاشم دون سائر البيوت بحجر على وجوه وقريش أن يخرجوا إلى البلدان الا باذن والى أجل ، وبلغه أنهم يشكونه فأعلن في الناس : « أن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونة على ما في أنفسهم ، الا أن في قريش من بضمر الفرقة ويروم"خلع الربقة ، أما وابن الخطاب حي فلا . إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة اتتشاركم في البلاد » وكان يزجر قومه بنی عدی كلما أحس منهم الطمع في خلافته لأنه واحد منهم ، فيصارحهم قائلا : « بخ بخ بنی عدی ! .. أردتم الأكل على ظهري ، وأن أهب حسناتي لكم ، لا والله حتى تأتيكم الدعوة وأن أطبق عليكم الدفتر ... » أى وان كتبتم في الاعطية آخر الناس ، وهو الذي أبي أن يختار ابنه للخلافة وقال للمغيرة بن شعبة الذي زين له استخلافه : لا أرب لنا في أموركم ، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتى ان كان خيرا فقد أصبنا منه ، وان كان شرا فبحسب آل رجل واحد » .. ! . عمر أن يحاسب منهم
I. وجمع عليا وعثمان في مجلس الشورى لاختيار الخليفة فالتفت الى على فقال : « اتق الله يا على ان ولیت شيئا ، فلا تحملن بنی هاشم علی رقاب المسلمين » والتفت الى عثمان فقال : « اتق الله ان ولیت شیئا فلا تحملن بني معیط على رقاب المسلمين ، أو قال : بني أمية وكان أكبر همه أن الاسلام من الملك الذي يستأثر به مستأثر الأناس دون أناس ، وكثيرا ما سأل : والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك 14 مستعينا بالله من كل سلطان لا وكلمته لابن عباس حيث قال : « إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، وان قريشا اختارت لأنفسها فأصابت و هي كلمته حيثما تكلم في هذا (1) أي جماعة • (۲) منع التصرف (۳) : سادتهم وعظماؤهم • (4) : يطلب ۰ (۰) : العروة في الحبل ، والمراد : الدين والخلافة . (6) أي لا حاجة يعم جميع رعاياه بالخير +++ + . [166]۱۹۸ 9 بن الصدد لا يخص بها بيتا دون بيت ولا معشرا دون معشر ولا قبيلة دون قبيلة .. الأمر الأمانة لمصلحة المسلمين جميعا ، حيثما اتفقوا عليها أو كان لهم رجاء في الاتفاق وما كانت العمر صرامة مع علي لم تكن له مع غيره في مأزق الخوف من الفتنة والذود عن الوحدة .. فقبل أن يسلم الروح کانت وصيته وهو لا يعلم من الخليفة بعده : « أن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبي واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وأن اتفق أربعة فرضوا رجلا وابي اثنان فاضرب رؤوسهما . فان رضى ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا فحكموا عبد شمر في الفريقين حكم له خليختاروا رجلا منهم ، فان لم يرضوا بحكم عبد الله فكونوا الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين أن رغبوا عما اجتمع عليه الناس » وما اختار ابنه عبد الله الفصل بين الفئتين المتساويتين الا لأنه خارج من الاختيار ، ثم لم يجعل له القول الفصل حتى يفتح للناس مخرجا من رأيه ان شاءوا ألا يتبعوه . ولن يقضي بأمثل من هذا القضاء في مأزق الفتنة أحد له قضاء عادل منزه عن خبايا القلوب بن عمر الحكم الذي فما اتخذ عمر من حكم بين الناس فهو الحكم الذي يجمل به ويحمد منه ولا ينتفع به قبل أن ينتفع سائر الناس . هو يعم ويعدل ولا يخص ويتحيز ، وهو الحكم الذي لو سئل فيه النبي سيد بني هاشم الأعاد فيه قوله : « عمر بن الخطاب معي حيث أحب وأنا معه حيث الخطاب حيث كان » 6 والحق بعدي مع عمر بن (۱) الذود : الدفاع •
تصنيف:
عبقرية عمر
===============
عُمر والصَّحابة
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عمر والصحابة
[167]
عمر والصحابة
بایع عمر فبطل الخلاف الا ما لا خطر فيه ر فبطل الخلاف الا ما لا خطر فيه وقد تواترت أقوال الصحابة في عمر بما يشيد بفضله ويشهد بقدره ويكبر في أعين الناس أكبر من تقال فيه .. لأن الذين قالوها أناس لهم حلوم"راجحة ، وألسنة صادقة ، وعقيدة راسخة ، وقلوب لا تهاب أن تقول الحق في انسان ، ولكن الشهادتين اللتين شهد بهما الواقع أدل على قدر عمر بين الصحابة من كل ما قيل . لأن شهادة الواقع الشهادة التي يقولها الصادق باختياره، ويحاول الكاذب أن يكذب فيها فلا يستطيع ، وانما يجوز الصدق والكذب فيما يملكه اللسان أو يسلكه الشعور ، أما الشهادة التي تعبر عن نفسها بلغة الواقع ، فهي قائمة وراء كلام الألسنة ومن وراء هوى النفوس : انكارها كانکار المحسوس الذي تقع عليه الأيدي ، ولا تغمض عنه العيون وقد انتهت مسألة الخلافة بعد النبي بسلام ولكن انتهاءها بسلام لا يعني انها كانت ستنتهي وحدها بسلام على أيه حال ، ولا يعني أنها انتهت لأنها من المسائل التي يؤمن فيها الخطر وتمتنع فيها الفتنة . اذ الحقيقة أن انتهاءها على هذا النحو قد كان أعجوبة من أعاجيب التاريخ ، مع ما يحيط بها من دواعي النزاع، و من كوامن القلق والخوف على غير سابقة يستقيم بها العرف وتضح بها معالم الطريق فما هو الا أن لحق النبي بالرفيق الأعلى حتى تخفزت دواعي النزاع كل فج، وتكشفت کوامن القلق والخوف من كل مكمن ، وجهل علم الناس كيف تنجلي الغاشية ويستقر القرار . (۱) جمع حلسم ، والحلم : العقل والاثاة ، والمراد هنا: العقول (۲) : الطريق الواسع بين جبلين y . 6 من لم تراجع: جديدة [168]۱۷.. 6 ale - = فالأنصار يقولون انهم أحق بالخلافة من المهاجرين ، لأنهم كثرة والمهاجرون قلة ، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم ، ولأنهم جميعا عرب مسلمون ولهم فضل التأييد والايواء والمهاجرون على قلتهم عير متفقين على اتفاق ينعقد به الإجماع ، وحجتهم الغالبة انهم السابقون الى الاسلام ومنهم جلة الصحابة الاونين وتسايرت الأحاديث بحق آل البيت النبوي في الخلافة النبوية ، وبين آله رجلان هما: على والعباس .. لو أصفيا الى هذه الدعوة ومضيا فيها التمخضت عن خطب عظيم وكأن هذه العصبيات لم تكف دعاة الخلاف حتى جاء أبو سفيان يزيدها عصبية أخرى بالمفاخرة بين أكبر القبائل وأصغرها في قريش . فدخل على عليه والعباس يثيرهما ويعرض عليهما النجدة والمعونة ، وهيب بعلي باسمه . ثم بالعباس باسمه : « یا على !.. وأنت يا عباس !.. ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها .. والله لو شئت لأملانها يعني أبا بكر - خیلا رجلا وآخذنها عليه أقطارها ) فيجيبه على بما هو أهله : « لا والله لا أريد أن تملأها عليه خيلا ورجلا ، ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه واياها »، ثم يبلغ به کرم النحيزة أن يؤنب أبا سفيان من طرف خفي على سعيه في هذه العصبية فيقول : « يا أبا سفيان !.. ان المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض ، وان المنافقين قوم بعضهم لبعض ، متخاونون وان قربت ديارهم وأبدانهم ولم تكن هذه العصبيات كل ما هنالك من دواعي النزاع وكوامن القلق والخوف . فقد كان هنالك منافقون أسلموا وهم راغمون، وكان هنالك ضعفاء من المسلمين يقفون على شفير من الفتنة لا يلبث أن مضطرب تحت أقدامهم حتى ينهار ، وكان هنالك أناس لا ينصرون ولا يخذلون ، فهم ان لم يفسدوا في الأرض لا يصلحون وبين هذه المخاوف والنوازع تنتهي مسألة الخلافة بسلام فيكون (1) : أتي بها (۲) : أي الطبيعة • (۳) : کارهون . (4) شفر الشي وشفيره : حده ، وناحية الوادي من أعلاه
! (۳) 6 [169]۲۷۱ من عمر انتهاؤها بسلام أعجوبة الأعاجيب . وتبحث عن سر هذه الأعجوبة أو عن سرها الأكبر فيغنيك فيها أن تذكر اسما واحدا هو اسم = عمر بن الخطاب الى أين كانت تلك الفتنة ذاهبة لو لم يقف في وجهها عمر وقفته المرهوبة السقيفة 4 سؤال يدلك على سر تلك العجيبة قبل كل جواب .. فما عثرف رأی في البيعة حتى بطل الخلاف الا ما لا خطر له . واطمان من يوافق ، وعلم يخالف أن خلافه لا ينفعه واجتمعت كلمة على مبايعة أبي بكر أوشكت أن تكون كلمات قال أبو بكر لعمر : أبسط يدك نبايع لك قال عمر أنت أفضل منی
قال أبو بكر : أنت أقوى مني قال ان قوتي لك فضلك . لا ينبغي لأحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار مع رسول الله ، وثاني اثنين ، وأمرك رسول الله حين اشتكي فصلت بالناس ، فأنت أحق الناس بهذا الأمر ووثب فأخذ بيد أبي بكر . فتوانب الجمع علية المحاية يبتدرون البيعة ، ثم كان الغد فجلس أبو بكر على المنبر وتكلم عبر بين يديه يقول للناس : « أن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثاني اثنين اذ هما في الغار ، وأولى الناس بأموركم ، فقوموا فبايعوا » فكانت البيعة العامة ، وتركت شجرة الخلاف لجفاف ، فان لم تذبل الساعتها فهي وشيكة ذبول بایع عمر قطعت جهيزة قول كل خطيب وذلك قدر عمر عند الصحابة ، وقدره عند أبي بكر ، وقدره عند الله ، تغني شهادة السرائر فيه عن شهادة كل كلام وفي تلك الكلمات الموجزات التي تبادلها الصديقان العظيمان خلاصة (۱) بدر إلى الشيء : أسرع • (۲) مثل عربي نصه : قطعت جهیزة قول كل خطيب ، ويضرب للبت في الأمر ، كتر فيه الرأي ، ودار حوله الخلاف، وجهيزة : اسم امرأة من عمر 6 و
(T) 1 + [170]۱۷۲ عمر
انك أفضل منی الك فضلك . قوة عمر عمري ? . تقد الناقدین و بحث الباحثين وحكم التاريخ في أبي بكر وعمر ، وفي موقفه الخلافة من بدايته الى منتهاه قال وقال أبو بكر : انك أقوی منی وقال عمر : آن قوتی صدقا غاية الصدق ، وجاملا غاية المجاملة ، وقضيا بالعدل والحكمة والاخاء . وتركا التاريخ يقول ما يقول ويسهب ما يسهبه ، ثم لا يزيد في فحواه كلمة على ما ضمنته تلك الكلمات الموجزات ولقد كان من أنه كان يراجع أبا بكر في خلافته حتى يرجع عن رأيه ، وكان من فضل أبي بكر أنهم يسألونه مستثيرين : والله ما ندری أنت الخليفة أم .. فيقول : هو لو كان شاء ! .. وكان فضل أبي بكر وقوة عمر جمعا لا يشذ عنه مكابر . ومن شن عنه فما له من فضل ولا قوة ينفعانه بل كان الرجلان على اختلافهما في المزاج كأنهما رجل واحد يراجع تفسيه بين الرأيين المختلفين ، حتى يستقر على أحدهما فاذا رأی لا خلاف فيه ، لأنهما يصدران عن عقيدة واحدة ويتجهان الى غرض واحد. فهما غير مفترقين الى أمد طويل وأعجوبة الاعاجيب في هذا الأمر موقف الرجلين من التي واجهتهما معا بعد موت النبي بأيام قلائل وهي مشكلة الردة ونكوص العرب عن أحكام الدين ، وحيرة الصحابة الكبار فيما يعامل به المرتدون وليس العجب أن يختلف أبو بكر وعمر في مشكلة كبيرة أو صغيرة ، وانما العجب هو نوع هذا الخلاف الذي لم يتوقعه أحد . فيخالف أبو بكر لأنه يجني الى الشدة والصلابة ، ويخالف عمر لأنه يجنح إلى اللين والهوادة .. ثم يلتفيان ولا يتعارضان فأبو بكر بأبي الا أن يحارب الدين منعوا الزكاة ويقول مصرا على هو . المشكلة الكبرى (۱) (1) أي رجوع (۲) يجنح: يميل [171]ويشارك عمر فاذا قوله : ( والله لو منعوني عناقا ) لقاتلتهم على منعها ) وعمر يقول له : « کیف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله الا بحقه وحسابه على الله 71 » في رأيه جلة الصحابة كأبي عبيدة الذي قال فيه النبي : د انه أمين الأمة ، وسالم مولى أبي حذيفة الذي قال فيه النبي : د ان سالم شديد الحب لله ، وأناس من هذه الطبقة في صحابة الرسول ويعود أبو بكر فيقول : « ان الزكاة حق المال ، وفيها تحارب بالحق . ثم يهيب بعمر : رجوت نصرنك وجتني بخذلانك !.. اجبار في الجاهلية وخوا في الاسلام ... بعمر يثوب الى شدته بعد أن أفرغ أمانة الراي كما قال : « ماهو الا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت انه الحق » وما أسهل أن يعرف الحق لمن يريد أن يراه ولا يغمض عينيه ارجلان هنا مختلفان ام رجل واحد .. قل هذا وذاك فالقولان مستويات . ما دمت لا تنسى ان الرجلين المختلفين معهما العقيدة الراسخة التي لا تفارقهما ، وطالما جمعت العقيدة شا على قلب واحد ، فضلا عن رجلين وانما كان يعيب عمر ان يعارض اذا كان في المسألة وجه واحد لا يحتمل المعارضة بحال ، فاما أن يكون لها وجه آخر یدیه و شرح حجته فالذي يعيبه ويضير الاسلام أن يكتم ذلك الوجه وأن ينطوي عليه صامتا في موقف البحث والمشاورة ، وهو الناصح الأمين و مسألة الردة قد كان لها وجه آخر غير الذي رآه أبو بكر رضي الله عنه ، وكان عمر خلیقا أن يرى ذلك الوجه الآخر لأنه موافق لمجمل ارائه في الحرب والسياسة . فقد كان بطيئا الى الحرب كما عرفنا عامة وصاياه ، وكان أبطأ ما يكون عنها اذا نشبت بين العرب أو المسلمين ، (1) : الأنثى من ولد المعز • (۲) أي عظماء • (۳) أي ضعيف . (4) أي جیو ( من (1)
علقت • [172]۱۷- لا شن عادة عمري وقد كان . (1) رأى الرأي فلم يحجم {۲} فضلك ). وكان جيش الإسلام بعيدا عن المدينة في غزوة الروم التي خرج بها أسامة ابن زید بعد قيام أبي بكر بالخلافة ، فالتريث إلى أن يستكمل الاسلام عدته ويسترجع الغائبين من جنده وجه غير ضعیف ، أو هو في أقل الأمر کمانه الأمير المسئول أن يطيع صاحب النعمة متی وجبت المناعة واستقر القرار ، فلا ضير إذن لا يألوه جهده معارضة حتى يتبين مذاهب الرأي على اختلافها ، ثم هو مستعد بقوته لمعاونته بأقصى ما استطاع ومثل هذا الرجل معارضته قوة فوق قوة وخير لا ضير فه و خليق بنا أن نفهمها على صوابها في مسألة الردة فنعلم بعد النظرة الثانية أنها دلائل قوته المعهودة وليست من فلتات الضعف فيه . لأنه أن يبديه ويشرح حجنه ، جريئا فيما رآه . وعلى هذا الدأب ظل عمر قوة لأبي بكر بموافقته ومعارضته على السواء. وأصاب فيما قال له يوم بایعه : « أن قوتی لك مع فکسب الاسلام خليفتين معا بتقديم أبي بكر للخلافة ، لأنهما لم يبغيا بالخلافة مأربأ غير خدمة الاسلام ثم بويع عمر بالخلافة فبطل الخلاف الا ما لا خطر فيه عرضها عليه أبو بكر فقال : لا حاجة لي فيها ، فقال أبو بكر : « ولكن لها بك حاجة يا ابن الخطاب ) ... وسأل خيرة أصحابه فقال له عبد الرحمن بن عوف : هو والله أفضل من رأيك فيه . وقال عثمان عفان : لا أن سريرته خير من علانيته ، وأنه ليس فينا مثله » وسأل أسيد بن الحضير فقال :.. اللهم اعلمه الخيرة بعدك ، يرضى للرضى ويسخطه للسخطه والذي يسر خير من الذي يعلن ، ولن يلي هذا الأمر أحد أنوی عليه منه » وأجمع المهاجرون والأنصار على تزكية عمر وتصويب أبي بكر في ترشيحه . ولعلهم لم يذكروا من مناقبه الا ما لا أقالني الله أن أقلتلك وتقدم الى ضرار بن الازور بضرب يكن قدح القادح ليخلف رأيه فيه : (1) يقال : فلتات المجلس : أي هفواته وزلاته • (۲) : العادة والشأن مطلبا وحاجة • (۳)
هو م [173]۱۷:- عن تزود من
عمر لأنه على عرفانه بالدنيا وعرفانه بالناس لا يجهل أن رجلا كعمر بن الخطاب في حزمه وصدقه لن يخلو من مبغض ، ولن يبغضه أحد لما يعيبه ويحول بينه و بين ولاية أمر المسلمين قال له وهو يعرض عليه الخلافة : « یا عمر ! .. أبغضك مبغض وأحبك محب . وقدما يغض الخير ويحب الشر ) . وان منهم من حذره شدة عمر وقالوا له : « انك كنت تأخذ على يديه ولا تطيق غلظته ، فكيف وهو خليفة ؟ .. وما أنت قائل لربك اذا سألك استخلافه علينا » ? .. فبلغ الصبر بالرجل الصبور مداه ، وأمر من حوله أن يجلسوه فجلس فقال لمن خوفوه الله وعمر « ابالله تخوفونني ؟
خان امركم بظلم . أقول : اللهم إني قد استخلفت على أهلك خير أهلك !) ولو شاء أبو بكر قال ان ما خوفوه من شدة لفضيلة فضائله التي قدمته عنده على غيرد . فقد خاف عليهم الفتنة ، وكان أكبر حذره الفتنة من أولئك الاعلام الذين يتبعهم الطعام". وليس لهؤلاء غبر عمر پرهبونه ويتقون الفتنة باتقائه ، فمن هنا وصاه فحذره د هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قد اتنفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم وأحب كل امرىء منهم لنفسه ، وقال له : و ان لهم الحيرة عند زلة واحد منهم فاياك أن تكونه واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ، ولك مستقيمين ما استقامت طريقك » . فالذين حذروه عمر انما رغبوه فيه ولم يحذروه منه ، لأنه أراد لهم من يخافونه ويستقيمون معه ، فكانت سيئته عندهم حسنة عند أبي بكر ورجاء في صلاح أمر الاعلام والطعام • فلما اتفق مدح المادحين ونقد الناقدين على ايثار عمر بالخلافة فرغ ابو بكر من مشورته وابرة الى الله ذمته ودعا بعثمان فأملى عليه : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث (۱) الطعام : أوغاد الناس ان تجی النفر من [174]۱۷۹ خلوا من الاسم = ه ه ...( 15, ومن الكافر ويوقن الفاجر ، ويصدق الكاتب : اني استخلفت عليكم بعدی ثم أخذته غشية فيكتب عثمان « عمر بن الخطاب » ولم يترك الكباب مخافة أن يذهب الموت بأبي بكر في تلك الغشية فيلج من بلج بالخلاف ، وله شبهة يحوم عليها وانه ليكنبها اذ أفاق أبو بكر فقرأ عليه ما كتب ، فكبر وأدرك ما وقع في روعة فحياه ودعا : « جزاك الله عن الاسلام خيرا : والله ان كنت لها لأهلا » ... ثم أتم الكتاب ثم بويع عمر بالخلافة باجماع لم ينعقد لخليفة قبله ولا بعده إلا أن تكون ورانة في دولة استقرت لها دعائم وثبتت لها أركان . فكانت شهادة الصحابة والمسلمين أجمعين بما هو أنطق من الالسنة والقلوب : بالبديهة التي لا تكذب في صادق ولا كذوب وجائز جدا أن يبدأ عمر خلافته وهذا رأى المسلمين فيه ، وأن يختمها آخر الأمر ورأيهم فيه على اختلاف ، اذ الحكم يخلق العداوات ، ويفتق) أسباب التباعد في الظنون والآراء . ويفتن صاحبه حتى يتبدل من حيث بريد ولا يريد . فشهادة أخرى من شهادات الواقع والبداهة أن فارق الدنيا والمختلفون فيه ينقصون، والمتفقون على حمده يزيدون : ثم هم يزيدون في حمدهم اياه وثنائهم عليه دخل زياد علي عثمان في خلافته بما بقى عنده لبيت المال ، فجاء ابن العثمان فأخذ شيئا فضة ومضى به . فبکی زیاد قال عثمان : ما يبكيك ؟ .. قال : أتيت أمير المؤمنين بمثل ما أتيتك به فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به أن ينتزع منه حتى أبكى الغلام وان ابنك هذا جاء فأخذ ما أخذ ، فلم أر أحدا قال له شيئا قال عثمان : « آن کان منع أهله وقرابته ابتغاء . واني أعطى أهلي وأقربائی ابتغاء وجه الله ، ولن تلقی مثل عمر . لن تلقی مثل . لن تلقی مثل عمر !.. ) وبكى على يوم موت ته ، فسئل في بكائه فقال : « أبكي على موت عمر (1) يلج : يدخل • (۲) حام الطائر : دار (3) الروع بالضم : العقل والقلب . (4) فتق الشې : (5) أي عددا - (۹) أي مقاما وقدرا . عمر فيد مه من عمر عمر .
. شقه •
و [175]۱۷۷ ان موت عمر ثلمة في الاسلام لا ترتق الى يوم القيامة ) وقال عبد الله بن مسعود : « کان اسلامه فتحا ، وكانت هجرته ثمرا ، وكانت امارته رحمة » وقال معاوية يوازن بين الخلفاء : « أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم نرده .. واما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها . وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا البطن » وقال عمرو بن العاص وهو يحدث نفسه : رله در ابن حنتمة . ای امریء کان !..) ولم يقل فيه قائل ، راض ولا ساخط ، الا ثناء كهذا الثناء بعد خلافة طويلة لو خرج منها بنصف الثناء لأرب" على الأمل في انصاف بنی الانسان (1) -
* *
وارتفع بهم ( ورعی عمر قدر الصحابة والتابعين كما رعوا قدره . إلا أنه كان مفضلا في هذا كما كان مفضلا في محامده وحسناته ، فإنه رعی اقدارهم وهو مستطیع ألا يرعاها ، وقليل منهم من كان قادرا أن يعمل معه غير ما عمل ، ويقول فيه غير ما قال جمع منهم مجلس المشورة لا يبرم أمرا ولا ينقضه الا بعد مذاكرتهم والاستئناس بنصيحتهم وسابق علمهم من مأثورات النبي وأحاديثه أن يكونوا أتباعا له فجنبهم ولاية الأعمال قائلا لمن راجعه في ذلك : « أكره أن أدنسهم بالعمل ، فسبق الدساتير العصرية بحسن تقسيمه وصادق حدسة وتدبيره : هم مجلس الأمة وليس لأحد من مجلس الأمة أن يلی عملا من أعمال الحكومة ، فهما في الدولة وظيفتان لاتجتمعان وقدم صغارهم على أعظم العظماء من رؤوس القبائل وقروم الجزيرة العربية . فحضر با به سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام وأبو سفيان في السادة ينقطع ندهم بين الكابرين ، وحضره معهم صهيب و بلال وهما مولیان فقيران ، ولكنهما شهدا بدرا وصحبا رسول (۱): الخلل . (۲): لا تلتئم . (۳) اسم أم عمر ۰ (4) : أي زاد • (9) أي يحكم : (٦) : الوسخ : (۷) : الظن والتخمين - (۸) : السيد • (۲) ابن حرب جمع من 2 الحائط . [176]-IYA (1) ان كنتم ولو غير عمر لا اه وتخلف من السابقين من .. فأذن لهما قبل علية القوم !.. وغضب أبو سفيان فقال لصاحبه : لم أر كاليوم قط ، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ؟ .. أما صاحبه نگان حکیما فقال : أيها القوم ! أني والله أرى الذي في وجوهكم ... غضا با فاغضبوا على أنفسكم . دعي القوم - الى الاسلام - ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم ، فكيف بكم اذا دعوا يوم القيامة وتركتم ? تقدم عنده صهيب و بلال .. ولا أمن أن يغضب عليه أبو سفيان وسهيل لكنه الحق فوق كل قدر عند هذا القسطاس الذي يعطي كل ذي قدر قدره حيث ينبغي له من تقديم وتأخير . فيقدم من يقدمه عمله ويؤخر من يؤخره عمله ، ولا عليه من غضب الغاضبين ولوم اللامين فلما ندب الناس الى غزو العراق فبادر اليه أبو عبيد بن مسعود حضر الدعوة من الصحابة ولاء قيادتهم وأبى أن يوليها رجلا المهاجرين والأنصار . وأجاب من راجعوه قائلا : « لا و الله !.. لا أفعل . إن الله انما رفعكم بسبقكم وسرعتكم الى العدو جبنتم وكرهتم اللقاء فاولى بالرئاسة منكم من سبق الى الدفع وأجاب الى الدعاء . والله لا أؤمر عليهم الا أولهم انتدابا » ثم دعا معه ابن عبيد وسبليطا بن قیس فأبلغهما « انكما لو سبقتما لوليتكما » والتفت الى أمير الجيش الذي اختاره فقال له : « اسمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعا حتى تبين ، فانها الحرب » هذا ما استحقوه .. فلا رجحان لهم الا بالحق ، ولا رجحان عليهم للحق ومن الحق الذي له الرجحان عليهم حق الأمة جمعاء وحق الأمان الذي الدولة ويوطد أركانها ، فاذا خيف على الدولة من بعضهم فأمان الدولة مفضل عليهم ، وحقها الأكبر مقدم على الكبير من حقوقهم . فربما حبسهم في المدينة لا يسافرون منها الا باذن والى أجل ، مخافة (1) أي سادتهم وعظماؤهم - (۲): الميزان ۰ (۳) أي يقوي فاذا ... الا . على [177]-۱۷ . الناس ومخافة عليهم من الناس . ويستأذنه أحدهم في غزو الروم والفرس محتجا بسابق جلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيتخذ سابق هذا البلاء حجة عليه يذوده بها عن السفر ، ويقول له : د ان لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك ويبلغك ، وبحسبك ، وهو خير لك الغزو اليوم ، ، وان خيرا لك ألا ترى الدنيا ولا تراك »
يجور ، و كانه { . على هذا الوجه وحده ينبغي أن نفهم كل علاقة كانت بين عمر وبين أحد من أكابر الصحابة والتابعين ، فهو القسطاس الذي لا لا يعرف الجور لو شاء . بل على هذا الوجه وحده تفهم كل علاقة بينه وبين أحد عامة المسلمين ، فلكل رجل حقه ولكل عمل حقه ، ولا ضير على أحد أن يتأخر قدره ويتقدم عمله ، ولا ينفع أحدا أن يتقدم قدره ويتأخر عمله ، فتكل عمل وله حساب ، وكل قدر وله كرامة ، وأكبر الصحابة خليق أن ينزل منزلة المرءوسين لمن سبقهم إلى العمل النافع ، وأصغر الناس خليق أن ينال جزاءه الحسن اذا استحقه ، وكل قطاس غير هذا القسطاس فانما بفارقه الحاكم لظلم أو لخوف ، وليس هذا ولا ذاك سبيل الى عمر ، لأنه عادل ، ولأنه لا يخاف ، واذا وقع ما يخافه غيره فهو ضليع بالتبعات على هذا الوجه وحده ينبغي أن نلتمس التأويل في محاسبات عمر ومعاملاته أذا وقع منها ما يحتاج إلى تأويل ، وقل في محاسبات عمر ومعاملاته ما يحتاج اليه ، لأنه كان يحاسب نفسه قبل أن يحاسب غيره ، وحسابه لنفسه أعسر من حسابه للآخرين ففي محاسباته للقادة والولاة من كبار الصحابة لم توضع في موضع التأويل الكثير والمناقشة الحادمة كما وضعت مسألة خالد بن الوليد رضي الله عنه ... ولا يعقل أن تكون هذه المسألة شذوذا عن القادة والولاة ، لأن الذي صنعه فيها عمر هو الذي كان منتظر أن يصنعه ، (۱) أي يدفعه ويرده . (1) أحدقت النار : اتقدت وازدادت اشتعالا مسألة [178]عزل عمر خالدا وهو لابد لخالد بن . سواء كان القائد خالدا أو كان رجلا غيره وهذا الذي ينفي الشذرة والحين، أو بنفي المعاملة الخاصة التي تكيل للناس بكيلين وتزن لهم بميزانين ، وتنظر اليهم بنظرتين مختلفتين سیف الاسلام وبطل الجزيرة والشام ، واذا كان الوليد من عازل أو قاض عادل ، فلن يكون عازله وقاضيه غير عمر بن الخطاب هو على قدر عزله بلا مراء ، وهو قدر كبير .. فقال اناس انها منافسة الند للند والشسية للشبيه ، وقال أناس عزله الغير خطأ أتاه ، وقال اناس إنها ترة قديمة ولولاها لما كان الخطأ الجديد بمستوجب عزله ، وحرمان المسلمين من بأسه وجهاده .. والذين ظنوا هذه الظنون لهم شبهات من ظواهر الأمور تخيلها لهم وتقربها إلى حدسهم . لأن المشابهة بين عمر وخالد كانت مشابهة خلق وخلق توحى الظن بالتنافس والملاحاة ، وكانت مشابهة خالد لعمر في خلقته تلتبس على بعض الناس فيكلمون عمر وهم يحسبونه خالد بن الوليد فمن شاء أن يخبط بالظن فله أن يحسب أن قد عزله لغير يستوجب عزله ، لأن عمر نفسه قد صان على القائد الكبير كرامته وأمسك عن الخوض في أمر عزله بعد الفراغ من ضجته الأولى ، وكتب الى الأمصار يبرئه من الخيانة ويعلنهم: « انه لم يعزله لسخطة ولا خيانة ، ولكن الناس فتنوا به ) ... قال : « فخشيت أن يوكلوا به ویتنوا ، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع ، وأن لا يكونوا بعرض فتنة » ولما سأله خالد في ذلك قال له : « ان الناس افتتنوا بك فخفت أن تفتتن بالناس » فمن شاء أن يخبط بالظن هنا فقد يخبط ما شاء وله شبهة فيه ، ولكنه يرجع الى الوقائع من قديما وحديثها حتى تسقط شبهاته بين يديه لم يحاسب خالدا بمیزان غير الذي حاسب به جمیع القادة والولاة ، وأن المدهش الحق أن يبقيه في الولاية والقيادة بعد ما اه (۳) مگر سبب ريوقن أن عمر (1) أي الجور والظلم : (۲) أي ضغينة . (۲) أي يضرب [179]۱۸۱ عمر على خالد عمر
أخذه عليه ، لأنه حينئذ يكون قد وزن بميزانين وکال بكيلين والذي أخذه بعضه الى أيام النبي عليه السلام ، وبعضه الى أيام أبي بكر رضي الله عنه ، وبعضه إلى أيامه ، وكله مما يصح أن يؤخذ به في موقف الحساب ، وان كان الذي حدث في أيام ع وحدها كافيا لما قضاه في أمره فنی فتح مكة نهى رسول الله خالدا القتل والقتال ، وقال له وللزبير : « لا تقاتلا الا من قاتلكما . ولكن خالدا قاتل وقتل نيفا) وعشرين من قريش وأربعة من هذيل ، فدخل رسول الله مكة فرأی امرأة مقتولة فسأل حنظلة الكاتب : من قتلها ?.. قال : خالد بن الوليد . فأمره أن يدرك خالدا فينهاه أن يقتل امرأة أو وليدا أو عسيفا - أي أجيرا وبعث اليه من يسأله : ما حملك على القتال .. فاعتذر بخطأ الرسول في تبليغه ، وشهد الرسول على نفسه بالخطأ فكف عنه . ثم بعث رسول الله خالدا إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال ، وأمره ألا يقاتل أحدا أن رأی مسجدا أو بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا . فأمر بهم خالد فكتفوا. ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم ، وأفلت من القوم غلام يقال اله السميدع حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكا اليه . فسأله رسول الله : هل أنكر عليه أحد ما صنع .. قال : نعم ، رجل أصفر ربعة" ورجل أحمر طويل وكان عمر حاضرا فقال : أنا والله يا رسول الله أعرفهما ، أما الأول فهو ابني ، وأما الثاني فهو سالم مولى بني حذيفة. وظهر بعد ذلك أن خالدا أمر كل من أسر أسيرا أن يضرب عنقه ، فأطلق عبد بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما ... فرفع رسول الله يديه حين علم ذلك وقال : « اللهم أني أبرأ اليك مما صنع ثم دعا علي بن أبي طالب وأمره أن يقصد إلى القوم ومعه ابل وورق فردی الهم الدماء وعوضهم من الأموال وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه وجه خالدا إلى بعض أهل الردة (1) النيف : الزيادة ، وكل ما زاد على العقد فهو نيف • (۲) لیس بالطويل ولا القصير ۰ (۳) الدراهم المضروبة · (4) أي دفع الديات أذانا ، ثم وضع و و O 4 اله خالد ) ... (۳) (1) ا . [180]۱۸۲ مالك أنه أراد قتلهم هو الذي r يدعوهم إلى أحكام الإسلام أو يقاتلهم حتى يثوبوا اليها . فعزم على المسير إلى مالك بن نويرة ولم يأمره الخليفة بالمسير البه . وأحجم الانصار ينتظرون أن يكتب اليهم الخليفة بما يراه ، وقال خالد : « قد عهد إلى أن أمضي وأنا الأمير ، ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت ان اخلمته فاني لم أعلمه ، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد الينا لم ندع. أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، فأنا قاصد الى ومن معي من المهاجرين والتابعين ولست أكرههم ثم جاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن بر بوع فاختلفت السرية فيهم : يشهد قوم أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا ، ويشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء . فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم في ليلة باردة . وأرسل فيما قيل مناديا ينادی : ادفنوا أسراركم ، فظن القوم لأن أداء الأسرى كناية عن القتل في لغتهم ... ويروى أن مالكا قال لخالد : ابعثنا إلى أبي بكر فيكون يحكم فينا . فلم يجبه خالد الى طلبته وقال له : لا أقالني الله ان أقلتك ، وتقدم إلى ضرار بن الازور يضرب عنقه . وتزوج بامرأته في الحرب وهو أمر تكرهه العرب وتعايره . وقد أبلغ الخير عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر : أن سيف خالد فيه رهق). فاعتذر له أبو بكر بأنه « تأول فأخطأ » وودي مالكا واستدعى خالد اليه قدم خالد فدخل المسجد ، وعليه قباء ، وفي عمامته أسهم غرزها للمباهاة فقام اليه عمر فنزعها وحطمها وقال له : قتلت امرءا مسلما ثم نزون" امرأته .. والله لأرجمنك بأحجارك ! .. وكان أبو بكر رضي الله عنه همه بعزل خالد لاستئثاره بتصريف المال الذي في ولايته فسأل عمر : من يجزيء جزا خالد .. فندب شمر نفسه ليخلفه ان لم يكن بد من ذلك ، وتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار ، لولا أن مشی اصحاب رسول الله إلى أبي بكر يوصونه أن يحتفظ بعمر را) أي يرجعوا • (۲) الخفة ، وركوب الشر ، والظلم ، وغشيان المحارم (۲) أي دفع له الدية • (4) نوع من اللباس : (5) أي وثبت • (6) أي من يقوم مقامه ؟ (۷) أي هیئت الراحلة ليركبها علی
6 [181]۱۸۳- عمر الحاجته إليه ، وأن يبقى خالدا في ولايته لحاجة اليه ، فعمل بما أشاروا ذلك ما كان في عهد النبي وأبي بكر ، فلما كتب الى خالد أن يراجعة في حساب المال ، و الا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره ، فأحاله إلى ما جرى به العمل قبله ، وكان قد أجاب أبا بكر بكلام مقتضب قال فيه : « أما أن تدعني وعملي والا فشأنك بعملك ، فلم يطقها شمر وقال : « ما صدقت الله ان كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه ) وقد أبرمه منه أنه وهب للشاعر الأشعث بن قیس عشرة آلاف درهم . و تمی، الأمر اليه كما كانت تنمي اليه أخبار الولاة والقواد من عيونه وأرصادم . فكتب إلى أبي عبيدة أن يحاسبه على هذه الهبة « فان زعم أصابة أصابها فقد أقر بالخيانة وأن زعم أنها أسرف » (1) من ساله فقد تحيا (1) وقد أبي خالد أن في مبدا الأمر فاعتقله أبو عبيدة بعمامته كما أمر عمر ونزع منه قلنسوته في موقف المحاسبة قال انها ماله فقومت عروضه وضم ما زاد منها الى بيت المال ، وقال له عمر يومئذ : « يا خالد ! .. والله انك على الكريم ، وانك الى الحبيب ، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء . ولم يعزله عمر دفعة واحدة على أثر قيامه بالخلافة كما جاء في بعض الأخبار ، لأن اسم خالد كان بين أسماء الشهود على عهد بیت المقدس بعد فتحه ، والارجح أن في تاريخ القصة خطأ وقع فيه بعض المؤرخين ومنهم ابن الأثير ، فكتب عن عزل خالد في أخبار السنة الثالثة عشرة للهجرة ثم ذكره في أخبار السنة السابعة عشرة ، وأورد في الموضعين أقوالا متشابهات تلك جملة المآخذ التي أخذها على خالد من عهد النبي عليه السلام الى عهد خلافته ، وما من خالد ثم يلوح شيئا كان يقبله من غيره ، وأنه نصب له ميزانا غير الموازين التي يحاسب (1) أي جعله يفجر ۰ (۲) أي بلفه وعلمه (3) أي قيده . (4) اي قدرت (5) أي أمتعته . (6) أي يظهر و و أحد يعرف عمر و نه أنكر من ا [182]۱۸- (۴) بها القواد والولاة وكل صاحب عمل مسئول . فرای عمر في انكار هذه المآخذ معروف من بداية أيامه ، والذين لزموه وتأدبوا بأدبه ينكرونها مثله ولو كانوا على البعد منه ، كما حدث من ابنه في بعثة جذيمة حيث أبي على خالد بطشه بمن أوثتهم وعرضهم على السيف . ثم أنكر النبي عليه السلام ما أنكراه واستصوب ما استصوباه فعمر كان يكره الاسراع إلى القتال ويوصی قواده جميعا بالتريث فيه ، وربما تحي القائد المغوار" عن القيادة وهو كفؤ لها لأنه يعجل بالقتال ، كما قال لسلیط بن قيس : « لولا انك رجل عجل" في الحرب لوليتك هذا الجيش ، والحرب لا يصلح لها الا الرجل المكيث" . وكان يتحرج غاية الحرج أن يستبيح دم بريء أو مشكوك فيه ، وتقدم في هذا الكتاب أنه لام أناسا من أصحابه لأنهم قتلوا رجلا ارتد عن دينه ، وقال لهم : هلا استتبتموه وحبستموه .. وتبين من رأيه في أهل الردة انه كان يؤثر الهوادة والاستتابة على القتال . فان كان قتال فالذي لا حيلة فيه ولا محيص عنه ، فانکاره لمقتل مالك نويرة وأصحابه هو رأيه الذي لا شذوذ فيه ، ويضاف اليه انكار البناء بامرأته ، ووقوع البناء بها في أثناء المعركة ، وهو أمر لا ينفرد عمر بكراهته وانتقاده ، بل تكرهه العرب عامة ، مسلمين وغير مسلمين . يحاسب الولاة أدق حساب : يكتب عروضهم تبل ولايتهم ، ويسألهم فيما فشبامن طاريء أموالهم ، ويأمرهم اذا عادوا إلى أهلهم أن يدخلوا المدينة نهارا لينكشف ما عادوا به اليهم ، ويقاسمهم كل درهم بربی" على المحسوب من أرزاقهم . ويجري على هذه السنة كل وال وكل عامل ذی أمانة . فلم يستثن منها أحدا قط ، ولم يعرف وال قط سلم من مصادرة أو حساب عسير فالذي صنعه مع حين أنكر « سرعة هجماته وشدة صدماته » سنة عمرية لا شذوذ فيها ، والذي صنعه حين حاسبه على هباته ووزيعاته سنة عمرية كذلك لا شادون فيها ، ولو أنه صنع غير هذا (1) اي الشجاع . (۲) عجل : أي متسرع (۳) الرزين : (4) اي انتشر : (۰) أي يزيد . (6) أي الطريفة . 6 وكان عمر جمعه) (1) خالد . [183]به۱۸- . . له الصنيع لقد كان ذلك هو الشذوذ المستغرب الذي لا يقع من عمر بن الخطاب خاصة ، لأنه لا يحابي ولا يفرق في المعاملة ولا يبالي غضب قائد كبير ولا وال قدير . وليس يحب أن يقال : ان رجلا من الرجال لا غنى منه لدولة الاسلام . فربما كان شيوع هذه العقيدة أخطر على الاسلام من عزل وال مظلوم او ولاة مظلومين ولا ننسى الأمانة الكبرى التي هي أكبر من أمانة الرفق بالولاة والعدل في محاسبة العمال ، ونعني بها أمانة الدين والدولة أو ما نسميه نحن في ايامنا « بالسياسة العليا » .. وعمر لايتركنا نفسر أعماله هنا باجتهادنا في فهمها وتأويلها على ما فراه ، بل يصرح للناس فيها بما يغنيهم عن التفسير والتأويل فكان رنگی في شئون الولاة الكبار والقواد المشهورين أمرين يجيزان عزلهم ولو لم يقع منهم ما يوجب المؤاخذة أحد هذين الأمرين ، أن يفتتن بهم الناس فيفتتنوا بالناس كما قال الخالد بعد عزله . والخوف في هذا الأمر من القائد الكفؤ أعظم من الخوف قائد صغير لم يبل أحسن البلاء ولم تتساير بذكراه الأنباء ، فليس لهذا خطر في بقائه كخطر القائد الكبير وخطته هنا عامة لا يخص بها واليا دون وال ولا قائدا دون قائد . فلما عزل زياد بن أبي سفيان عن ولاية العراق سأله زياد : لم عزلتني يا أمير المؤمنين .. ألعجز أم خيانة .. فقال له : لم أعزلك لواحدة منهما ، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس . وقديما قال فيه عمر : لو كان قرشيا لسان العرب بعصاه . فالحيطة منه وفاق رأيه فيه وقد كان من خلق عمر أن يقدم الحذر ويأخذ بالحيطة ويطيل الروية ثم يجزم بالرأي السديد في غير ابطاء ، ولهذا كان يكره ولاية الرجل الفخور وينهى عنها في خلافته وقبل خلافته ، فأشار على أبي بكر ألا يولي خالد بن سعيد وكلمه في عزله لأنه رجل فخور يحمل أمره على المغالية والتعصب .. فعزله أبو بكر كما أشار (۱) المجازاة والمحاسبة - (۲) أي الحذر من . [184]۱A9-
(1) الشهرة أنداد") عاد من حرب . يحس ة فاذا اجتمع لعمر هذا السبب من أسباب السياسة العليا إلى المأخد التي أنكرها على خالد فلا جناح عليه ، ولا محل للشك والظنة في أسباب عزله لقد رأی زه خالد بالنصر والغلب قبل أن يفتح الشام وسبق القواد : رأى ذلك أهل الردة فدخل المسجد وفي عمامته السهام ، ورآه يوم اسنقل بیت المال في ولايته على عهد أبي بكر وعلى عهده ، ورآه في أمور كان يبتدئها ولا يستأذن فيها ، ورآه مما ولا يلمس ، ومما يقدر ولا ينتظر . فاذا أشفق أن يفتتن بالناس كما افتتنوا به فلا جناح عليه وثاني الأمرين اللذين يدخلان في تقديرات السياسة العليا ويجيزان العزل في غير جريرة ظاهرة أن يصبح القائد ضرورة لا غنى عنها لتسيير الجيوش وفتح الفتوح ، وان يعزي اليه النجاح فتتخاذل العزائم وتصغر أقدار القادة دونه ، وأن تعظم العقيدة فيه فتضعف العقيدة بالله ، ويخسر الجيش بذلك أضعاف ما يخسره باقصاء قائده ولو لم يكن له نظير فان كان له نظير ، كما تبين من اختيار عمر القواده في كل ميدان فلا خسارة هنالك. بل هو كسب العقيدة وكسب قائد جديد ، واذا حان اليوم الذي ينتفع فيه بالقائد المعزول فهو قمين أن ينفع ما بقيت فيه بقية من صلاح وخير وتعويل عمر على العقيدة أمر تعزوه الى كل شيء فتراه فيه على صواب : تعزوه الى ايمانه بالله فهو فيه مصيبة ، وتعزوه إلى حسن سياسته فهو فيه مصيب ، وتعزوه الى تقديره للواقع فهو فيه مصیب . فكل أولئك كان خليقا أن كفة العقيدة عنده على كل كفة ، وان بوجب عليه استبقاءها قبل كل استبقاء . وألا يزال بالناس يذكرهم ذكرهم به حين كتب الى الأمصار بعد عزله خالدا « أن الله هو الصانع وألا يكونوا بعرض فتنة » ولو أن رئيسا لخالد غير عمر بن الخطاب في ايمانه المكين لما فاته أنه (1) الكبر والمخر • (۲) جمع ند ، والند : المنل والنظیر ۰ (۳) أي ذنب أو جناية 0 (4) ينسب (5) أي جدير . f [185]۱۸۷ يديه : که وهو عن جيد يعلم أين كانت قوة المسلمين وبم كان انتصارهم في جميع الميادين ، ولا فاته أن يستبقى هذه القوة بكل وسيلة وأن يفتديها بجميع ما في تلك قوة العقيدة لا مراء ، أن ضاعت فلا عوض عنها ، وان بقيت فللقادة عوض كثير عمر بن الخطاب الذي يؤمن بهذا ايمان تسلیم ، كما يفكر فيه تفكير سياسة وتدبير ? .. لئن نسی ذلك لهو الحقيق باللوم على نسيانه ، ولئن ذکره فاقتضاه ذكره أن يعزل خالدا بغير جريرة لما كان عليه من لوم كما رأينا لم يعزله لغير جريرة ، أو لم يكن حسابه له مختلفا حسابه للقادة والولاة ... وقد كان أبو بكر نفسه وهو من أبقى خالد يلمح بعض الخطر من افتتان الناس به حين قال : أعجزت المساء أن ينشئن مثل خالد ! ؟ ويؤكد تعويل عمر على العقيدة في كل نجاح واسناده کل فشل الى ضعفها والترخص فيها أن الجيش الذي غزا مصر أبطأ في فتحها فالتمس علة ذلك في ضعف نياتهم وكتب اليهم يقول : لا عجبت لابطائكم - فتح مصر تقاتلونهم منذ سنتين .. وما ذاك الا لما أحدثتم وأحييتم • الدنيا ما أحب عدوكم ، وان الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما الا بصدق نیا تهم » فنظرته في عزل خالد هي النظرة العامة التي لا تخصیص فيها لرجل ولا لمعركة ولا لمكان ، وتقديمه العقيدة على كل عدة عدد النصر هو الخطة التي جرى عليها في مراقبة القادة ومراقبة الجيوش وتدبير عدد النصر وتجنيب المسلمين مازق الخذلان وهل أخطأ .. هل كانت منه حماسة ایمان ولم تكن روية تفكير .. هل يرى غير هذا الرأي ناقد أعداء الإسلام لو بحث في الأمر ونفذ الى حقائق الأسباب ؟ کلا بل هو صدق الرای وصدق الایمان معا مقترفين ، لايشير هذا بغير ما يشير به ذاك أسباب و السياسة العليا ، يجيز لعمر ما استجازه من من عمر عن 6 من عسکری من - ا + ودول (1) أي وأقل منه . [186]۱۸۸
عزل خالد علم الناس انه لا من القيادة والولاية، ولا سيما بعد ما أخذ عليه ما أخذ و بعد با يسامح أحدا في أمثال هذه المآخذ. فما باله يسامح خالدا فيها : أنه اذن لصانع النصر الذي لا غنى عنه ، وان الخطر الأكبر الذي يخشاه لقد حق على الجند وعلى الدولة ، ولقد حق معه خطر آخر لا يقل عنه : أن يسكن الناس الى التفرقة في الحساب ، وأن يألفوا ما يعاب اذا عيب من الرؤوس والأقطاب"، دون الأتباع والأذناب 6
* *
ومسالة أخرى يجب الولاية في ألا يغفل عنها الرجل العصري وهو ينظر في عزل خالد للأسباب التي قدمناها أو لأي سبب غيرها .. وذلك أن حقوق نا غير حقوق الولاية في عصر عمر على التخصيص ، وهو العصر الذي بدأت فيه تجربة الولاية والعمالة في دول الاسلام . فالولاية في عصرنا مركز يستحقه موظف الحكومة بعد مرانة طويلة ودراسة خاصة واستعداد مقصور على من المرشحين لها لم تشركهم فيه طائفة أخرى ، وكأنها صناعة العمر التي لا يحتمل عمر الإنسان تجدید صناعتين مثلها . فاذا قيل ان واليا عزل في عصرنا فكأننا نقول ان تاجرا صودر ماله أو زارعا حيل بينه وبين زرع أرضه. ومصادرة هذا القبيل حري أن تلتمس لها أسباب من قبيلها في الرجاحة والاقناع غير أن الولاية في عهد عمر لم تكن كذلك بوجه من الوجوه ، ولم يكن لصاحبها مثل هذا الحق الذي اصطلح عليه العرف وان لم ينص عليه القانون ، وانما كانت تجربة ارتجالية يتساوى فيها المسلمين ، لا تنقطع بها صناعة العمر ولا سابقة الاستعداد والمرانة ، فيصح أن يعزل الوالي لأسباب أهون من تلك الأسباب التي قدمناها في الراحة والاقناع ، ويصح أن يكون للمزل معنى المناوبة في ندية متساوية بين جميع المسلمين . در د ابن حنتمة » أي رجل كان ! .. كلمة قالها رجل يعرف الرجال قالها عمرو بن العاص وكأنه لم يكن 6 الصالحين من (1) سكن اليه : أي اطمأن - (۲) جمع قطب ، وتطب القوم : سیدهم 1 [187]۱۸۹ كلما وقف (۳) بود أن يقولها لولا أنطقه بها الاعجاب الذي لا يجد فيه كتمان وهي كلمة يقولها الناظر في سيرة عمر أخبارها موقف الناقد الذي يبحث عن الخطأ فيلفية حيثما بحث عنه عسيرا جد عسير أي رجل كان هذا الرجل ؟ .. أي عدل كان عدله } .. أي قسطاس كان قسطاسه ۹ .. أي حساب كان حسابه لنفسه .. وای سبیل للناقد الى رجل كان يحاسب نفسه هذا الحساب ؟ .. وربما اختلفت الأمزجة أو اختلف تركيب العقول والأبدان ، فقل في ذلك ما تشاء ، وقل في خلائق عمر ما تشاء الشدة والصرامة ، أو قل هي الخشونة والصلابة ، أو قل هو نسيان الضعف وفرط الغيرة على الحق في عالم تستكثر فيه مصانعة الحقوق ويستعظم فيه تكلف الصواب قل ما ذلك واذهب ماشئت أن تذهب فيه ، فانك من لا تعطي المزاج حقه ولا تفرض له فرضه حتى تحار بعد ذلك في انتقاد أو علة اختلاف ، لأنه لا يزاول أمرا الا وهو صواب لا محل فيه لسوء الطوية من وجهة ذلك المزاج . قل هي بدا لك د و سبب
من - ا معنی كنا نقرأ عن عزل خالد ما تتفق قراءته من هنا وهناك ، وكنا نستمع الى الذين يردونه الى المنافسة والتناظر فنجيز هذا ولا نمنعه أو نرى فيه منالا قدر عمر ومنقصة تغض من اعجابنا بمزاياه . لأنه قد يغار من خالد ويعزله لغير جريرة ويبقى له بعد ذلك قدره الجليل وأثره الضخم في تاريخ الإنسان وفي عصرنا هذا رأينا أبطالا خدموا أقوامهم ثم بلغ من ضغنهم منافسيهم أنهم قتلوهم ولم يقنعوا باقصائهم عن الحكم ولا بمحاسبتهم بين يدي القضاء . ثم نصب الناقدون لهم موازين النقد فأسقطوا السيئات الحسنات ، وقرئوا قتل أفراد باحياء أمة ، فبقي لأولئك الأبطال حقهم الخالد في الثناء والتعظيم . واذا بلغ من صواب عمر أنك لا تحصى عليه خطأ غير عزله لحالد وما (۱) أي لا يفيد • (۲) أي فيجده • (۳) أي الطبائع . (4) أي النية 1 الحقد [188]۱۹. عن جرى مجراه فما أكثر هذا صوابا على الآدمي وان كان من أعظم العظماء ? بدأنا نقرأ هذه القصة وفي خلدنا هذا المرض الذي لا يحملنا على استبعادها ، وعندنا أنه خطأ يذكر الى جانب حسنات ، فلا ضير أن يكون له موضعه في جانب تلك الحسنات... ثم تقرأ كل ما تسنى لنا أن نقرأه في هذه القصة فلا نزال نستبعد الخطة ونستبعده ، ولا تزال كلمة ابن العاص تعود الى لساننا وتعود ، حتى نطقنا بها كما هي ، وغفر الله لابن العاص . 6 أساسه » الخلاف بين موضعه فأعسر وهكذا کا نصنع ا في كل خطأ نسب الى عمرو وتواتر على السماع دون تمحيص واستقصاء . فلا تزال بنا الوقائع حتى يثبت بطلانه من او يضعف سنده ضعفا لا الاعتماد عليه ، الا لمن يتج ويتمحل ذرائع النقد ودعوى التخطئة والعيب کلا .. هذا رجل لا يسهل نقده ، ولا يتأتى لانسان أن يحاسبه كما حاسب هو نفسه، ولن يقع المنصف الا على انه اختلاف في الأمزجة وتركيب العقول والأبدان . فاذا وضع هذا التقدير سر عسير بعد ذلك أن تلومه على خطأ ، وأن تحصى عليه خطأ فيه من سوء النية نصيب فالذي حصل والذي كان متوقعا حصوله ينفيان الظنة عن مروءة عمر وانصافه في قضية خالد بن الوليد ، وقد حكم فيها بما وجب عنده ، وانتهى كل شيء بعد ذلك في هذه القضية بانتهاء الغرض منها في مصلحة الدولة ومصلحة السياسة العليا ، إذ لا موضع فيها الحزازات النفوس وصغائر المنافسة وما تجر اليه من لغو المشاكسة وفضول الكلام قال لخالد : لن تعتب على في شيء بعد اليوم ، ثم أمسك في قضيته الا أن تثار في معرض عام ، فيشير اليها حيث تثار على سبيل الاعتذار ، ويقبل ما شاء له کرم الخليقة أن والمشايعين وان أغلظوا في المقال ، على ما كان له من هیب پیة ترد الجامح (1) ينجني : يدعي ذنبا لم يحدث ۰ (۲) وسائل • (۳) الشکس : صعب الخلق • (4) الاتباع والانصار 6 عن الخوض يسمع من هلام الأقربين . . [189]۱۹- بن الوليد ، .. وتخيف من لا يخاف . قال من خطبته بالجابية : إني أعتذر اليكم عزل خالد فاني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطى ذا البأس وذ الشرف وذا اللسان فتصدى له أبو عمرو بن حفص بن المغيرة وجابهه بكلام غلیظ يقول منه : « والله ما أعذرت یا عمر ولقد نزعت غلاما استعمله رسول الله صلی الله عليه وسلم ، وأغمدت سيفا مسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووضعت أمرا نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطعت رحما وحسدت بنى العم ... » فما زاد عمر على أن قال وهو يعذره : « انك قريب القرابة ، حدیث السن ، تغضب في ابن عمك » ولم ينس أن يصون للرجل اسمه ومنزلته في أمصار المسلمين ، فكتب ما ألمعنا اليه آنفا يرحض عنه سمعة العجز والخيانة ، ويجعل العزل الفضيلة فيه لا لقصور منه ، ولا لتثريب عليه وعلم بموته فاشتد حزنه عليه واسترجع" مرارا ونكس رأسه وهو يكثر من الترحم عليه . ثم قال : كان والله سدادا لنحور العدو ، میمون" النقية). ولم يهمه أن يذكر صوابه أوخطأه في عزاه بمقدار ما أهمه أن يعلن فضله ويذكر حسناته فقال : « قد ثلم في الاسلام ثلمة لا ترتق » . وقيل له : لم يكن هذا رأيك فيه . فلم يحجم أن يعلن قائلا : « ندمت على ما كان مني اليه ) وقال في غير هذا المعرض وبلغه أنه لم يعق من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وسلاحه : « رحم الله أبا سليمان . كان على غير ما قلناه به » ينهى عن الندب و العويل . فلما مات خالد واجتمع بات عمه یبکینه وسئل عمر أن ينهاهن قال : « دعهن يبكين على أبي سليمان ، لم يكن نقع أو لقلقة.. على مثله تبكي البواكي ! .. (1) أي واجهه واستقبله : (۲) أي يغسل • (۳) الاستقصاء في اللوم - (4) أي قال : إنا لله وانا اليه راجعون : 9) مبارك - (۹) النفس - (۷) أي يترك . (۸) أي غبار • (۹) شدة الصوت (1). . . وقد كان . عمر ما [190]عمر (۱) رحم ودخل هشام بن البختري في أناس من بنی مخزوم على فاستنشده شعره في خالد، وقال له وقد أطال الاصغاء إليه : « قصرت في الثناء على البي سليمان . رحمه الله ، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله ، وان كان الشامت به لمنعرضا لمقت الله الله أبا سليمان ! .. ما عند الله خير له مما كان فيه . ومن الحق أن يقال ان قضية خالد قد أرتنا مروءة خالد كما أرتنا مروءة عمر ، وقد عرضت لنا هذا البطل في صفحبه فاذا هو بطل الفؤاد في ولا ينه و بعد عزله ، وفي شدته على عدوه وطاعته لأميره وما على مثله من غير أن يحق عليه العزل في میزان عمر بن الخطاب فذاك میزان تعلو فيه الكفة ولا يزال صاحبها راجحا أي رجحان ... وقد استجق المجد بيقين واستحق العزل بظن ، ولولا مصلحة أعلى من مصاحة الإبقاء على رضاه لقد كان ذلك الظن حقيقا بالغض عنه والتجوز فيه وكفى بالرجلين فضلا أن يختلفا و من وراء اختلافهما فضل يعترف به كلاهما ويعترف به كل محب وشاني وكل منصف وجاحد ، وما نخال أن تقدیرنا خالدا وتقديرنا عمر يدعونا أن ننهب المبزان في هذه القضية من جدید . فقصارى"ما نغنم من ذلك أني خالدا كان جديرا بالبقاء في منصبه مستحقا لعزله. وليس ذلك بشيء الى جانب ما رأيناه حين نصب الميزان في القضية كما نصبه خليفة الاسلام ، فقد أرانا عدلا أعظم من بطولة الأبطال . فان أخطأ البطل - على تقدير خطئه - فالعدل أعظم منه وأحرى أن يتعقبه كأنه من أضعف الضعفاء ، وذلك میزان اشرف العمر ولخالد وللاسلام من کل میزان (۳) ولم يكن . ذ (1) أي غضب . (۲) الشانيء : العدو • (۳) أي نفاية .
تصنيف:
عبقرية عمر
=============
ثقافة عمر
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/ثقافة عمر
[191]
ثقافة عمر
اذا تكلمنا ثقافة عمر بلغة العصر الحاضر جاز لنا أن نقول: انه كان رجلا وافر الحظ من ثقافة زمانه ، وانه كان أديا مؤرخا فقيها ، مشارکا في سائر الفنون ، مدربا على الرياضة البدنية، خطيا مطبوعا على الكلام ، فليس أرجح من نصيبه في ثقافة زمانه نصيب . ظل في اسلامه كما كان في جاهليته عظيم الشعف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية ، بل ظل كذلك بعد قيامه بالحرية واشتغاله بجلائلها ودقائقها التي لا تدع وقته فراغا لغيرها ، فكان يروي الشعر ويتمثل به ويحث على رواته ويعتدها من تمام المروءة والمعرفة كما قال لابنه عبد الرحمن : « يا بني انسب نفسك تصل رحمك و احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك ، فان من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه . ومن لم حفظ محاسن الشعر لم يؤد حقا ولم يقترف أديا » وقال للمسلمين عامة : « ارووا الأشعار فانها تدل على الأخلاق . ونظر الى فائدته العملية كما نظر الى متعته الأدبية ، فقال فيه انه جذل من كلام العرب يسكن به الغيظ وتطفأ به الثائرة ويبلغ به القوم في ناديهم وتعطى به السائل . وكانت متعته بطرائف الأدب من متع الحياة التي لا يبالي الموت لو نصيبه منها ، فكان يقول : « لولا أن أسير في سبيل الله ، وأضع جبهتي ، وأجالس اقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمر لم أبال أن أكون قد مت ، واذا اقترنت العبادة باستطراف الحديث المهذب عند عمر ما يبلغه فضل الأدب عنده من ثناء و تقریظ وقد كان اعظام الرجل في عينيه بمقدار حذقة للحديث وقدرته على (1) أي كثير (1) أي بلغ شفافه ، وهو : غلاف قلبه . (۳) أي الطرائف (4) أصل الشجرة وغيرها (5) مدح الانسان وهو بحق أو باطل . (6) أي مهارته واجادته . فذلك غاية . [192]-11- هو من (1)
. 1 الابانة والمنطق الحصيفة". فنظر يوما إلى هرم بن قطبة ملتفا في بت بناحية المسجد وقد عرف تقديم العرب له في الحكم والعلم وهو دمامة ،) ما رضا لة ومنظر زري"، فأحب أن يكشفه ويسبحكمته ، فسأله في علقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل : أرأيت لو تنافرا اليك اليوم أيهما كنت تنفر .. فأجابه الرجل : يا أمير المؤمنين ! لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة ، أي لأعاد الحرب فتية كما كانت ، فأثني عليه وقال : لهذا العقل تحاكمت إليه العرب ! .. وجاءه وفد فيه الأحنف فتركهم جميعا واستفتح ما عنده من الحديث فأعجبه وأعظم قدره وعقد له الرئاسية الى أن مات... و سره أن عاد العرب الى رواية الشعر بعد أن شغلهم عنه الجهاد في سبیل الدين ، فكان يقول أن الشعر «كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه ، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ، ولهيت عن الشعر وروايته ، فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالامصار راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا الى ديوان مدون ، ولا کتاب مکتوب ، فألفوا ذلك وقد هلك هلك بالموت والقتل فحفظوا أقله وذهب منهم أكثره . ومن ناحية الأدب فيه ، و ناحية الدين معا ، حثه على تعلم العربية « لأنها تثبت العقل وتزيد في المروءة ، وقد أوصى بوضع قواعد النحو لأنه قوام العربية الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته ، لم ينكر من الشعر الا ما ينكره المسئول عن دين ، ولم ينس قط أنه الأديه الحافظ الراوية الا حيث ينبغي أن ينسى ذلك ليذكر أنه القاضي المتحرز" الأمين فنهى عن التشبيب بالمحصنات كما نهى عن الهجاء ، وجيء له بالحطيئة متهما بهجاء الزبرقان بن بدر حيث يقول فيه : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فانك أنت الطاعم الكامي ننسى أنه الأديب الراوية ولم يذكر الا أنه القاضي الذي يدرأ الحدود (!) أي الايضاح • (۲) استحکم عقله (۳) طیلسان من خز ونحوه (4) قبح . (5) أي محتقر · (6) أي يختبر " (۷) أي قرية • (۸) أي يلجأوا . (9) الحرز : الموضع الصين ، وتحرز منه : أي توقاه . (۱۰) النسيب بالنساء من العرب من ولم يزل عمر 6 [193]مره ۱۹
. (۲) بالشبهات، ولا يحكم بما يعلم دون ما يعلمه أهل الصناعة ، وقال للزبرقان : ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة ، ، ثم سال حسان ثابت ففضی بأنه هجاه وأفحش في هجائه ، فحبسه وأنذره ونهاه أن يعود الى مثلها ، فانتهى طوال حياة عمر ، ثم عاد الى الهجاء بعد وفاته واستعداه تمیم بن مقبل على النجاشي لأنه قال في قومه بني العجلان : اذا الله عادي أهل لؤم وذلة فعادی بنی العجلان رهط ابن مقبل فذكر قضاءه ولم يذكر روايته للشعر ، وقال على سنة القضاة يدفع الحدود بالشبهات : انه دعاء والله لا يعادی مسلما قال تمیم : فأنه يقول عنا : قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلموني الناس حبة خردل فقال عمر : ليتني من هؤلاء قال وانه يقول :
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من عوف بن کعب بن نهشل فقال شمر : كفى ضياعا بمن تأكل الكلاب لحمه قال تميم وانه يقول :
ولا يردون الماء الا عشية فقال : ذلك أصفى للماء وأقل للسكاك ( أي الزحام ) قال تمیم وانه يقول :
وما العجلان الا لقولهم خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل فقال كلنا عيد ، القوم أنفعهم لأهله قال تميم : قوله أولئك أولاد الهجين" "وأسرة الل ئیم ورهط العاجز المتنال فقال : أما هذا فلا أعذرك عليه : وحبس الشاعر وضربه وأنذره لئن عاد ليضاعفن له العقاب وقد تجوزنا فقلنا : ان عمر نسی علمه بالشعر ليذكر ابراء الذمة في القضاء . وقد حاول ذلك جهده فأفلح لو يفلح أديب في نسيان أدبه (1) أي طريقهم . (۲) العهد (4) الذين يردون الماء . (5) المورد ، وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي (1) اللئيم (1) اذا
عن كل منهل الوراد" صدر عمر مسی عمر
، وخي فسله
عن (1) عمر .. 4 . [194]. ومن ولكنه مطلب ما أستطيع. قط ولن يستطاع . فكان عمر في تخريجه للكلام وعلمه بما تنصرف اليه معانيه أخبر بالشعر من قاض لا يفقه منه الا ظاهر لفظه ومعناه المشهور عن عمر انه كان عليما بتاريخ العرب وأيامها ومفاخر انسابها كعلمه بالمتخير من شعرها ولسائر أمثالها جنح الى ذلك بطبعه ونقله عن أبيه ، وكثيرا ما كان يقول كما جاء في انبيان والتبيين : سمعت ذلك الخطاب ولم أسمع ذلك عن الخطاب و من وصاياه :« تعلموا النسب ولا تكونوا كتبط السواد اذا سئل قرية كذا ». ومنها : « عليكم بطرائف الأخبار، علم الملوك والسادة ، وبها تنال المنزلة والحلوة عندهم عن أحدهم عن أهله قال . فانها من 4
بن مسعود يقول : د کان عمر 9 6 عمر ... # وفقه عمر بالشريعة التي كان مسئولا عن نفاذها مشهور بين الفقهاء .کاشتهار أدبه و اطلاعه على تاريخ قومه . فكان عبد أعلمنا بكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله ، وكان اذا اختلف أحد في قراءة الآيات قال له : اقرأها كما قرأها عمر ، وأطنب فقال : « لو ان علم عمر بن الخطاب في كفة ميزان ، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم - بعلمهم ، ولقد كانوا يروون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم وقال ابن سيرين : « أذا رأيت الرجل أنه بزعم أعلم من عمر دينه ) وكل ما فسر به آي القرآن في معرض الحكم والعظة فهو التفسير الراجح في وزن العقل والدين ، وكل ما استخرجه من أحكام الشريعة فهو الحكم الواضح الصحيح ونصائحه للعلماء والمتعلمين نصائح عالم يعرف ما هو يجمل بالعلماء في طلبه، فكان يقول : « تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم ، وتواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمون ، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم ، وكان و أن يكونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم ، ويسألوا الله رزق يوم بيوم ، (1) اي مال (۲) أطنب الرجل : أتي بالبلاغة في الوصف مدحا العلم وماذا يوصي طلابه 6 6 كان أو ذما . [195]۱۹۷ . ولا يضيرهم الا يكثر لهم ، ولا يزال يذكرهم أن التفقه مقدم على السيادة فتفقهوا قبل أن تسودوا » ولم يقصر نصائحه على علم الدين وحده ولا علم الأدب واللغة وحده ، بل تناول كل ما عرف من معارف زمانه فقال : « تعلموا من النجوم ما يدلكم على سبيلكم في البر والبحر ولا تزيدوا عليه » ولا شك أن نصائحه العملية في طلب العلم كانت أغلب من تاجه النظرية فيه .شأنه في ذلك شأن رجل الدولة الذي يعلم الناس ما ينفعهم ويصلح معاشهم ويهذب أخلاقهم ... ولكننا مخطئون أن فهمنا هذا القول الذي رويناه في علم النجوم انه كان يكره الزيادة الحديثة فيه كما عرفناها نحن في أيامنا ، فانما الزيادة التي كرهها هي تلك الزيادة التي كانت على عهده تخوض في التنجيم وتربط أقدار الناس بالكواكب وتجعل منها أربابا لعبد وأرصادا تؤتمن على أسرار الغيب . وذلك ما نهی عنه الآن وتعد النهي عنه من تحقيق العلم الصحيح .. ولم يفته الحرص على المعرفة التي تخترع منها منافع للناس في أمر المعاش . فطلب الى أبي لؤلؤة غلام المغيرة ان ينجز ما ادعاه من اختراع طاحون تدار بالهواء ، وهو علم الصناعات کما انتهى إليه في عصره ، لا يضيره انه قسط ضئيل، بل حرصه عليه مع ضالته دليل على ما يلقاه تشجيع المناعة يوم يراها جليلة كبيرة الآثار . على أن زبدة الثقافة كلها في أقطاب الحكم وعظماء الأعمال انما تتلخص في شيء واحد : هو الدراية بالناس ونفاذ البصر في شؤون الدنيا وصدق الخبرة بدخائل النفمن البشرية ، أو هو ما نسميه في أيامنا هذه بالرأي السليم والحكمة العملية ، وهو مجال كان عمر بن الخطاب قليل النظراء فيه ، وحفظت له كلمات في معانيه يندر مثيلها بين كلمات الحكام ، ولا بكثر مشیلها كلمات الحكماء فاي كلمة أدل على النفس البشرية من قوله : « ليس العاقل الذي عرف الخير الشر ، ولكنه الذي يعرف خير الثرين ) (۱) المراد : خلاصتها باعتبار أن الزبدة خلاصة اللبن ، أو دسامتها لما في الزبد من دسم • منه (1) و . من [196]–۱۹۸ .
(۲) لا وأى نفاذ في تركيب الطبائع أمضى من نفاذه اذ يقول : « ما وجد أحد في نفسه كبرا الا من مهانة يجدها في نفسه » ? . أليس هذا بعينه هو مركب النقص الذي يلهج به علم النفس الحديث { .. وأي رأي في تجربة الناس أصدق من رأيه حين يقول : « لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب » أو حين أثني بعضهم على رجل أمامه فسأله : أصحبته في السفر ؟ .. أعاملته ؟ .. فلما أجابه نفيا قان : در فأنت القائل بما لم تعلم » ؟ . وأي فهم المعنى الاستعداد للعمل أقرب من فهمه حين ينصح العاملين : د اذا توجه أحدكم في الوجه ثلاث مرات فلم ير خيرا فليدعه" ? .. كذلك سداد جوابه حين سئل فيمن يشتهي المعصية ولا يقارفها وفيمن ينتهي عنها وهوز يشتهيها أيهما أفضل وأجزل مثوبة عند الله ، فكتب في هذا فصل الخطاب اذ قال : « ان الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر كريم ). وكذلك وصيته بكتمان السر وتبيينه لحسن عقباه حين قال : « من كتم سره كان الخيار بيده » • وكذلك وصيته في الحب والبغض حين قال : « لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا » وكذلك مخافته محنة الفراغ على الناس أشد مخافته محنة الخمر حين قال : « أحدر کم عاقبة الفراغ فانه أجمع الأبواب المكروه من السكر) وكذلك وصاياه التي كانت تحفل بها كتبه الى الولاة وخطبه في الصلوات والأعياد كلها آيات من هذه الحكمة العملية التي هي خلاصة الثقافة المحمودة في أقطاب الحكم خاصة ، وفي كل رجل يزاول شؤون الحياة على التعميم اما مشاركته في سائر الفنون والمعارف التي كانت میسورة على عهده فمنها المستغرب عند من يتخيل صورة عمر من جملة أخباره ، ولا يتقصی فيها الى التفصيل (1) أي عيب و نقص 0 (۲) أي فليتر که • (۳) أي صواب من . . [197]۱۱۱ تقصيرا عن ذاك . فاستقدم .. عمر من فقليل من يتخيل أن عمر كان يعرف « جغرافية و الشرق كاحسن ما يعرفها رجل في وطنه ، ولكنه كان يعرفها حقا عن سماع وعن رؤية وعن زكانه تعين السمائع والرؤية . بل كان يفرض على الولاة أن يحيطوا بعلم ما يتولونه من البلاد ويعزل من پری عمار بن ياسر امير الكوفة لما شكوه اليه وقالوا في شكواهم اياه : « أنه لا يدري علام استعمل» وجعل يسأله عن المواقع والبلدان من بلاد العرب والفرس حول الكوفة سؤال مطلع خبير ، ثم عزله لتقصيره بعد اختباره . ومن الواجب أن نشك في كل خبر يوهم أن كان يجهل معرفة . المعارف العملية التي يحتاج اليها في تدبير الدولة ، فلا يعقل مثلا أنه كان يجهل المعرفة العامة بالحساب وقد كان تاجرا منذ نشأته في الجاهلية وكان يحضر الجيوش ويعرف ما هي الالوف وما هي عشرات الألوف ، فاذا استفسر عن رقم فلن يكون الا استفسار نجاهل واستعظام وليس بجهل وغرارة كما جاء في أخبار الخراج من هجر والبحرين : قال أبو هريرة ما فحواه : قدمت من هجر والبحرين بخمسمائة ألف درهم . فأتيت عمر بن الخطاب ممسيا أسلمه اياه فسأل کم خمسمائة ألني درهم قال : وتدری کم خمسمائة ألف قلت : نعم مائة ألف ومائة ألف خمس مرات قال : أنت ناعس ، اذهب فبت الليلة حتى تصبح ! .. فكل شيء يجوز أن يفهم من هذه القصة الا ان كان يجهل ذلك الرقم ولم يسمع بمثله قبل ذلك ، وهو الذي شهد الدولة وحسابها من شهد أبي بكر وأحصى الجند والمال في عهده انما هي غبطة واستعظام ، وليس هو جهلا بدلالة هذا الرقم في جملة الحساب واذا فل من يتخيل علم بالجغرافية والحساب فأقل أولئك من السماع والغناء ، ولكنه كان يسمع ويفني في بعض الأجيان ، ولا ينهى عن غناء الا أن تكون فيه غواية تثير الشهوات . جي (۱) أي علم وفهم • (۲) أي غفلة . (۳) في وقت المساء (4) من معاني الغبطة : المسرة ، وحسن الحال
هو 7 .. قلت . درهم عمر عمر من يتخيل له حظا [198]فقال : دعوه خرج عمر عمر عمر عمر
+ عمر (۳) هو له برجل يغني في الحج وقيل له : أن هذا يعني وهو محرم فان الغناء زاد الراكب ... وروی نائل مولی عثمان عفان انه في ركب وعثمان وابن عباس ، وكان نائل رهط من الشبان فيهم رباح بن المعترف الفهري الذي كان يحدو" ويجيد الحداء والغناء . فسألوه ذات ليلة أن يحدد لهم فأبي وقال مستنكرا : معد !.. قالوا: احد فان نهاك فانته نجدا اذا كان السحر قال له : کف فان هذه ساعة ذكر . ثم كانت الليلة الثانية فسألوه أن ينصب لهم نصب العرب . فأبى وأعاد استنكاره بالأمس قائلا: .. قالوا له كما قالوا بالأمس : انصب نان نهاك فانته . فنصب لهم نصب العرب حتى اذا كان السحر قال له کف فان هذه ساعة ذكر . ثم كانت الليلة الثالثة فسألوه أن يغنيهم
غناء القيان فما الا أن رفع عقيرته بغنائهن حتى نهاه وقال له : كف فان هذا ينفر القلوب . وكان يخرج للحج ومعه من يحسن الغناء فيقترح عليه أن يعنی شعرا ويؤثر أن يكون ذلك من شعره خرج مرة للحج ومعه خوات بن جبير وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف فاقترحوا على خوات أن يغنيهم من شعر ضرار ، وقال عمر : بل دعوا أبا عبد الله فليغن من بنیات فؤاده". فما زال يغنيهم حتی كان السحر فهتف به عمر : ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا وجاءه قوم فذكروا أن أمامهم يصلى بهم العصر ثم يتغنى بأبيات من الشعر ، فقام معهم اليه واستخرجه من منزله وسأله فيما بلغه عنه ، و استنشده الأبيات التي يغنيها ، فأنشده : وفؤادی کلما نبهته عاد في اللذات يبغی تعبی لا اراه الدهر الا لاهيا في تماديه فقد برح بھی یا قرين السوء ما هذا الصبا فني العمر كذا باللعب وشباب بان منی نمضي قبل أن أقضى منه اربی (1) الغناء للابل حتى تجد في سيرها ، (۲) الأمة مغنية كانت أو غير مغنية ، وجمعها : القيان ۰ (۳) صوت المغني والباكي والقاريء . (4) أي من شعره . [199]
(1), من 6 .. ? و و (1) نفس لا كنت ولاكان الهوى التقى المولی وخاف وارهبي فأعاد البيت الأخير ، وقال لمن شكوا اليه : من كان منكم مغنيا فليغن هكذا .. وكان مرة في سفر فرفع عقيرته بالغناء وأنشد : وما حملت ناقة فوق رحلها أبر وأوفي ذمة من محمد فاجتمع الركب اليه ، فقرأ فتفرقوا . فعل ذلك وفعلوه مرات ، فصاح بهم : « يا بني المتكاء ! .. اذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم ، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم ? .. » لا يلومهم على الغناء وسماعه ، وانما يلومهم أن يؤثروه على سماع القرآن مرات . ولا شك أن الشغف بالشعر الجزل والحديث الرائق" والصوت الحسن لا يجتمع في نفس الا اجتمع معه ذوق للجمال وسرور بكل حسن جميل . ولكن أين يقع هذا من صرامة عمر وبأسه وشدة حجره على زينة الحسان ؟ فقد دخل في روع أناس أنها جميعا من نقائض حب الجمال ، وقد سمعنا هذا فعلا من أدباء يجلون "عمر ولا يحسبون ذوق الجمال من مأثور حسناته ، لأنه كان شديدا في الحجاب وكان ينفي الفتيان الحسان صنع بنصر بن حجاج ومعقل بن سنان ، وكان يقول : « استعينوا بالله من شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ... وعندنا نحن أنه هذا جميعه ينم على الاحساس بخطر الجمال وطغيان فتنته ، ولا ينم على غفلة عنه وقلة مبالاة بأثره . وما نخال أحدا من المترخصين في الحجاب كان يؤمن بسلطان الجمال أبلغ بسلطانه ، أو كان يعرف حق المرأة في الشوق اليه كما عرفه وأمر برعايته ، فانه كان ينكر على الآباء أن يكرهن فتياتهم على قباح الوجوه ويوصيهم : « ألا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فانهن يحببن ما تحبون ) وجاءت له امرأة بزوج أشعث أغبر تسأله الخلاص منه ، فأمر به أن يحم" وأن تقلم أظفاره ويؤخذ من شعره ، ثم قال له ولمن في مجلسه واصنعوا لهن فو الله انهن ليحبين أن تتزينوا كما تحبون أن يتزين لكم » فكل ما روي عن عمر من الشدة والرفق في معرض الجمال فهو دلیل (1) أي عهد ۰ (۲) ضد الركيك . (۲) بمعنى الحسن : (4) يعظمون .. (5) المغبر الرأس : (6) من الاستحمام - کیا . من ایمان عمر (1) وهكذا [200]على الأحماس به ، واكبار خطره ، وليس بدليل على الغفلة عنه واستصغار
أثره ، وربما كانت الشدة والحجر أدل على ذلك الرفق والمحاسنة . من
تا د ا (۲) ومن الآداب العامة التي لها حظ من ذوق الجمال في معارض السياسة أدب الذكريات الذي لا يستغني عنه ولاة الأمر الموكلون بأحياء معالم الدول والاحتفال بمراسمها وأعيادها ففي هذا الأدب كان لعمر النصيب الذي يعنيه , فهو الذي اخنار أو وافق على اختيار يوم الهجرة بداية للتاريخ الاسلامی ، وانه لأصلح يوم يؤرخ به الاسلام . لأن العقائد كما قلنا في « عبقرية محمد » « تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب ، و كل انسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة ، أما النفس التي تعتقد حقا ويتجلى فيها اتصار العقيدة حقا فهى النفس التي تؤمن في الشدة ، و تعتقد ومن حولها صنوف البلاء) وكلما اقترح على عمر ذوق الذكرى ، كان مجيبا الاصغاء إليه . فكان يحترم وفاء بلال واقلاعه عن الأذان بعد وفاة النبي عليه السلام . ولكنه دعاه إلى الأذان تلبية لاقتراح الجلة من الصحابة في يوم وداع دمشق بعد الفتح المبين . فبينما المسلمون يشهدون الصلاة الجامعة اذا بالصوت الذي انقطع بعد النبي يرتفع رويدا رويدا في الفضاء ويسري رويدا رويدا من الأسماع الى الصدور . والتفتوا وكأنهم يسألون : ماذا ? .. هل عاد محمد الى الأرض ؟ .. ان لم يكن قد عاد فقد عاد الحنين اليه أقوى ما ينبعث من صوت انسان الى صدر انسان فذابت قلوب لا يذيبها الهول ، وبكى أشيب أولئك الأبطال وأصبرهم على حر القتال اقتراح فيه نفحة من ته . ...
* *
واذا كان عمر المعجب بالجمال مستكنا وراء ستار يحوجنا الى النظر من ورائه فعمر الرياضي المشغول بالرياضة البدنية ظاهر لنا بعمله وقوله ، (۱) أي يظهر • (۲) له نفحة طيبة : أي رائحة . (۳) سادتهم وعظماؤهم (4) أي شيئا فشيئا . (5) أي أكبرهم . [201](۱) و بسيرته في الجاهلية وسيرته بعد الاسلام ، وسيرته بعد الخلافة الى أن فارق الحياة فكان يصارع في المواسم ويسابق على الخيل ، وكان ينوط مجد العرب بالرياضة والفروسية ويكتب إلى الأمصار أن « علموا أولادكم السباحة والفروسية.ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر» ولا يفتأ يذكرهم انه « لن تخور قوى ما دام صاحبها بنزع وینزو » أي برمي بالقوس ويركب ظهور الخيل بغير رکاب من کلا شدقيه أما الخطابة فقد كانت فيه من صفات البنية ولم تكن من صفات الذهن و کفی ، فكان له. فم يمتلىء بالكلام حين يخطب كأنه خلق ليقول ، ولوحظ عليه أنه كان ينطق بعض الحروف - كالصاد به وهي تنطق في الأغلب من شدق واحد وكان جهوري الموت واضح النطق سليم الشفتين في اخراج الحروف ، وکتابته كلها كأنها خطب ومرتجلات تقرأها فكأنك تصغي اني خطیب لا تفقد منه الا الصوت المسموع ... ولا نطباعه على الكلام الذي لا تصنع فيه كان بستسهل كل كلام يوافق طبعه ولا يستصعب من الخطب الا الذي يغير من نظرته إلى الناس و يلجئه الى المداراة والباطل . فكان يقول : « ما تصعدنی کا تصعدني خطب النكاح ». والتمس ابن المقنع علة ذلك فقال :« ما أعرفه الا أن يكون أراد قرب الوجوه من الوجوه ، ونظر الحداق من قرب في أجواف الحداق ، ولأنه اذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء ، واذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية » والتمس الجاحظ علة ذلك فروي عن أناس أنهم رجعوا باستصعاب عمر الخطب النكاح الى « أن الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب ، فلعله كره أن يمدحه بما ليس فيه فيكون قد قال زورا وغر القوم من صاحبه » وكلا القولين جائز في بيان وجه المخالفة بين طبع عمر والتكلم في محافل النكاح . فهو مطبوع على (1) أي يعلق : (۲) الفطرة ، (۳) العالي الصوت : (4) أي شق علي (5) جمع حدقة ، والحدقة : سواد العين : (6) أي عوام الناس سلام (1)... [202]۲۰ = 1 6 تمییز کلامه أن يتكلم الى الناس كلام رجل يقود الرجال ، ومطبوع على الصدق الذي تنقل على صاحبه المداهنة، وهي مما لا غنى عنه في هذا المقام ، ولو كان الخاطب من الأكفاء وقد اختلفوا في نظمه الشعر فزعم الشعبي : أنه كان شاعرا ورويت له أشعار لا تشبهه ولا ترضيه ، ونفي هو نظمه للشعر حين قال : « لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا » ولا طائل في هذا الخلاف ، لأنه لن ينتهي إلى رأی قاطع يسكت عليه ، ولكنما المهم في هذا الصدد أنه كان مطبوعا على التعبير وله عبقرية فيه ، أو أن تعبيره كان خاصا به لا يشبهه تعبير سواه ، فهو تعبير عمري مفرداته وتركيبه لا يلتبس بتعبير. أحد من أهل عصره حتى ليسهل
كل كلام ويصعب تزوير القول عليه ولو أحكمت المحاكاة فمن خصوصياته في التعبير انه كان يقول : « لولا الخليفي الأذنت » وهو يعني الخلافة ولا يقصد الأغراب . ومنها وهو ينقل خبر اسلامه الى خاله : « وجئت الى خالى فأعلمته فدخل الى البيت وأجاف الباب » أي أوصده !۔ ومنها وهو يصف ما وقع في نفسه من الآية التي تلاها أبو بكر رضي الله عنه حين أنکر موت النبي فقال : « والله ما الا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلای » يعني انه عجز عن القيام . و منها في الكتابة والقراءة ينهي عن المجلة فيها : « شر الكتابة المشق و شر القراءة الهذرمة ، وأجود الخط أبينه » يذكر امرأة كانت تسقي الناس يوم أحد : انها كانت تزفر للناس القرب » أي تحملها ومنها في المشورة: « الرأي الفرد كالخيط السحيل ، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرارا لايكاد ينتقض» ومنها حين كتب الى أبي عبيدة بعد ولايته الخلافة : « ... سرية الا في كثف الناس » (۱) اظهار خلاف ما يبطن (۲) السرعة في القراءة (۳) الخيط السحيل : سهل القطع (4) أي المفتولين ، فيكون قطعهما شاقا . (5) أي حبلا (6) النعض في الحمل : ضد الابرام هو ومنها وهو ولا تبعث . . [203](۳) des هو ومنها حين شكا اليه الشاکی هجاء الشاعر الذي قال فيه : ولا يردون الماء الا عشية اذا صدر الوراد عن كل مورد فقال ذلك أنفي « للسكاك » أي الزحام ومنها في سماحه بالبكاء : « ما لم يكن نقع أو لقلقة » أي ما لم يثر التراب ويفرط في العويل ومنها وقد حار بأهل الكوفة : « أعضل بي أهل الكوفة ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير » . ومنها : « أن قريشا تريد أن تكون مغویات مال الله » أي مصائد تحتجنة لها دون عباد الله ومنها : « تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وانزوا على الخيل نزوا» أي تزيوا بزي العرب من عدنان ومنها : « فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين ، ولا تلقوا بدار معجزة » أي تقيموا ومنها : « فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع ولا الذی بایعه تغرة أن يقتلا» أي أن يتعرضا للقتل ومنها : « ... ان الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة ، فافهموا ما توعظون به ، فان الحريب من حرب في دينه » بريد المسلوب ومنها وقد بامرأة سافرة ابرزها زوجها فقال : « هذه الخارجة وهذا المرسلها لو قدرت عليهما اشترت بهما ) أي لأغلظت القوله لهما ومنها لما سألوه لم حصب المسجد فقال : « هو أغفر للنخامة وألين في الموطن » أنى أستر للبصاق ومنها : « ثلاث من الفواقر: جار مقامة ان رای حسنة سترها ، وان رأي سيئة أذاعها ، وامرأة أن دخلت عليها لسنتك وان غبت عنها لم تأمنها ، وسلطان أن أحسنت لم يحمدك ، وان أسأت قتلك » ولسنتك : أي تناولتك بلسانها ومنها وهو يخاطب سعد بن عبادة يوم السقيفة : « لقد هممت أن أطاك (1) أي غبار ۰ (۲) شدة الصوت . (۳) احتجنته : اذا جذبته بالمحجن الى نفسك • (4) أي منكنيفة . (9) أي يظهرها : (6) أي فرشته با سی (4).. (o) E [204]۲۰۱ حتی تندر عضدك ، أي تسقط ومنها وهو تكلم عن امرىء القيس : « خسف لهم عين الشعر فأفتقر عن معانی اور اصح بصر » أي استنبط عين الشعر وشق طريق المعاني وأتي بالشوارد الحسان ومنها وهو يتكلم عن نصيب المسلمين في الغنائم و بیت المال : « والله لئن بقيت ليأتين الراعی بجبل صنعاء حظه هذا المال وهو مكانه قبل أن وجهه » أي قبل أن يخجل ويحمر وجهه في ومنها قوله لاعرابي استفتاه في صيد ظبي وهو محرم : « أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا !»، أي نعيبها ولا ترضاها ! من حمر طلبه • G
* *
وانما هي (1) (۳) وأشباه هذا كثير لا تخلو منه خطبة أو حديث أو کتاب ، تعمدنا أن نكثر شواهده لنرى أنه ليس بالمصادفة وليس بالتكرير لنمط واحد من العبارات ويلحق بهذا تسمية مواليه بين أسبق وأسلم ويرفأ وفرقد وذكوان و فروخ وما شابه هذه الأسماء . وهي تسمية مفردة تكاد تقتصر عليه ، الطبيعة العمرية تمثلت في صيغة الكلام وفي اختيار الأعلام . فلا تستطيع أن تسميها اغرابا أو عسلطة أو تعملا بنحو من أنحائه، اذ ليس وراءها قصد متفق في هذه الصيغ ، وأبين ما يبين فيها أنها البداهة هنا وهناك ، وانها تترجم عن الطبيعة العمرية أصدق ترجمة وأشبهها بصاحبها ، فهي قوية خشنة مستقلة جادة خالية من الزخرف . وهكذا كان المتكلم وهكذا كان كلامه الذي ينطبع عليه حين يكون منطبعا على التعبير ، فلو أن كلمات تتمثل رجلا لتراءى لنا مثال هذه في خلقه وخلقه كما كان من عفو عمر من الكلمات شخص عمر
کان عمر من ومحصل هذه الأخبار جميعا أن نخبة المثقفين في العربية ، وكان وافر السهم في ثقافة قومه وعصره ، وكان الجانب العملي من (1) الاغراب : الإتيان بالغريب (۲) الكلام بلا نظام ، و كلام معسلط : مخلط ۰ (۳) أي تصنعا . (4) أي الحظ .
. [205]موقفه .. أغلب وأظهر من جوانبها النظرية، كما هو المعهود في ساسة الأمم وعواهل) الدول ، وان كان هذا لا يمنع أنه اشتاق الى نفائس الشعر ، و أطايب الأدب، لما يجده فيها من راحة النفسي، ومتعة الخاطر ويستطرد بنا الكلام على ثقافته العربية إلى الكلام على موقفه من الثقافات الأخرى في زمانه ، وعلى حقيقة الرواية التي شاعت وتواترت عن مكتبة الاسكندرية التي قيل أنه أمر بإحراقها ، فهل هو الآمر باحراقها كما جاء في تلك الرواية ? .. واذا كان هو الأمر بذلك فما دلالته على تفكيره ? وما وجهد المتبعة فيه ؟.. فحوى تلك الرواية بأن عمرو ابن العاص رفع اليه خبر المكتبة الكبرى في الاسكندرية ، فجاءه الجواب منه بما نصه : « أما الكتب التي ذكرتها فان كان فيها ما يوافق كتاب الله قفي كتاب الله عنه غني : وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة اليه ، فتقدم باعدامها » قال مفصل هذه الرواية : فوزعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة ومضت ستة أشهر قبل أن تستنفد لكثرتها ! .. وأحرى شيء أن يلاحظ في مسألة المكتبة هذه أن الذين ادحضومة وأبرأواء عمر من تبعتها كان معظمهم من مؤرخي الأوربيين الذين لا يتهمون بالتشيع للمسلمين ، وكانوا جميعا من الثقات الذين يؤخذ بنتائج بحثهم 6 (1) في هذا الموضوع : ما وه فالمؤرخ الانجليزي الكبير ادوارد جیبون Gibbon صاحب کتاب ير الدولة الرومانية في انحدارها وسقوطها » يسرد الحكاية ويعقب عليها قائلا : « أما أنا من جانبي فاتنی شدید الميل الى انكار الحادثة وتوابعها على السواء ، لأن الحادثة العجيبة في الحق كما يقول مؤرخها اذ يسألنا هو أن نسمع جری ونعجب ! وهذا الكلام الذي يقصه أجنبي غريب يكتب على تخوم ميدية بعد ستمائة سنة يوازنه ويرجح عليه ولا شك سکوت اثنين من المؤرخين كلاهما مسیحى وكلاهما مصری ، وأقدمهما البطريق يوتيخيوس Eutychius الذي توسع في الكتابة عن فتح الاسكندرية ، وان القضاء الصارم الذي نسب الى البغيض الى (۱) جمع عامل ، والعاهل : الملك الأعظم كالخليفة ۲۱۰) أدحضوها : أبطلوها عمر f . [206](۳) (6) أنتونين الى عصر . " أصحاب الفهم الصحيح المستقيم من فقهاء المسلمين الذين يفتون بتحريم احراق الكتب الدينية التي تغنم من اليهود والمسلمين في الحرب ، وما كان من الكتب دنيويا لثينا" سواء ألفه المؤرخون أو الشعراء أو الأطباء أو الفلاسفة فحكمهم فيه أن يستخدم على الوجه المشروع لمنفعة المؤمنين وقد تعزى الى مقدمي الخلفاء بعد محمد غيرة أخرى من ذلك بالهدم والابادة . ولكن لو صح هذا لوجب أن تنفذ الأوراق سريعا لقلة المادة المحترقة !.. فلا نرجع الى نكبة المكتبة في الحريق الذي أصابها على غير قصد بیدی قیصری وهو يدافع عن نفسه ، ولا الى تعصب المسيحيين الأوائل الذين كانوا يدبرون الوسائل تدبيرا لتعفية الآثار المتخلفة من أيام عبادة الأصنام ، ولكننا ننحدر شيئا فشيئا من عصر ثيوديسيوس فنعلم من سلسلة الأنباء المعاصرة أن القصر الملكي وهيكل سرائیس لم تبق فيهما تلك الأسفار التي جمعها البطالسة وبلغت في احدی الروايات أربعة آلاف وفي رواية أخرى سبعة آلاف ، ولا يبعد أن تحفل الكنيسة ومعهد البطارقة بذخيرة من الأوراق والأضابير ، فان كانت هذه هي الوقود الذي أفنته الحمامات بما كان فيها من جدل بين القائلين بعديد الطبيعة المسيحية والقائلين بتوحيدها فقد يرى الفيلسوف وعلى فمه ابتسامة أنها كانت في الحمامات أنفع لبنتى الانسان !.. » والدكتور الفرد بتلر Butler المؤرخ الانجليزي الذي أسهب في تاريخ فتح العرب لمصر والاسكندرية يلخص الحكاية وينقضها ابتداء لأن حنا الذي قيل انه خاطب شمرو بن العاص في أمر المكتبة لم يكن حيا في أيام فتح العرب لمصر .. ثم ينقضها لأسباب شتى منها أن كثيرا کتب القرن السابع كانت الرق" وهو لا يصلح للوقود ، وانها لو قضى الخليفة باحراقها لأحرقت في مكانها ولم يتجشموا نقلها إلى الحمامات مع امکان شرائها الحمامات بعد ذلك بأبخس الأثمان ، واننا لو صرفنا النظر عن الكتب المخطوطة على الرق لما كفى الباقي من ذخائر المكتبة الوقود أربعة آلاف حمام مائة وثمانين يوما ، (1) المنهم : (۲) أي تنسب ۰ (۳) أي أشد ۰ (4) يقال : عما المنزل : . (5) نوع من الجلد الرقيق يكتب فيه . (1) اي تكلفه على مشقة فلبيوتوس (0) من (1) ما فيه من التعب من أي درس و [207](1) ه ه ة أوهام عن وهذا عدا الشك الذي يعتو القصة من تأخر كتابتها زهاء خمسة قرون ونصف قرن بعد فتح الاسكندرية ، ثم كتابتها بعد ذلك خلوا من المصادر والاسناد ، بل هذا عدا ما قيل من احتراق المكتبة في السنة الثامنة والأربعين للميلاد ، وفيما تلا ذلك من الفتن والقلاقل بين طوائف المسيحيين والمستشرق کازانوفا يسمى الحكاية أسطورة ويقول انها نشات بعد تاريخ الحادثة بستة قرون ، وينقضها لمثل الأسباب التي تخصناها من كتاب بتلر ، ثم يقول : وهنالك أعتراض أخطر مما تقدم وهو أن ما ذكر عن يحيى النحوی منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر ، وفيه أن يحيی هذا عاش حتى فتحت مصر وكان مقربا من عمرو ولم يذكر شيئا عن مكتبة الاسكندرية . فحادثة المكتبة اذن ابن القفطي أخذها عن خرافة كانت شائعة في عصره ) ثم يمضي في تفنيده فيقول : « وقد تساءل ابن خلدون مخلفات الفرس والأشوريين والبابليين والقبط التي حرقها عمر عند فتح العرب وقال ابن خلدون في كلام آخر : ان العرب لما فتحوا بلاد الفرس بسأل بن ابی أبي وقاص عما أمر به في شأن الكتب التي بها فأمره بالقائها فی اليم " فانتقلت القصة فارس الى الاسكندرية مع الزمن ، وفل الخيال فعله في تحريفها « وقد وقع تحريف في هذه الخرافة في بعض دوائر المعارف حيث نقل عن سبرنجل أن مكتبة الاسكندرية حرقها العرب عند فتح مصر وأن الخليفة المتوكل أنشأها من جديد ، وأن الترك فتحوا الإسكندرية سنة ۸۹۸ وأضرموا فيها النار على عهد أحمد طولون ... ولكن أحمد طولون لم يفتح مصر ، وانما أقامه خليفة بغداد حاكما عليها . فلا علاقة للترك اذن بهذا الحادث المزعوم » قال : « وفي سنة ۱۸۷۷ ذكر الكونت دی لندبرج أن أحد الضباط الانجليز اتهم نابليون الأول باحراق مكتبة الاسكندرية » قال : « وسلم هنا بالسبب الذي من أجله ظهرت هذه الخرافة في (1) أي يعيبها . (۲) اللوم و تضعیف الرأي : (۳) اليوم : البحر • (4) أضرموا : أي أشعلوا عم من - ه . 6 . [208]منه
(1). القرن الثالث عشر ولم تظهر قبل ذلك » ... « ففي أواخر القرن الثاني عشر رجعت مصر الى حكم خلفاء بغداد وأبلى صلاح الدين بلاءه في الحروب الصليبية واتصر على المسيحيين فلقبه الشعب بفاتح مصر ، وقرن بين اسمه واسم عمر بن الخطاب وكان الابن القفطى أب يعجب بصلاح الدين ولاه صلاح الدين قضاء القدس ، وعاصر عبد اللطيف البغدادي وهو من المعجبين مشله بصلاح الدين ، فتلاقيا في القدس وسمع هذه الأسطورة التي توسع ابن القفطي في نقلها . فكان أول من الف هذه الأسطورة من حاشية صلاح الدين لتزكية حاكم مصر الجديد . ومما يروى عن صلاح الدين ، انه باع كنوز القصر والمكتبة فبقيت هذه الرواية الى القرن الثامن عشر یوشیها ما ينسجه الخيال حول الخرافة العمرية . ثم اتخذت صورتها التاريخية منذ ذلك العهد تعززها خرافات أخرى لحقت بعمر ووافقت معنى قوله الا كتاب الله » ومن المشارقة الذين تناولوا حكاية المكتبة المؤرخ الكبير جورجی زيدان في الجزء الثالث من كتابه « تاريخ التمدن الاسلامي ) حيث قال : انه كان يميل إلى نفي الحكاية ثم عدل عن ميله هذا إلى قبولها وأورد من أسباب ذلك « ان حكاية احراق مكتبة الاسكندرية لم يختلقها أبو الفرج تعصب دینی ، ولا دسها أحد بعده ، بل هو نقلها عن ابن القفطى وهو قضاة المسلمین عالم بالفقه والحديث وعلوم القرآن واللغة والنحو والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ، وكان مصدرا محتشما الكتب ما لا يوصف وكانوا يحملونها اليه من الآفاق وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار . ولم يكن يحب من الدنيا سواها وله حكايات غريبة عن غرامه بالكتب ولم يخلف ولدا فأوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب ، وله مؤلفات عديدة في التاريخ والنحو واللغة وفي جملتها كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين في ستة مجلدات و کتاب تراجم الحكماء الذي نحن في صدده (1) الوشي : نقش الثوب و تزيينه ، ومعنی پوشیها : يزينها ويحسنها . (۲) تعززها : أي تقويها قاض من [209]بعد نضج عمر الخلفاء الراشدين عندنا صدق وان ابن القفطي وعبد اللطيف البغدادي أخذا عن مصدر ضائع . وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة ، فلا بد له من سبب ، والغالب أنهم ذكروها ثم حذفت التمدن الاسلامی و اشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب فاستبعدوا حدوث ذلك في فحذفوه أو لعل لذلك سببا آخر ، وفي كل حال فقد ترجح رواية أبي الفرج ونرى نحن أن ابن القفطى كان أولى ممن تقدموه بالسكوت عن حريق المكتبة بأمر الخطاب لو كان الذين تقدموه قد سكتوا عنه العرفانهم قدر الكتب وغيرتهم على سمعة الخلفاء الراشدين ، فان ابن القفطي لا يجهل قدر الكتب ولا يسبقه سابق من المؤرخين في المغالاة ابنفاسة المكتبات . فلا بد من تعليل أصوب من هذا التعليل لسكوت المؤرخين المسلمين والمسيحيين الذين شهدوا فتح مصر عن هذه الحكاية إلى أن نجمت بعد بضعة قرون عمر بن
6 6 فمن جملة هذا العرض لآراء نخبة من الثقات في هذه المسألة يحق لنا أن نعتقد أن كذب الحكاية أرجح من صدقها ، وانها موضوعة في القرن الذي كتبت فيه ولم تتصل بالأزمنة السابقة له بسند صحيح ، وربما كانت مدسوسة على الرواة المتأخرين للتشهير بالخليفة المسلم وتسجيل التعصب الذميم عليه وعلى الاسلام واذا كانت هذه الحكاية من تلفيق النيات السيئة فالمعقول ألا توضع قبل القرن السادس الهجري الذي تسربت فيه الى الكتب المدونة ، وهذا يفسر لنا كل غموض يستوقف النظر في الحكاية من جميع أطرافها لأن تلفيق هذه الحكاية يستلزم عناصر شتي لا تجتمع كلها في وقت واحد قبل القرن السادس للهجرة فهو يستلزم أن يكون المتفق عليها بالأقوال والأحوال التي أثرت عن الخطاب وفيها ما يجعل حكاية المكتبة قرية التصديق مشابهة لما (۱) نجم الشيء : ظهر وطلع • (۲) أي الفبيع المذموم عمر بن [210]ما دونت لأنهم يتوخاه الخليفة في أوامره ونواهيه ... ولم تكن هذه الأقوال والأحوال معلومة مستفيضة الخبر بين المسلمين أنفسهم عند فتح الاسكندرية فضلا عن المسيحيين أو الاسرائيليين ، وانما عمت واستفاضت بعد السير وجمعت المتفرقات ويستلزم تلفيق الحكاية ، للتشهير بالخليفة المسلم ، أن يكون الملفق عارفا بما في هذه التهمة من المعابة ، شاعرا بما فيها من الاعتساف" والغرابة ولم يكن هذا أيضا مفهوما في أيام فتح اسكندرية بين خصوم الاسلام ، كانوا قد تعودوا احراق الكتب والتماثيل واعتبار الوثنية وبقاياها رجسا من عمل الشيطان يستحق نار الدنيا قبل نار الجحيم ، وما من عارف بالكتب بينهم الا كان يستمع بحماسة القياصرة المسيحيين في تدمير التحف الإغريقية ولا سيما « ثاودیسیس » الذي أحرق هياكل شتى فيها ولاشك كتب كثيرة من بقايا المكتبة التي عليها الخلاف وقد يستلزم تلفيق الحكاية أن تكون مصر وأخبارها موضع اهتمام ومثار قیل و قال ، ولم تكن مصر قط قبلة أنظار العالم كما كانت في أوقات الحروب الصليبية ، کانت ميدان الفصل ومناط الظفر والهزيمة بين جيوش الدنيا المحشودة فيها أو على أبوابها وقد يستلزم كذلك أن يكون العصر عصر حزازة بين الاسلام وخصومه كما كان عصر الحروب الصليئة وما قبله بقليل . أولئك أن يشترك في القيل والقال حافظو الكتب الإغريقية في بيزنطية وشواطيء آسيا الغريبة وهي البلاد التي كانت موطىء أقدام الجيوش في الكر والفر والقدوم والاياب ، ومنها تدفق حافظو الكتب الى أوربا عندما أغار الترك على بيزنطية فتلفيق الحكاية اذن كان عجيبا في أيام فتح الاسكندرية وما تلاها من الأزمنة الى زمان القفطى والبغدادي وأبي الفرج الملطى ، ولهذا لم تظهر حكاية المكتبة في تلك الأيام و تلفيقها في عصر الحروب الصليبية غير عجیب الاجتماع الأسباب التي (1) أحاديث ملفقة : أي أكاذيب مزخرفة . (۲) يتحراه ويقصده ۰ (۳) الأخذ على غير الطريق (4) القذر " (5) وجع في القلب من غيظ هی ¿ وقد يستلزم مع جميع من تلك الأرجاء 6 [211]يستلزمها ذلك التلفيق ، ولهذا ظهرت فيه وأمدنا نلهورها فيه بالسبب الذي يبطل العجب ويفسر الغوامض التي لا يفسرها تعليل معروف غير هذا التعليل
تلحقه عصر الا أننا على الرغم من كل هذا نفرض أن عمر بن الخطاب أمر باحراق مكتبة الاسكندرية ، فما الوصمة التي هذا الأمر؟.. ولماذا کان يحرم عليه أن يحرقها ويجب عليه أن يستبقيها ويفتح أبوابها ؟ .. ولماذا كان ينبغي أن يكون على يقين أنها شيء مفيد للمسلمين ولغيرهم من الأمم ، وأنها ذخيرة من ذخائر العالم لا يجوز التفريط فيها ? .. أمن النقص في تفكير الإنسان أن ينشأ بمعزل عن بلاد اليونان وعن حكماء اليونان فلا يطلع على الفلسفة اليونانية ?.. أكانت فائدة تلك الكتب واضحة كل الوضوح من أحوال أقوامها الذين حفظوها ، ان صح أنهم حفظوها ؟ أن أحوال الروم والقبط في ذلك العهد لم يكن فيها دليل واحد على أنهم محتفظون بينهم بمعرفة نفيسة ، وان ضياع كتبهم فيه ضياع الذخيرة ذخائر العالم التي لا يجوز التفريط فيها فقد كانوا على شر حال الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفساف الأمور . فاذا كان عمر غیر مطالب بعلم اليونانية أو غير ملوم على فوات الاطلاع عليها ، وإذا كانت أحوال الأمم أهلها لا تدل على قيمتها بل تسوغ "الاعتقاد بخلوها من كل قيمة ، فأین العيب في تفكيره آن صح انه فکر على ذلك المنوال { .. الانسان أن يكون عدوا للمعرفة على اطلاقها ، ولم يكن عدوا للمعرفة ولا رضا عنها ، بل كان مشغوفا بها حيث رآها ، دينية كانت أو أدبية ، ومن قومه أتت أو غیر قومه فكان يستشير الغرباء في تدوين الدواوين ومنافع الصناعة ولا ينهى علم شيء الا أن تكون فيه فتنة أو ضلال (۱) العيب والعار : (۲) تجيز . الفلسفة التي هي 6 { هو انما هسب عمر مهر من عن . [212]ب-۲۱ 6 وكان ولا ريب يؤثر للمسلمين أن يقبلوا على دراسة القرآن ويقدموا فهمه على فهم كل كتاب ، وهذا واجبه الأول الذي لا مراء فيه ، وما من أحد مطالب بهذا الواجي قبل أن يطالب به عمر على التخصيص ، لأنه الخليفة الذي في عهده انتشر المسلمون بين أقطار المشرق وخيف عليهم أشد الخوف أن ينحل العقد الذي جمعهم وبث فيهم الهمة والبأس هو وسودهم على العالمين .
(T). . عمر وفي الأخبار التي تقلت بهذا الصدد، أن رجلا أنبأه أنهم لما فتحوا المدائن أصاب كتابا فيه كلام معجب . فسأله : أمن كتاب الله ؟.. فقال : لا ... فدعا بالدرة فجعل يضربه بها وهو يقرأ : « الر . تلك آيات الكتاب المبين ، أنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ... ) ثم قال : « انما أهلك كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والانجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم » رويت هذه الرواية عن عمر بن میمون عن أبيه ، وليس فيها ما يأباه العقل ولو حكمنا على عمل عمر بحكم الدنيا وحكم التجربة الواقعية و تركنا حكم الدين والايمان الى حين فبالتجربة الواقعية أيقن أن المسلمين بكتابهم خرجوا من الظلمات الى النور وانتصروا على من حاربوه وعندهم كل كتاب وما فرغ المسلمون بعد من قراءة القرآن ولا انقضت على تداوله، بينهم سنوات . فكيف يرضي الخليفة الذي يهمه أمر رعاياه أن ينصرفوا عنه الى کتب لا يؤمن ما فيها .. وكيف يكون الحال اذا تفرقوا شذر مذر ولهم في كل بلد قراءة غير هذا الكتاب الذي لم يفرغوا منه ولم يستوعبوا كل ما فيه ؟.. أمن عداوة المعرفة هذا أو من ایثار المعرفة التي تتقدم على غيرها .. واذا لم تتقدم هذه المعرفة على غيرها في السنوات الأولى من تداول القرآن الكريم فمتى تتقدم .. ومتى يعطى القرآن حقه الفقه والوعي والاقبال ? .. وأين هي الغنيمة الروحية التي تعدل في كتاب من الكتب بعض ما غنمه المسلمون بوحي القرآن في صدر الإسلام .. (1) أي ينفرط - (۲) أي جملهم سادة • (۳) الآية : ۲۰۲ من سورة من ? يوسف [213]ه۲۱ 6 ذلك أنه عدو فعلى أي فرض من الفروض ، لم يكن في تصرف عمر ما يأباه العقل الذي ينظر إلى الحقائق المشهودة والآثار الواقعة ، ويجوز أنه أمر باحراق مكتبة الاسكندرية على أبعد احتمال ، ولكن الذي لا يجوز لمنصف أن يفهم من الثقافة وهو الأديب الفقيه الخطيب ، وهو قد وازن بين معرفة ظاهرة النفع ، ومعرفة مجهولة ظواهرها كلها تغری باتهامها . ولا لوم عليه أن يولد حيث يجهلها . ولا لوم عليه أن يتهمها وهي لم تنفع أهلها يوم رآهم يخبطون في الضلالة والهزيمة ، ولا يقال عقل يفكر هذا التفكير أنه لم يفكر على هدي مستقيم -- شن لے (1) يخبطون : أي يضربون .
تصنيف:
عبقرية عمر
===============
عُمر في بيته
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/عمر في بيته
[214]عمر في بيته (1) كان الخليفة الأكبر - صاحب الأمر في الجزيرة العربية ، وصاحب الغلبة على ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة ، ومدير الحكم في الرقعة الوسطى بين قارات العالم المعمور - رجلا فقيرا يعيش في بيته عيشة و يقنع من الغذاء والكساء بحظ لا يتمناه كثير من الرجال ، و يزهد فيه كثير من فمن غير العجيب أن يخطب بعض النساء فيأبين عيشه ، وقد أبي مثل هذا العيش نساء النبي عليه السلام ، فلم يقبلنه الا وقد خيرن بينه وبين الكناف"، النساء 1 الطلاق I. 6 {۴) .. من وما تدري أي الشهادات الحكم الخليفة الأكبر أغلى وأجمل ، فان الشهادات لحكمه أكثر من أن تحصى، وهي جمیعا مما تغالی به السير وتزدان بجمانه . ولكنا لا نعرف بينها ما هو أغلى وأجمل من هاتين الشهادتين : أن يعيش في بيته عیشا لا يشتهى ، وأن تكون في يده صولة الملك فلا ترى فيها امرأة من النساء خلابة ثغره ها ولا ضولة تخيفها أن ترفضها وتأباها ان امرأة واحدة ترفض عمر لأغلى في الشهادة له ألف امرأة يقبلن على بيته ويطمعن في سلطانه وقد وصفته امرأة خطبها ورفضته وصفا ، ، لم نسمع فيما قيل عن ايمانه بالله أصدق منه ولا أوجز وأوفي ، فقالت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة : انه رجل « أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه ، كأنه ينظر الى ربه بعينه ) والذي نعنيه من الوصف هو قولها عن مخافته الله انه كان يخافه كأنه يراه بعينه فهو في الحق أصدق وصف لايمان هذا الرجل المتفرد بايمانه كما تفرد (1) الكفاف من الرزق : ما كف عين الناس. وأغنی • (۲) الخديعة واختلبه : خدعة ، وخلاب وخلبوب : البرق، والخداع الكذاب ۰ (۳) اي تخدعها اا . [215]۲۱۷ . (۱) (۲) معمر هور بكثير من شؤونه . انه تجاوز حد الامان الى حد الرؤية والعيان ، وحقق مبالغات أبي الطيب المتنبي حين وصف الغاية القصوى من الشجاعة والحكمة فقال : تجاوزت مقدار الشجاعة والنهي إلى قول قوم أنت بالغیب عالم ومهما يكن من اعان بالغيب فهو لا يبلغ في اليقين والحضور مبلغ الرؤية بالعين ، وهي قولة عائرية من قائمة أصابت ما لم يصبه قائل ، ولعلها لا تدرى مدى صوابها
.وخطب عمر أم كلثوم بنت أبي بكر الى أختها أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها فقالت له : الأمر اليك ، ثم سألت أختها فأبته وقالت : لا حاجة لي فيه . فزجرتها قائلة : أترغبين عن أمير المؤمنين ?.. قالت : : نعم ، خشن العيش شديد على النساء . وكرهت عائشة أن تجبهه بالرفض فوسطت في الأمر عمرو بن العاص يحتال له برفقه وحسن تدبيره ، فجاء وفاجأه قائلا : بلغني خبر أعيذك بالله منه . قال : ما .. قال : خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر .. قال : نعم ، أفرغبت بي عنها أم رغبت قال : لا واحدة ، ولكنها حدثة "نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في الين ورفق ، وفيك غلظة ، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن أخلاقك ، فكيف بها ان خالقتك في شيء فسطوت بها .. كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك !.. ففهم أن ابن العاص لا يقدم على هذه الوساطة بغير موسط ، وان في الأمر ممانعة على نحو الأنحاء يستطلع ما وراءه من الممانعة : كيف بعائشة وقد كلمتها .. قال : أنا لك بها ، وأدلك على خير منها : أم كلثوم بنت على بن ابی طالب ، تعلق منها ينسب رسول الله وأم كلثوم بنت على حدة أيضا ، والمحظور في اغضابها أكبر من المحظور في اغضاب بنت أبي بكر ، وان اعتمد ابن العاص على أن عمر يملك نفسه فلا يغضبها فقد كان حريا به أن يعتمد على شيء من ذلك في (1) رغب بالشيء : أراده ، ورغب من الشيء : لم يرده (۲) أي نواجهه ۰ (۳) أي صغيرة السن (4) الجانب . (5) القهر بالبطش {۴} [1] بها عني } (4) خلق من عمر .. فسأله كأنه
من [216]-۲۱۸ .. 6 خطبته لبنت الصديق فلن يفوت عمر - وهو يعلم من يخاطبه في الأمر - أن يفهم خبيئة سعيه وأن يتجاهله لئلا يكشف موقف الرفض والاعتذار عائشة واختها رضي الله عنهما ، ويعمل بما يراه الصواب والطريف في القصة - وكلها طريف - أن يذهب عمرو بن العاص الى خليفته ليواجهه بما يؤخذ عليه من خلائقه وهو آمن أن يغضبه ، بل هو فوق ذلك واثق من موافقته اياه ما دام على صدق في مقاله وللمرأة أن تأبي الخشونة في رجلها ولا تستريح اليها ، ولكن دارس الأخلاق لا ينبغي أن يعيب هذه الخصلة الا بمقدار ما فيها من نقص في الطبائع الانسانية الأصيلة اذ المحقق أن الخشونة حرمان من الصقر) والمرونة ، ولكننا نخطىء كل الخطأ انحسبناها حرمانا من البر والرحمة ، لأن المرء قد يكون ناعم الملمس وهو قاس مفرط القسوة ، ويكون خشن الملمس وهو رحيم مفرط الرحمة ، ويغلب في هذه الحالة أن تكون خشونته - كما أسلفنا في فصل سابق - درعا يستر بها مواضع اللين في خلقه ، وضربا من الخجل أن يطلع على ناحية فيه يتطرق اليها الضعف وتنفذ منها الرماية .. فالخشونة نقيض الصقل والنعومة ، وليست نقيض العطف والرحمة . وعمر بن الخطاب من أفذاذ الرجال الذين تتجلى فيهم هذه الحقيقة أحسن جلاء ، حتى في علاقاته بالأمل والنساء . رحمة عمر رحمة في غلاف وليست بالرحمة المكشوفة لكل ناظر ولامم ، ولا تطول بالناس عشرته حتى ينقش هذا الغلاف عن قلب وديع مفعم بالعطف والمودة ، مفتح الجوانب لكل عاطفة كريمة ولو لم تكن من ولي حميم . فنساؤه اللائي عاشرنه قد كلفن بحبه ورضين عيشه لرضاهن بمودته وعطفه ، وكانت احداهن التي سميت العاصية وسماها النبي عليه السلام الجميلة لا تطیق فراقه . فاذا خرج مشت معه الى باب الدار فقبلته. ولم تزل في انتظاره (۱) ما خبيء وغاب . (۲) الجلاء 0 (۳) يذهب . (4) مليء . (5) أي قريب { (1) . [217](1) (۲)
(1) وكانت نسائه عاتكة بنت زيد ، وهي على قسط وافر من الجمال ومن الدين ومن البلاغة ، توله في رائه حين قتل لم يكن بكاؤها عليه کبكاء كل زوجة على كل زوج فقید ، وتعددت قصائدها في تأبينه بكلام لايغيب عنه صدق المدح ولا صدق الحمرة ، وهي التي قالت فيه : عصمة الناس والمعين على الده وعيث المتتاب والمحروب قل لأهل الضراء والبؤس موتوا قد سقته المنون كأس شعوب وقالت فيه : رؤوف على الأدنی غلیظ على العدا أخي ثقة في النائبات منیب متى ما يقل لا يكذب الله قوله سريع الى الخيرات غير قطو وقالت فيه : جسد الفن في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد وقالت فيه : يا ليلة حبست على نجومها فسهرتها والشامتون هجوة قد كان يسهرني حذارك مرة فالیوم حق لعيني التسهي) ولا يبكي الرجل هذا البكاء على ما فيه عيشه وراء خشونته مودة قلب تنفذ إلى القلوب وأكثف ما تكون الدروع أرق ما يكون الموضع الذي يليها وأخوفه من الاصابة . فانظر أين الموضع الحصين المحمي فهنالك الموضع اللين الذي يخاف عليه ، ولا يخدعنك عن ذلك خادع من اظهار أو تظاهر غير مشعور به ، وغير مقصود أين أكثف ما تكاثفت الغلظة فيه من درع عمر التي عنيناها 3 .. المرأة ولا نزاع ! .. فعلى المرأة كانت له غيرة اشتهر بها وعدت من دلائل شدته عليها ، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أن الله غيور يحب الغيور ، وان عمر غیور » (۱) ذهاب العقل ، والتحير من شدة الوحدة • (۲) البناء على الشخص بعد موته . (۳) سلب ماله ، فهو محروب (4) المنية (5) الذي زوی ما بين عينيه ، (6) أي نائمون ' (۷) الأرق الشظف، الا ومن من . . [218]۲۷, هی وعلى المرأة ومن المرأة كان حذره أن تخايل للعيون وتتبرج في مضطرب الغتون وكلما أوصى بوصية فيها فانما الفتنة التي يتقيها ، فلما قال : عليكم بالأبكار . لم يقل عليكم بالأبكار. لأنهن أمتع وأنضر ، ولكنه قال عليكم بهن لأنهن أكثر حبا وأقل خبا) ولما توجس من زواج المسلمين ببنات الأعاجم لم يتوجس منه لأنه حرام بل لأن « في نساء الأعاجم خلابة فان أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم ) فالخلابة هي المحذور الذي يتقی وهنا كثافة فابحث هنا منفذ الحذر ، انك لا تبعد كثيرا حتی تلمس الموضع الذي تم عليه الرجل حيث قال : « لو أدركت عفراء وعروة جمعت بينهما » أو نم عليه الصبي الذي عناه ابن الخطاب حيث قال : و أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي فاذا احتيج اليه كان رجلا » ومتى كان فرط الغيرة على المرأة أو الحذر منها دليلا على أنها ذلك الشيء المهين ، وان قال الغيور الحذور بلسانه أنها لشيء مهين ؟ .. الدرع عن ..
وابحث عن جانب واحد مغلق أو مقطوع من جوانب الرحم الذي بنغي أن يوصل فانك لن تجده في نفس هذا الرجل بتة ، وان جهدت في البحث فكان ابنا بارا لاينسى التحدث عن أبيه ويعتز بذكراه على ما كان من قسوته عليه في صباه ، ولم يزل يقسم باسمه حتى نهاه النبي ، فانتهى وهو يقارب الكهولة وكان أبا أبناءه ويعرف وجد الآباء بالأبناء ، وينزع من لا يحنو على صغاره ... أمر بكتابة عهد لبعض الولاة فأقبل صبي صغير حجره وهو يلاطفه ويقبله فسأله المرشح للولاية : أتقبل هذا يا أمير المؤمنين ؟ ان لي عشرة أولاد ما قبلت أحدا منهم و (۱) خبا : أي خداعا (۲) توجس : أضمر الخوف (۳) أي خداع (4) لا يحنو : لا يعطف وال پو و فجلس في ولا دتا أحدهم .. . . [219]عمر انما يرحم . (1)
... منی . فقال له : وما ذنبي ان كان الله عز وجل نزع الرحمة من فليك عباده الرحماء . ثم أمر بكناب الولاية أن يمزق وهو يقول : انه اذا لم يرحم أولاده فكيف پرحم الرعية 1.. وكان كلاب بن أمية الكناني في غزوة فاشتاق اليه أبوه الهرم "وحزن الغيابه ، واتصل نبؤه بعمر فكتب إلى قائد الجيش يستعيد كلايا الى المدينة . فلما عاد ودخل عليه سأله : ما بلغ من برك بأبيك . قال : كنت أكفيه أمره ، وكنت أعتمد أذا أردت أن أحلب لبنا أغزر ناقة في ابله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ، ثم أغسل أخلاقها حتى تبرد ، ثم أحلب له فأسقيه . ثم بعث الى أبيه فجاء يتراوح في مشيته ضعيفا بصره محنيا ظهره فسأله : كيف أنت يا أبا کلاب .. قال : كما ترى يا أمير المؤمنين ... ثم جاءه بلبن حلبه ابنه ففطن الرجل ، وقال وهو يدني الاناء الى فمه : العمر الله يا أمير المؤمنين اني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الاناء ! .. فقال : هذا كلاب عندك حاضر قد جئناك به . فوثب اليه ابنه ، وطفق" الأب الذي لم يكد يراه يضه ويقبله ... وبکی عمر ، وأمر كلابا أن يلزم أبويه ما بقيا ، وله عطاؤه كأنه يجاهد في سبيل الله حنانه على الأطفال أنه كان يشفق عليهم أن يحزنوا في لهوهم منهم حتى يأمن على لهوه و محصول لعبه ، فحدث سنان بن سلمة أنه كان في صباه يلتقط البلح في أصول النخل - بعض المبية اذ أقبل عمر فتفرق الغلمان وثبت هو في مكانه ، فلما دنا منه أسرع قائلا : يا أمير المؤمنين ! .. انما هذا ما ألقت الريح . قال : أرني أنظر فانه لا يخفى على . فنظر في حجره ثم قال : صدقت ، الا أن المبی لم يقنع بهذا حتى يحرسه أمير المؤمنين الى بيته . فقال : يا أمير المؤمين أ أترى هؤلاء الآن .. وأشار إلى الصبية الهاربين . ثم قال : والله لئن انطلقت لأغاروا على فانتزعوا ما معي ، فمشى معه عمر حتى بلغه بيته !.. وكثير على المصدقين المفرطين في التصديق أن يعرفوا هذا عن عمر ثم (1) كبر السن . (۲) أي ضرع الناقة ، أو حلمة فرعها . (۳) أي جعل عمر I. ومن ولعبهم فلا يترك الخائف . 6 6 [220]۲۲۲ الجاهنية نصنع من ناحية بكائها ومن من عمری عمر بصدقوا أنه وأد بنتا في الجاهلية على تلك الصورة البشعة التي انتقلت الينا في بعض الروايات ، وخلاصتها « انه رضي الله عنه كان جالسا مع بعض الصحابة اذ ضحك قليلا ثم بکی . فسأله من حضر فقال : كنا في مینما العجوة فنعبده ثم تأكله وهذا سبب ضحكي اما بكائي فلانه كانت لي ابنة فأردت وأدها فأخذتها معي وحفرت لها حفرة ، فصارت تنفض التراب عن لحيتی فدفنتها حية » فهي قصة يعتورها الشك ناحية ضحكها ومن ناحية اجتماعهما في لحظة واحدة لتمكين واضع القصة التفرقة بين في جاهليته واسلامه ، وادعى ما فيها من الشك تلك الخاتمة التي يتم بها اختراع الفجيعة و البلوغ بها الى ذروتها، وهي نفض الطفلة الصغيرة تراب حفرتها عن لحية ابيها . فالواد لم يكن بالعادة الشائعة بين جميع القبائل العربية . ولم يشتهر بنو عدی خاصة بهذه العادة ولا اشتهرت بها أسرة الخطاب التي عاشت منها فيما نعلم فاطمة اخت عمر وحفصة أكبر اولاده وهي التي كنی أبا حفص باسمها ... وقد ولدت حفصة قبل البعث الاسلامی بخمس سنوات فلم يئدها فلماذا واد الصغرى المزعومة وهي في السن التي تفهم فيها كيف تفض التراب عن لحية أبيها ؟ .. لماذا انقطعت أخبار هذه الصغرى المزعومة فلم يذكرها أحد من اخوانها وأخواتها ولا أحد من عمومتها وخؤولتها ? .. ما نحسبها إلا احدی جنایات الاعراب على من خلقوا وفي سيرتهم مثال للأغراب والاعجاب . فهى اختراعة تضعفها قرائن التاريخ ، وتضعفها خلائق عمر التي لا تتبدل هذا التبدل من النقيض إلى النقيض بين جاهلیته واسلامه . وقد كان عمر في جاهليته لم يسلم بعد يوم أشفق على أخته وهي دامية الوجه . وكان في جاهليته يوم احب أخاه وبقي عليه . فليس وتوع القصة المزعومة في الجاهلية مانعا لغرابتها ومقربا التصديقها . وغير هذا الأب وهذا الأخ يطيق هذه القسوة التي لا تطاق (1) أي يخالطها ۰ (۲) أي قمتها . . حبه المفرط 4 [221]6 (1) ان قليلا من الآباء من أحب أبناءه كما أحب عمر أبناءه ، وان قليلا من الاخوة من أحب أخا كما أحب عمر زيدا أخاه ، فما اسمه بعد مقتله الا سالت عبرته"، وما هبت الصبا ، كما قال الا وجد نسیم زيد وتمنى نظم الشعر لينظمه في رثائه بل ان قليلا الأصدقاء أخلص لأصدقائه وعشرائه كما أخلص الكل صديق وعشير وهو القائل : « لقاء الاخوان جلاء الاحزان وهو القائل حرصا على المودة وضنا بها : « إذا أصاب أحدكم ودامن اخيه فليتمسك به ، فقلما يصيب ذلك » من عمر
عليها وترفع (.) فاذا أردنا أن ننقب عن وشائج الرحم وصلات المودة في نفس هذا الرجل المهيب المخيف فلتنقب عنها في ينابيعها الخفية التي تسري منها وتترقرق في نواحيها ، ولا تنقبن عنها في الصخور التي تكتنفها وتطفو أعلامها .. أو نحن حريون أن تنقب عنها بين هذه الصخور والأعلام ولكن على هدى وبصيرة . فلا نقنع منها برأي العين من بعيد أو قريب ، ولا نفتر بما تبديه كانه كل شيء تحتويه . فما هذه الصخور والأعلام التي كانت تروع الناظر من هيبة عمر ومن ملامح سيماه ! .. هي مظهر قدرته على نفسه لا أكثر ولا أقل ، وهي الحارس اليقظ تلك النفس أن يتسرب اليها الوهن وأن تؤخذ على غرة؟ من حيث يخاف عليها والمرء لا يعتصم بقدرته على نفسه وهو آمن. ولا يوقظ الحارس على دخيلته وهو وادع في يعتصم بقدرته ويوقظ حارسه حين يحذر ، وانما يحذر من الطارق الذي لا يستهين به ولا يزال على رقبة ? الذي يحمی (۲) انما وقد كان عمر بن الخطاب أكثر ما يكون اعتصاما بقدرته في امس (۱) أي دموعه ۱ (۲) الحب ، (۳) اي روابط وعلائق • (4) فلنبحث (5) أي ترهب وتخيف . (6) اي غفلة . (۷) النفس . [222]۲۲ من مأتاه ، ويجفل من J .. . (6) 6 = الأمور بقلبه وسريرة طبعه : في خشية الخديعة من ناحية الترف والمتعة فهو لا يستسلم الشهوة مأكل ولا ملبس ولا قنية دنيوية . وفي خشية الخديعة ناحية ولده وأهله فهو يجفل من أن يرى لهم رزقا لا يعرف أن يرى لهم ابلا سمانا بين الابل العجاف، مخافة أن بسمنها لهم الناس في مراعيهم .. لأنهم ولد أمير المؤمنين وتلك ابل أبناء أمير المؤمنين .. وكان أكثر ما يكون اعتصاما بقدرته حين يلمح الفتنة الكبرى التي قتدر بها شيطان الغواية . وتلك هي المرأة لا فرق بين خيارها و شرارها . فمن شرارها استعذ بالله ! ومن خيارها کن على حذر ! .. واذا اعتصم عمر بن الخطاب بنفسه فانتظر شيئا واحدا لن تجد حولا عنه ، وهو تقديره العدل تقدير الخائف أن يزيد فيه شعرة أو ينقص منه شعرة . فمتى أعتصم بنفسه استيقظ وانتصر ، ومتى استيقظ وانتصر فللحق يقظته وفي سبيل الحق انتصاره يعرض شأن المرأة فهو الغيور الحذور ، وهو الواقف على الميزان فيما تعطاه وفيما تعطيه ، فلا هي بطالة ولا مظلومة في كل أمر يرجع اله فمن همه كان ألا تظلم لضعفها ، ولا تغبن لحيائها ، وخفرما ها(2) حقها عنده ألا تكره على زواج الرجل القبيح لأنها تحب لنفسها ما يخية الرجل لنفسه ، وأن يعرف لها عذرها حيث يعرف للرجل عذره في الصلة بينها وبينه . فسمع مرة اعرابية تنشد : فمنهن من تسقى بعذب" مبرد نقاخ فتلكم عند ومنهن من تسقى بأخضر اجن" أجاج) ولولا خشية الله فرت فتوهم في زوجها عيبا وأرسل في طلبه فاذا هو متغير الفم . فخيره وطلاقها .. فقبل الدراهم وطلقها وسمع امرأة من وراء بأبها تنشد : تطاول هذا الليل تسری کواكبه وأرقني الا خليل الاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره الزلزل من هذا السرير جوابا (۱) فيي الرجل : أي صار غنيا وراضيا • (۲) المنزعج . (۳) الهزال (4) أي تحولا (۹) بمعنى شدة الحياء • (6) الماء العذب البارد ۰ (۷) المساء المنغبر الطعم واللون : (۸) أي ملح مر • ومن (1) ذلك قرت (۷) بين خمسمائة درهم . [223]ه۲۲ فسأل عن زوجها فعلم خرج في غزوة طالت غيبته فيها ، فأمر بعد ذلك ألا تطال غيبة الأزواج في الغزوات ..۔ وكان يقبل شكوى المرأة من زوجها الذي يهمل النظافة والزينة لأن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم 4 وقبل شكوى المرأة من زوجها الخاض قبل الناء بها يوهمها أنه شاب وهو موخوط الرأس بالشيب ، فأوجعه ضربا وقال : غررت القوم النساء ( يحمين (1) 6 (T) ولم يكن يتحرج مع المرأة مثل هذا التحرج أن تستر من سيرتها ما لا يضير ستره ان عاق زواجها . فكاشفه رجل بأمر ابنة له أسلمت وأصابها حد من حدود الله ، فهمت أن تذبح نفسها ، فأدركها أهلها وقد قطعت بعض أوداجها فبرئت وتابت و استقامت على الهداية . فسأله : أأخبر القوم الذين يخطبونها بما تقدم من سيرتها في قال : ويلك ! . أتعمد الى ما ستره الله فتبديه ؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا الناس لأجعلنك نکالا.. « انكحها نکاح العفيفة المسلمة » . فهي أولى عنده ببعض المحاباة حين لا ضير في المحاباة ، وقد عاهد الناس فيما عاهدهم عليه « ليمنعن النساء الا الأكفاء » ونرى أنه قضى في الخلاف بين الزوج والزوجة بالقول الفصل في بناء الأسر وتعمير البيوت ، حيث قال لرجل هم بطلاق امرأته لأنه لايحبها : د أو كل البيوت بني على الحب ؟ .. فأين الرعاية والتذمم .. » فانه لبر بربات البيوت لم يدركه متحذلقة العصر الذين يلغطون بالحب والزواج ويجهلون أن الرعاية والتذمم أقمن بالدوام والتعمير من زواج بني على الحب وحده ، لأن الحب منوط بالأهواء التي تتغير بين آونة وأخرى . وأما مناط الرعاية والتذمم فهو الأخلاق التي قل أن يطرأ عليها من وقد استشار النساء فيما يحسن كما استشار الرجال فيما يحسنون ، (۱) الذي صبغ شعره بالحناء ونموها. (۲) خالطه . (۳) عرق بالعنق • (4) أي عرة لغيرك . (5) استنکف • (6) المشرقة الواضحة • [224]ولم يتعال قط أن ومن خطته اذا ردته عنه امرأة بالبيئة الصادعة ذاك أنه نهى الناس في بعض خطبه أن يزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية ، فصاحت به امرأة فطساء" من صفوف النساء : ما ذالك لك .. فلم يأنف أن يسألها : ولم 1 .. قالت : لأن الله تعالى يقول : « .. وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وأثما مبینا. فرجع عن.. .خطئه واعترف بصوابها (+),
.. وو فما للمراة من حق تعطاه وما ليس لها بحق لا تعطاه وتذاد عنه والذي ليس لها بحق في رأی عمر ورأى كل رجل في رجولة - ألا تتعرض لعمله الذي لا تفقهه ولا يرجع اليها في مثله ، ولا سيما أن كان شأنا من شؤون الدولة ومهمة من أخص مهام الرجال ، فتشفعت له امرأته في وال مقصر تسأله : فيم وجدت عليه .. فالتفت غاضبا وقال لها : وفيم أنت وهذا } .. انما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين ! كلمة لا تلبس القفاز الناعم ، ولم يخلق القفاز الناعم ليلبس في كل حين والذي ليس بحق للمرأة أن تعلو كلمتها على كلمة وليها ، وهذا الذي كان ينكره عمر على أهل المدينة حيث قال : «... کنا معشر قريش نغلب النماء فلما قدمنا على الانصار اذا هم قوم تغلبهم نساؤهم . فطفق نساؤنا يأخذن أدب نساء الأنصار . وصحت على امرأتي فراجعتتی فأنكرت أن تراجعني . قالت : ولم تنكر أن أراجعك ؟ .. فوالله أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وان احداهن لتهجره اليوم حتی الليل . فأفزعنی نعم هذا مفزع لعمر ، وقد كان ولا ريب مفزعا لرسول الله أن تعلو كلمة على كلمته في بيته . لكن بطريقة محمد في تغليب الكلمة طريقة نبي يوم متبعية ، وطريقة عمر طريقة مريد مؤتم بنبوة ، ولا جناح على عمر الا يلحق بشار محمد في كل ما سبق اليه (1) التي انغرس أنفها في وجهها • (۲) من الآية : ۲۰ من سورة النساء (۳) أي تدافع • (4) أي غضبت . (5) أي نجمل من . . [225]. . محمد انسان عظیم ، وعمر رجل عظيم . وهذا هو الفارق بينهما كما بیناه في مناسبة سابقة . وانما الفارق بينهما في المناسبة التي نحن بصددها أن الرجل العظيم يرحم المرأة كما يرحمها الجندي في معرض القوة والنضال ، ولكنه يأنف أن يستكين لسلطانها في معرض الهوى والفتنة ، فیکسرها ولا ينكسر لها اذا لجت في الغرور وانطلقت في عنانه . ومن ثم استصغر عمر ولده نفسه .. عبد الله - لأنه عجز عن تطليق زوجه . فلما أشاروا عليه باستخلافه قال لمن كلمه في ذلك : و ويحك ! کیف استخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته .. » أما الانسان العظيم فهو يشمل ضعف الانسانية كله ويعطف عليه ومنه ضعف المرأة في غرورها واعتزاز ها بدلال الضعف على القوة ، لأنه في حقيقته إعتزاز بمكانها منها وتقدير لتلك القوة في بعض نواحيها . فهو يرى في تكبر المرأة إذا كانت كبيرة عنده نوعا من الاعتراف بكبره ، وهو يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وأنتي ، لأن میدانه هو يشمل الميدانين مجتمعين اذ هو ميدان الانسان كله والانسانية جمعاء لا
عائشة رضي على أن شأن الرجل مع المرأة لا يظهر من رأى الرجل فيها كما يظهر من رأيها فيه : فبعد معاملة عمر للمرأة وقوله فيها يبقى له شأن في عالمها يظهر لنا من رأيها هي فيه... وقد أكبرت سيدة نساء العصر عمر فوصفته بأنه كان نسيج وحده ، وهي الله عنها ، وجمعت الشفاء بنت عبد الله بعض صفاته فقالت انه « کان اذا تكلم أسمع ، واذا مشي أسرع ، واذا ضرب أوجع ، وهو الناسك حقا » . وصاحت أم أيمن مرضعة النبي يوم أصيب : اليوم وهي الاسلام .. وعلينا نحن أن نسأل المرأة في عصر عمر عن مثال الرجل في عصرها ولا نسأل فيه نساء زمان غير ذلك الزمان . وما نخالنا نعرف رأى المراة يومئذ في الرجل الذي يكبر في عينيها كما نعرفه من امرأة هي: هند بنت (۱) وهي السقاء : تحزن وانشق ، ووهي الحائط : ضعف و كاد يسقط. [226]عتبة زوج ابي سفيان وأم معاوية ، فليس أقدر منها على الجواب ولا أصرح فيه . جاءها أبوها يشاورها في رجلين من قومها يخطبانها فاستخبرته عنهما فقال يصفهما : و أما أحدهما فقى ثروة وسعة من العيش ، ان تابعته تابعك وان ملت عنه حط اليك ، تحكمين عليه في أهله وماله ، وأما الآخر فموسع عليه منظور اليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب. مدره أرومته وعز عشيرته شديد الغيرة لا ينام على ضعة ، ولا يرفع عصاه عن أهله » . (۳) 6 فقالت : « يا أبت !.. الأول سید مضياع للحرة ، فما عست أن نلين بعد ابائها وتضيع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشر" وخافها أهلها امنت .. ماء عند ذلك حالها وقبح عند ذلك دلالها ، فان جاءت بولده أحمقت . وان أنجبت فمن خطأ ما أنجبت . فاطو ذكر هذا عنی ولا نسمه على بعد ! .. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العقيلة رانی ! لأخلاق مثل هذا الموافقة ، فزوجنيه » و نحن هذا رأى المرأة النجيبة في زمان عمر ، ولو شئنا لحسبناه رأيها في كل زمان على أن تضمره بباطن القلب ولا تلقيه بطرف اللسان ، فان زادت خشونة العيش في بيت عمر على القدر الذي ترضاه المرأة فهي خشونة غير محقورة السبب ، لأنها لا تحسب على عمر و الزوج » من تحسب لعمر هو الرجل ، من ناحية اخرى : اذ من قلة القدرة على العيش ، وانما جاءت من كثرة القدرة على النفس ، وهی خليفة تعجب بها المرأة في الرجل الذي تكبره ، لأنها أقوى خلائق الرجولة فيه . ناحية حتى لم تأت من
* *
وليس لدينا بیان واف عن النساء اللائي تزوج بين عمر يعينا على التمييز بين سماتهن والبحث في المياسم الشخصية التي يتعدون فيها أو يختلفن ، ويجيز لنا أن نسيب في الكلام عن موقع كل منهن من تفا (1) العاقل . (۲) برع • (۳) البكر لم تمسس ، أو الحفزة الطويلة السكوت الخافضة الصوت المتسترة . (4) كريمة الحي . . [227](1) ذلك وأثرها في حياته ومبلغ حظوتها عنده وسبب هذه الحظوة في رأيه وشعوره ، وما يدل عليه جميع من نوازع فطرته وذوقه . فقد سكت التاريخ وسکت عمر عن كل بيان واف في هذا الباب ، فلم يبق لدينا منه الا اسماء وأعوام ونوادر مقتضبات ، لا تساعدنا على تكوين سمات واضحات فضلا عن التفرقة بين تلك السمات غير أننا نعتقد أن التاريخ لم ينقدنا شيئا كثيرا في هذا الباب لأننا مستطيعون أن تعوض ما فقدناه بالقياس الى ما عرفناه ، فلا نخطىء اذا رجحنا أن سمات هؤلاء النساء جميعا تدخل في نطاق الوصف الذي كان يستحبة عمر في المرأة ولا يطيق منها أن تخالفه وتخرج عليه فأفضل ما كان يشرطه في المرأة أن تكون ولودا ودودا وألا تعاب بالحمق فيسرى حمقها في دماء وليدها ، اذ د لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر الا خرج مائقا ، كما قال أما ذوق الجمال فقد كان عمر فيه فيه كما كان في جميع خلائقه عريا بحتا يستملح ما يستملحه کل عربی صميم ويستحسن الحسن عنده وهو أعم من الملاحة ، ويروى عنه أنه قال : « تزوجها سمراء ذلفاء عيناه ، قان. فركتها فعلی صداقها ». وانه قال : و تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها . وهذان هما الملاحة والحسن كما وصفا في الشعر العربي من قديم الى حديث ومن القليل الذي بقي لدينا من اخبار نسائه تعلم انه كان موفور الحظ هذا الجمال في الزوجات . فقد وصف أكثرهن بالحسن البارع وضرب المثل بملاحة احداهن بين نساء قريش وهي قرية بنت أبي أمية ابن المغيرة . فروى في مأثور الحديث الشريف أن سعد عبادة قال يوما في حضرة النبي عليه السلام : ما رأينا نساء قریش ما كان يذكر من جمالهن !.. فقال له عليه السلام : « هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة } هل رأيت قريبة 3 احدى زوجات عمر قبل اسلامه أن جميلة بنت ثابت سميت بهذا الاسم لجمالها ، وكان اسمها (1) أي نزلتها . (۲) أي غبيا احمق ۰ (۳) أي صرفا ، (4) اي صغيرة الانف ، مستوية الارنبة • (0) أي أبغضتها • 6 اذا من من
. وهي وروی سعيد . . [228]۲۳. في الجاهلية عاصية فكرهته بعد اسلامها وسألت عمر ثم سألت النبي في تغييره فاتفقا على تسميتها بوصفها ، ونوديت بعد ذلك باسم جميلة . عاتكة بنت زید بن عمر بن نفيل أنها أعطيت شطر الحسن وروي عن مع ما رزقته من الفصاحة والتقوى وروى مثل ذلك عن زوجات أخريات ، وان لم يتفوقن هذا التفوق پا المشهور .. ما فیفا المرأة غير صبور 6 (۳). 6 أخبار زوجاته أنه طلق اثنتين من أشهر نسائه بالجمال وهما قريبة وجميلة تزوج بالأولى وطلقها قبل اسلامه . وتزوج بالثانية وطلقها بعد اسلامه ، ولا ندري على التحقيق تطليق هاتين الزوجتين الجميلتين ، فهل هو دلال الجمال ضاق به صدر عمر وهو على شموس .. لعله ذاك ، ولعل الذي أبقى عاتكة بنت زيد في عصمته أنها تجاوزت دلال الصغر حین بني بها ، أو غضت دلالها بالفطنة والتقوى . وكذلك بقيت في عصمته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي جميلة صغيرة ، وولدت له ابنا سماه باسم أخيه زيد الذي كان يحبه ويذكره ريطيل البكاء عليه ، وأعزها عنده النسب والأدب والمحافظة على آصرة") النبوة ، فلم يفترقا في الحياة ، ولم ينشب بينهما خلاف الا حين جاءتها فضمها الى بيت المال وله مع احدى أولئك الزوجات قصة صغيرة لا يفوتنا ایرادها في الكلام على حياته الخاصة لأنها كثيرة الدلالات عليه : تدل في أبوته ، في سورة طيعة، وتدل على عمر في مثوبته إلى الحق كلما أن ثوب اليه فقد طلق جميلة وله منها ولد صغير . فراه يوما يلعب مع الصبيان فحمله بين يديه ، فأدركته جداه الشموس بنت أبي عامر وجعلت تنازعه اياه حتى انتهيا إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو خليفة . فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها فهي حاضنته ، فرده اليها ولم يراجعه بكلمة (1) الشموس : صعوبة الخلق • (۲) الفطنة : الفهم . (۳) أي رابطة • (4) أي حدته . (5) أي رجوعه ۰ الهدية من مكة الروم علیره MC وتدل على عمر 2 1 [229]عمر رفيها عمر من ولعمري ان في هذه القصة الصغيرة من الدلالة عليه لما يغني عن قصص ، وفيها انسان عطوف ، وفيها عمر رجل سوار الطبيعة ، صاحب خلق مكين يكبح من طبيعته كل سورة جاوزت حد العدل والإنصاف ، وهذا هو عمر في شتى نواحيه ، وقد تدل هذه القصة على شيء يبرد من بعض اللوم في تطلیقه أم هذا الولد ، فاسمها عاصية واسم أمها الشموس ، وكأنهما - كما ينبیء عنهما هذان الاسمان - من أسرة تباهي بدلال بناتها وشموسهن وتختار لهن الأسماء ما يدل على هذه الخصلة ، وقد يضيف الى توكيد هذه الخصلة فيهن أن عاصية غضبت حين اختار لها اسم جميلة وقالت له : سميتني باسم الاماء ! .. ثم اختار لها النبي هذا ، فقالت : يا رسول الله !.. أتيته عمر فسماني جميلة فغضبت ، قال عليه السلام : أو ما علمت أن الله عز وجل عند لسان عمر وقلبه . فكأنها نشأت في قوم يعتقدون أن التحسين والترغيب انما هو من شأن الاسماء ، وان الشموس والعصيان أليق بالحرائر وان أحببن أزواجهن وأحبوهن ، فان كان في تطليقها مأخذ على فقد يكون فيه ماخذ عليها تفسر لنا افتراقها بعد ما أحبها وأحبته عمر الاسم 6 عمر
(۱) 131 ورزق عمر الذرية من ذكور واناث نجباء" ونجيبات ، فقرت عينه بهم لأنه كان كاهل البداوة كافة يستكثر من الذرية ويوصي الناس أن يستكثروا منها ، وكانوا جميعا عنده بمكان الحب والمودة لا يخشی الانحراف عن العدل من جانب كما يخشاه من جانب هذه الذرية أو جانب أهله على التعميم ، ولهذا كان يجمعهم نهي الناس عن حوزة حق من الحقوق فيبلغهم أنه قد نهى عنه ويذكرهم « إن الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم » ويقسم لهم لئن فعله أحد منهم ليضاعفن عليه العقوبة ! وليس بنا أن نحصي فتاواه وأقضيته في محاسبة أهله أو محاسبة أبنائه (۱) النجيب : الكريم [230]() من عمر
. . ما خاصة قبل سائر أهله . فذلك عمل له لم ينقطع عنه طوال حياته ، ولكنا نكتفي بمثل من أمثال عديدة متواترة وهو قضاؤه في اتجار أبنائه بمال من بيت مال المسلمين ، وذاك أن ابنيه عبد الله وعبيد الله خرجا في جيش الى العراق ، فلما قفل نزلا بالبصرة وذهبا الى أبي موسى الأشعري وهو أميرها ، فقال لهما : لو أقدر على أمر أنفعكما به { .. ثم عرض عليهما ان يحملا الى أبيهما مالا مال الله فيشتريا به متاعا العراق يبيعانه بالمدينة ، ثم يؤدیان رأس المال ويكون لهما الريح . فلما علم سألهما أكل الجيش أسلفه .. ثم أمرهما أن يؤديا المال وربحه ... فسكت عبد الله وقال عبيد الله : ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا . لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه ! وقال رجل في المجلس : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا .. فأخذ رأس المال ونصفه ربحه ، وأخذ أبناه نصف المال وانما كان عمر يتقی محاباة الولاة لأبنائه وذويه واقرار هذه المحاباة باذنه ، ولكنه كان يقترض من بیت المال ليتجر ويربح أهله ، ويلجا الى التجارة لقلة رزقه الذي فرضه لنفسه من پیت مال المسلمين ، وقد فرض رزقه لنفسه بعد مشاورة أصحاب رسول الله فقال عثمان : كل واطعم ، وقال علي : ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف ، وقال هو : أن افتقرت أكلت بالمعروف وان أيسرت قضيت وكان يقترض فيعسر فيتأخر قضاؤه ، فيأتيه صاحب بیت المال ويشتد في تقاضيه ، فيحتال له عمر ويؤجله الى أن يستحق عطاءه المسلمين ، فيسد به دینه . ومع هذا كان يشفق أن يقترض من بيت المال الا أن يتعذر عليه الاقتراض من بعض صحبه ، فأرسل مرة الى عبد الرحمن بن عوف في طلب أربعة آلاف درهم يجهز بها عيرا الى الشام ، فعاد الرسول يقول له : خذها من بیت المال ثم ردها ! .. وشق ذلك عليه فلقى صاحبه وعلم منه صدق ما بلغه فقال : أفشن مت قبل أن تجيء قلتم أخذها أمير المؤمنين (۱) قفلا : أي رجعا يعيش به في 4
. [231]۲۲۲س أخذها محمد عمر من دعوها له وأوخذ القيامة .. و لا .. ولكني أردت أن آخذها من رجل حريص شحيح مثلك ، فان مت وحدث ما توقعه من مجيء الأجل قبل سداد ديونه جميعا فلم يشغله الموت ولا شغلته كبار الخطوب التي يضطلع بتصريفها قبل موته أن يسال عن ديونه ويوصي بسدادها من ماله ومال أهله وقال لابنه : و ان وفي أي بالدين - مال آل فأده أموالهم ، والا فاسأل فيه بنی عدی ، فان لم تف أموالهم فاسأل فيه قريشا ولا تعدهم الى غيرهم ، وكان عبد الرحمن بن عوف حاضرا فأشار عليه مقترحا أن يستقرضها من بیت المال حتى تؤدى فلم يقبل عمر ، ودعا بابنه عبد الله فقال : اضمنها ! فضمنها ، ووفي بوعده فلم يدفن أبوه حتى أشهد بها على نفسه أهل الشورى وعدة من الأنصار ، وما انقضى أسبوع حتى حمل المال الى عثمان ، وأحضر الشهود على البراءة بدفعه . وقد بیعت لعمر دار في هذا الذين وسميت زمنا باسم دار القضاء ، لأنها بيعت في قضاء دينه مدينا ، وفي الدين ، لهو أعظم الشرفين وأيسر ذلك شرفا أن يموت غنيا بغیر دین
ولأن يموت عمر (۱) شحيح : أي ممسك بخيل حريص
. - عبقرية عمر
تصنيف:
عبقرية عمر
===============
صورة مجملة
عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/صورة مجملة
[232]صورة بحملة . صحبنا عمر بن الخطاب في حالات كثيرة تختلف فيها صور الرجال .. صحبناه في جاهليته واسلامه ، وفي سره وعلانيته ، وفي بيته وحكومته ، وفي دينه وثقافته ، وفي اتصاله بالله واتصاله بالناس . فاذا الصورة المجملة هذه الصور المختلفة صورة رجل عظيم من معدن العبقرية والامتياز بين الناس على اختلاف العصور . واذا هو صاحب مناقب .وأخلاق من أنبل الصفات الإنسانية توافقت فيه على قوة نادرة وتلاقت فيه الى غاية واحدة : وهي احقاق الحق وادحاض الباطل ، ووسمته جميعا بسمة الجندية المجاهدة التي تحمي الحدود للناس وتحميها من الناس ، وهو هو في طليعة من يحمي وفي طليعة من يحتمي على السواء ورسخت في طويته خليقة المساواة في العدل حتى أصبحت كالوظيفة العضوية التي لا تنفصل منه ، وحتى أصبح يتجرد من نفسه أو يجرد منها شخصا آخر غريبا عنه لا فرق بينه وبين أحد في حدود الله وحرماته ، وتمكنت هذه الخليقة منه حتى جرت على لسانه عامدا وغير عامد ، فكان يتكلم عن تفسيه كا يتكلم عن غريب : بخ بخ ياعمر !.. ويحك يا ابن الخطاب ! ماذا يقول عمر .. وهذا فلان وليس بغلان ولدی الى أشباه هذه التجريدات التي تنبعث فيه من خليقة التسوية بين جميع الناس ، وبينهم وبين نفسه قبل وكانت فيه خشونة الأقوياء الصرحاء ، ولكنه كما قال عارفوه من الصحابة : « بالنه خير من ظاهره ، أو كما قال فيه الصديق من فحواه : « أن مبغضيه هم المبغضون للخير ) وكان له محبون من كرام الناس لا يعدلون بحبه حب أحد امثاله اله بن مسعود يقول : « لو أعلم . هب كليا لأحبته ، (1) أي أبطال •
بن عمر الناس کلام فكان عبد عمر کان . [233](۲)
عن والله اني لأحسب العضاه ) قد وجدت فقد عمر : والغالب في امثال عمر من أصحاب الطبائع القوية المهيبة أن تحجب عنهم الهيبة ألفة الغرباء الذين لا يختلطون بهم في السر والعلانية ، بل تحجب عنهم ألفة الأقربين في كثير من الأحيان ، لأنهم من تفردهم بالصراحة والحق في عزلة دائمة بين ألصق الناس بهم وأقربهم اليهم : أعاذك أنس المجد من كل وحشة فانك في هذا الأنام غریب ولكنهم لا يكرهون الا خطا أو حسد لئيم . وكان عمر على التخصيص ممن لا يثيرون شعور الكراهية في قلب انسان : لأنه كان على عظم د شخصيته ، مبرا من العنصر الشخصي ، في معاملة الأصدقاء والخصوم . وانما ينجم العداء الشديد من الاحساس بهذا « العنصر الشخصي ، ومقابلته بمثله مقابلة اصطدام وانتقام... فالذين كانوا يذوقون انصاف عمر كانوا يستمرئونه ويحبونه ، والذين كانوا يذوقون عقابه كانوا لا يشعرون بعمر بن الخطاب معاقبا لهم الا عليهم ، وانما يشعرون بميزان الشريعة منصوبا على رؤوسهم . يتساوون فيه وعمر وأبناء عمر لو وجب العقاب . فلا موضع هنا للضغينة ولا لاصطدام النفس بالنفس واحتدام الحزازة بالحزازة . ولهذه الخصلة ذكره بالحب والاعجاب من ابتلوا بعدله أشد ابتلاء ، وانطبعت نفوسهم على الدهاء أو الهجاء . فعمرو بن العاص ومعاوية كانا يثنيان عليه وشد ما ابتليا في حياته بضربات عدله وهيبته ، والحطيئة أهجى الشعراء وأبخلهم بالثناء ، كان رفاقه يذكرونه اسم عمر بعد موته فيرتعب ثم يهدأ فيقول : ذلك المرء !.. وشى عليه ، وقد قال عمرو بن العاص اذ رأی عمر یبکی الاستعطاف الحطيئة إياه في سجنه : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء اعدل من رجل یکی علی ترکه الحطيئة ... وقد شاء القدر أن يموت عمر قتيلا فلا يكون قتله دليلا على بعضاء عضاهة : وهو شجر کبیر . (۲) أي حزنت له شوك (۳) أي يظهر • (4) من قولهم : مرا الطعام فهو مری، هنية حميد المغية . (5) الأرض [234]D هی هی ۱ عمر م شخصية » أو خلة ترتبط بحياته الفردية . فانما البغضاء و الوطنية » علة التآمر على قتله بين المغلوبين في ميدان القتال على التحقيق ، وهكذا كل بغضاء بقيت بعد موته مقرونة بذكراه فانما في أصلها د بغضاء وطنية » كامنة وراء الدعاوى الطائفية والمجادلات المذهبية ، وان تطاولت الأيام فالمعلوم أن عمر مات بطعنات من خنجر فيروز « أبي لؤلؤة » من سبايا الفرس بالمدينة ، وان فيروز هذا جاء عمر قبل مقتله بأيام فشكا اليه مولاه المغيرة بن شعبة لأنه فرض عليه خراجا درهمين في كل يوم ، فسأله عمر عن صناعته فأنبأه انه « نجار نقاش حداد » ... فلم يستكثر هذا الخراج على من يصنع هذه الأعمال ، وقال له : قد بلغني انك تقول : « لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت » وطلب اليه أن يصنع رحي على هذه الصفة ، فقال له : لئن سلمت لأعملن لك رحی يتحدث بها من المشرق والمغرب ... ثم انصرف وهو يقول : لا الناس عدله غيري !». فقال عمر السامعيه : لقد توعدني العبد آنفا ولم يؤاخذه بهذا الوعيد بل كان من نيته أن يلقي المغيرة ليخفف عن مولاه السبب الظاهر الذي لا يستر ما وراءه ، لأن « أبا لؤلؤة » لم يكن الا منفذا للكيد الذي اتفق عليه كثيرون ، وقد روى عبد الرحمن ابن أبي بكر أنه رأى هذا الرجل مع الهرمزان وجفينة قبل مقتل عمر جالسين يتحدثون ، فلما فاجأهم قاموا وقوفا فسقط رأسان نصابه في وسطه ، وهو الخنجر الذي حمله فيروز لقتل عمر وقتل نفسه أن أخذ بفعلته والهرمزان أمير زالت عنه الامارة بعد ذهاب الدولة المجوسية ، وجفينة من أهل الأنبار وهم على ولاء للفرس ، و « أبو لؤلؤة » فارسی شدید الحقد على المسلمين لم ينس أسره ولم يزل كلما جيء الى المدينة بأسرى من وقعات فارس مسح رؤوسهم وتوعد المسلمين أجمعين (۱) الخصلة • (۲) أي مستترة 0 .. هذا هو خنجر له [235]۲۳۷ . - اذا وقد شاركهم في هذه المؤامرة يهودی مغلوب تظاهر بالاسلام وهو المسمى بكعب الأحبار ، ولعله أراد أن يكسب سمعة العلم بالأسرار من علمه بالمؤامرة ، فذهب إلى عمر قبل ثلاثة أيام من مقتله ينذره أن يختار ولي عهده لأنه ميت في ثلاثة أيام ... فسأله عمر : وما يدريك { .. قال : أجده في كتاب الله التوراة . فلم تجز هذه الدعوة على عمر ، وعاد ساله : « الله !.. انك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة ، فأشفق) الرجل أن ينكشف دجله وقال : « بل أجد صفتك وحليتك وانه قد فني أجلك .. ثم كرر له النذير مرتين في اليومين التاليين فعمر انما ذهب رحمه الله شهید مؤامرة من أعداء الدولة الاسلامية لا شك فيها، وما كانت قصة الخراج الا الستار الذي يتواری به المتأمرون بالمدينة والبلاد الأخرى مخافة القصاص الذي يحيق بهم جهروا بما دبروه ، أو جهروا بالعلة التي من أجلها تربصوا بذلك التدبير أحرى أن يعد جزءا من أكبر اجزاء سيرته ولا يحسب تلك السيرة دون أن تضيف اليها ... فقد تمثلت في مقتله مزاياه الكبار التي تمثلت في جلال أعماله وعظائم مساعيه وخصاله ، فكان عمر الصريع قدوة في الشجاعة وتقديم الواجب والايثار على النفس ومحاسبة الضمير وسداد التدبير ، كما كان عمر في أصح ساعاته وأسلمها للعمل والتفكير وكان رضي الله عنه ينظر الى الحياة كأنها رسالة تؤدي ما استطيع أداؤها ثم لا معنى لها إذا فرغ من رسالتها أو حيل بينه وبين أدائها ، فبعد الحجة التي مات على أثرها أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من البطحاء القي عليها طرف ردائه واستلقي عليها ورفع يديه إلى السماء ، ودعا الله : « اللهم كبرت سني وضعفت قوتی ، وانتشرت رعیتی ، فاقبضني اليك غير مضيع ولا مفرط ، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ، واجعل موتی في بلد رسولك » مضت أسابيع فخرج يوما قبيل الفجر يوقظ الناس ثم يسوى (۱) أي خاف . (۲) ينزل ان مقتل عمر نهاية تختم [236]بل ست طعنات .. اد و 4. .. و و الصفوف للصلاة ، فلم يكد يوم الناس حتى فاجاه القاتل بطعنتين احداهما في كتفه ، والأخرى في خاصرته ، وقيل ثلاث طعنات .. احداهن تحت السرة ، وقد خرقت الصفاقي قضى بها نحبه" رحمه الله . وقيل : منها تلك الطعنة القاتلة فلم تشغله هذه الطعنات المفاجئات عن الصلاة ، ولم يفكر أن يشغل المسلمين بمقتله عن أداء فريضتهم موعدها وسأل عن عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس ثم جعل يغمى عليه ولا ينتبه اذا دعوه . حتى قال بعض عارفيه : انکم لن تفزعوه بشيء مثل الصلاة ان كانت به حياة .. فنودی : الصلاة الصلاة ! فلما النداء فتح عينيه وفاه بكلمات متقطعات : و الصلاة .. ها اذن .. » ثم قال : « لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ... » ولم يهمه من قتله بعد أن حمل إلى منزله الا ان يعرف : ألمظلمة كان قتله أم لبني من القاتل ? فلما علم أنه أبو لؤلؤة قال : ولم قاتله الله وقد أمرت به معروفا .. ثم حمد الله قائلا : « الحمد لله الذي لم يجعل قاتلی بحاجى عند الله بسجدة سجدها له قط .. ما كانت العرب لتقتلنيه وهمه بعد ذلك أن يلقى حسابه عند الناس وهو وشيك أن يلقي حسابه عند الله . فأمر ابن عباس أن يخرج الى المهاجرين والأنه بسألهم : أعن ملا منكم ومشورة كان هذا الذي أصابني ؟ .. فصاحوا معلنين : « لا والله .. ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا » واشتد البكاء كان الناس لم يصابوا بمصيبة قبلها ، عليه . ثم سقوه نقيع التمر فخرج من الجرح أحمر كما هو فلم يعرفوا ادم هو ام النقيع خرج بلونه .. فسقوه اللبن فخرج أبيض يشوبه صديد ، فأشار عليه الطبيب أن يعهد فقال : «لو قلت غير هذا كذبتك» وكان قد أنكر على الناس أن يجينوه بالطبيب قبل أن يفرغ من وصاياه : ويحكم أيها الناس أأنظر في أمر نفسي قبل أن أنظر في أمور (1) الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر ، أو ما بين الجلد والمصران ، أو جلد البطن كله . (۲) المدة والوقت ، والمراد هنا : الأصل . (3) أي يخالطه . . فنهاهم أن يبكوا (۲) [237]-۲۳-
ده المسلمين } فلما قال الطبيب مقالته أخذ في تدبير المهم من شؤون الدولة وأولها الخلافة ، فجعلها شوري ليستقر بها القرار ما استطيع اقراره ، ونجا بأهله منها وهو يقول : « ... اما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلى ، وان نجوت كنافا لا وزر ولا اجر اني لسعيد » وهو في هذا كله لا يخالف دیدنه " من صراحة ولا يكتم طبيعة أهل الفناء من حي الحياة ، ولا يخفى و أن للحياة لنصيبا من القلب وان للموت لكرية !» ولكنها لم تمنعه قط أن يعطي الحق حيث وجب للموت او للحياة فلما فرغ من شؤون الدولة نظر في أمر دينه فأبى أن يدفن قبل أن يضمن سداده ، وأقبل يطمئن الى مضجعه في جوار صاحبيه وقد فرغ من حقوق الدنيا. فدعا بابنه عبد الله ينطلق الى عائشة أم المؤمنين ويقرئها منه السلام ... ونهاه أن يسميه عندها أمير المؤمنين ، لأنه ليس اليوم للمؤمنين أميرا ... ثم يستأذنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه ، یعنی النبي عليه السلام وخليفته الصديق ووجدها عبد الله تبکی فسلم عليها ، واستأذنها فأذنت وقالت : كنت أريده لنفسي ، ولاوثرنه به اليوم على نفسي ! .. فلم يكفه هذا حتى يستوثق كل الاستيثاق من رضاها ، فعاد يخاطب ابنه : « يا عبد الله بن عمر ! .. انظر ، فاذا أنا قبضت فاحملوني على سريري ثم قف على الباب . فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فان أذلت الي فأدخلني ، وان ردتني فردني الى مقابر المسلمين ، فاني أخشى أن يكون اذنها لي لمكان السلطان » قال شهود دفنه : « فلما حمل ، فكان المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا وفارق الدنيا أعدل العادلين وهو مظلوم أو متهم بظلم ، فما دلها شيء على عظم فضله ولا عظم الحاجة الى العدل فيها كما دلها هذا الختام . . 6 يومئذ » .. (1) الداب والعادة • (۲) الشدة • (۳) أي يتأكد • .
تصنيف:
عبقرية عمر